ما أكثر من حملوا أرواحهم على أكفهم من أبناء الرافدين عندما شعروا بمؤامرات الأعداء وشخصوا ما يحاك علنًا وخلف الكواليس، فتاجروا مع ربهم وباعوا الأرواح لأفضل مشتر لها: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة:111)، ومن بين أولئك الأبطال هو شهيدنا الغالي.
ولد في محافظة البصرة، قضاء المدينة عام 1940م في أسرة مؤمنة تنحدر من عشيرة السوّاد.
أكمل الدراسة الابتدائية والمتوسطة في مدارس قضاء المدينة ثم الثانوية في إعدادية الثوار المسائية في العشار، وعمل موظفًا في وزارة التجارة في مستودعات الدقيق — سايلو البصرة.
تزوج من امرأة مؤمنة رزق منها ولدين وأربع بنات، لكنه لم ينعم بالعيش معهم، فقد أجبر بالانخراط في صفوف الجيش الشعبي، وأدخل في قادسية العار والحرب الظالمة التي شنها صدام المقبور على الجمهورية الإسلامية، مع عشرات الآلاف من أبناء الرافدين، لأن جزاء من كان يرفض الاشتراك، الإعدام رميًا بالرصاص واعتقال أسرته.
زج أبو عبدالملك شمال مدينة المحمرة بتاريخ 02/05/1982م، ولم يلبث طويلًا لأنه أسر بتاريخ 23/5/1982م ففرح لأنه لم يلطخ يده بدم مسلم على الرغم من فراق الأهل والأحبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ معسكرات الأسر ومرحلة إعداد النفس ــــــــــــــــــــــــــــــ
لم تكن معسكرات الأسر في الجمهورية الإسلامية سجونا يقضي فيها الأسرى حقبة زمنية إلى ان تتاح لهم فرصة العودة إلى بلدهم، بل كانت مدرسة خرّجت جيلًا من المؤمنين المجاهدين، لقد كانت جامعة حوزوية نهلت منها القلوب الظامئة لفقه وعلوم أهل البيت عليهمالسلام. ومن بين أولئك المؤمنين المجاهدين أبوعبدالملك، فقد وقع بدمه مع إخوته مطالبًا الجهات المسؤولة بالسماح له بالالتحاق بالمجاهدين من أبناء بدر.
طالت السنين ولم يصل إلى هدفه، ولكنه لم ييأس وبقي على إصراره واندفاعه حتى مَنّ الله عليه بالوصول إلى أمنيته ومبتغاه، وخرج من معسكر الأسر في الدورة الثالثة من دورات المتطوعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في معاقل المجاهدين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نعمة كبيرة منّ الله بها علينا ان كتب أسماءنا في سجل المجاهدين، ودخلنا باب الجهاد الذي فتحه الله لخاصة أوليائه( )،، تلك كلمات كان يرددها أبوعبدالملك ويشكر الله على ذلك فقد أصبح من مجاهدي بدر بتاريخ 21/07/1987م.
بعد دورة تدريبية في معسكر الحر الرياحي( ) كلف بواجبات جهادية واشترك في عمليات قتالية ضمن لواء حمزة، وكان آمر فصيل في فوج عمار بن ياسر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ على ربى حلبچة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت المحطة الأولى هي معركة حلبچة بتاريخ 11/03/1988م، التي انتصر فيها المجاهدون وسطروا أروع ملاحم البطولة ودمعت عيونهم فرحًا بالانتصار، ولكن سرعان ما تحولت دموع الفرح إلى حزن بعدما قصفت طائرات جناة التاريخ وأوباش حزب البعث تلك المدينة وأهلها الوادعين، فكانت مجزرة، ذكرت العالم بالقصف الهمجي الأمريكي لمدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين وكانت من أسوء صفحات صدام وأكثر أيامه دموية.
شارك أبوعبدالملك بإسعاف أهالي حلبچة الذين فر من نجا منهم إلى الجبال فلاحقتهم طائرات الجناة لتصب فوق رؤوسهم القنابل والصواريخ والغازات السامة، فسقط منهم شهداء، وأصيب آخرون بالعمى، وبقى آخرون يعانون من الغازات بقية حياتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ شاخ شميران… قمم الشموخ والشهادة ــــــــــــــــــــــــــــــ
انسحب أبوعبدالملك مع فوج عمار الذي قدّم القرابين في سبيل دينه ووطنه، ثم كلف للمشاركة في معركة شاخ شمران، فقد كان آمرًا ومربيًّا لفصيل في إحدى سرايا ذلك الفوج، فتقدم أبوعبدالملك بفصيله في هجوم مع بقية الأفواج، وسيطر على هدفه واستقر في إحدى الربايا وتعامل مع من وقع بيده من الأسرى بأخلاق الإسلام وأوامره، رغم أن العدو قد أحرق ثلاثة من المجاهدين وقعوا أسرى بيده ؛ فقد كان يوصي المجاهدين بإطعامهم ومعالجة جرحاهم، وكان يقول «ذلك هو الفرق بين المعسكرين—الحق والباطل»، ويردد قول الشاعر:
وحسبكم هذا التٔٔفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح
ثم دارت معارك عنيفة استمرت بضع أيام لمحاولة العدو الالتفاف ومحاصرة بعض القوات المتقدمة.
استمر أبوعبدالملك بالقتال، محرضًا المجاهدين عليه، حتى ساعة الرحيل، ساعة اللقاء بالمعشوق، الساعة التي يتحول فيها المجاهد إلى شهيد ليفوز برضوان الله تعالى، فسقط أبوعبدالملك شهيدًا على تلك الربى بتاريخ 15/04/1988م بعد ان أصيب بشظية في رأسه لتعرج روحه إلى أعلى عليين، وتكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشهيد على لسان رفاق دربه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 — قال عنه المجاهد جواد عبدالكاظم گزار الطائي من فوج الشهيد الصدر: كان الشهيد من الأحرار والأبطال الذين ضحوا بدمائهم في معسكرات الأسر، فقد كان يلقب بالشهيد الحي، لأن البعثيين كادوا يقتلوه في معسكر گرگان، ولكن الله نجاه منهم، وقد عفا عنهم ولم يعاقبهم رغم تمكنه من ذلك.
كان إمامًا لصلاة الجماعة في معسكر گرگان فقد كان يؤم قرابة خمسمائة مصليًّا، وكان معلمًا ومدرسًا للكثير من الدروس الروحية والفقهية والأخلاقية والعقائدية والقرآنية، وأثرت دروسه في هداية الكثير من الأسرى… وعرف بحسن معاملة الأسرى الذين وقعوا في يده، كذلك كان متعصبًا للحق لايداهن فيه.
ويضيف جواد الطائي « كان يعد إخوانه المجاهدين إعدادًا روحيًّا وأخلاقيًّا… في داخل المعسكر وخارجه، كما كان يربي نفسه تربية تأخذ بالسمو والرفعة، وكان حريصًا على مطالعة الكتب الفقهية، ويتصف بالشجاعة الفائقة.
2 — المجاهد جابر عبدالمحسن حمزة العامري من فوج الشهيد الصدر:
كان الشهيد محمد مرزوگ المكنى بأبيعبدالملك البدران مخلصًا في عمله، وكان مدرسًا لمادة الفقه في معسكرات الأسر وبعد خروجه إلى معسكرات المجاهدين كذلك كان يحرض إخوانه ويحثهم على الجهاد والالتزام بصلاة الليل.
من وصية الشهيد:
ولديّ عبدالملك وعبدالولي، أكتب وصيتي لكما وأنا صحيح البدن والأعضاء، ولا أعلم ما تؤول إليه حياتي، ولديّ ما كان بودي ان أفارقكم ولكن ظروفًا قاهرة أجبرتنا، وحالت بيني وبينكم، وحيث أنتما حدثان، لم تجربا الحياة، ولم تخبراها بحقيقتها، ومعكما أخواتكما ووالدتكما اللواتي هن أضعف منكما، ومن دافع حرصي عليكم واهتمامي بكم لزمني ان أنصح لكم وأرشدكم إلى ما فيه خير… شاء الله لكم ان تتولوا إصلاح أنفسكم بأنفسكم حيث خرج عن قدرتي ان استمر بنصحي لكم عمليًّا لانظريًّا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
… كما أوصيك — عبدالملك— في الأمور أوصي عبدالولي بها أيضًا، كونا أخوين متحابين في الله متراحمين يحترم أحدكما الآخر ويسترشد أحدكما بالآخر…
… جاهد نفسك فإن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، واكبح رغباتها إذا كانت رغباتها في معصية الله، واجبرها على طاعة الله حتى ولو أبت…
وعليك بمداراة الناس والتعامل معهم بالأخلاق، والتعاون معهم على حب الله وفي سبيل الله… وكن تقيًّا فإن خير الزاد التقوى، وكن عاقلًا فإن العقل ما عُبد به الرحمن، وكن متعلمًا وعالمًا ومجاهدًا فإن الأفضلية عند الله في ثلاث:
التقوى كما قال تعالى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية13).
العلم كما قال تعالى ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لايَعْلَمُونَ﴾(الزمر: من الآية9).
الجهاد كما قال تعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: من الآية95).
أوصي إن وفقني الله للاستشهاد واختارني إلى جواره ان يكون دفن جثماني بجوار سيدي علي بن موسى الرضا عليهالسلام.
شيع ودفن في مدينة مشهد المقدسة كما أوصى.
سلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيًّا