الرئيسية / بحوث اسلامية / السعادة في لقاء الإمام المهدي (عليه السلام)

السعادة في لقاء الإمام المهدي (عليه السلام)

المحاضرة الأولى: السعادة في لقاء الإمام المهدي (عليه السلام) – السيد منير الخبار 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:

(بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (هود: 86).

أفاد السيّد الطبطبائي (قدس سره) في الميزان أنَّ المقصود من (بَقِيَّتُ اللَّهِ) في الآية المباركة الربح الذي يدخل على الإنسان إذا أجرى المعاملة كأن باع شيئاً بربح، واستدلَّ على ذلك بالسياق حيث إنَّ الآية وردت في سياق كلام شعيب (عليه السلام) مع قومه، حيث قال: (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَْرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (هود: 85 و86)، ولكن الصحيح أنَّ (بَقِيَّتُ اللَّهِ) هو المظهر الباقي لله تبارك وتعالى، وهو ما ينطبق على الإمام المنتظر (عليه السلام) لوجهين:

الوجه الأولى: أنَّ الرواية وردت بذلك، في الكافي عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سأله رجل عن القائم يسلَّم عليه بإمرة المؤمنين؟

قال: (لا، ذاك اسم سمّى الله به أمير المؤمنين (عليه السلام)، لم يسمّ به أحد قبله ولا يتسمّى به بعده إلاَّ كافر).

قلت: جُعلت فداك كيف يسلَّم عليه؟

قال: (يقولون: السلام عليك يا بقيّة الله)، ثمّ قرأ: ((بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ))(1).

فالمراد ببقيّة الله هو الإمام المنتظر لأنَّه المظهر الباقي لله، إذ كلّ إمام وكلّ نبيّ هو مظهر لله، لكن المظهر قد يكون انتقل إلى الملأ الأعلى بالوفاة، فهم مظهر قد انقضى، وهناك مظهر ما زال باقياً إلى أن تقوم الساعة وهو المعبَّر عنه (بَقِيَّتُ اللَّهِ)، وهذا ينطبق على الإمام الحجّة (عليه السلام).

الوجه الثاني: أنَّ الشرط في الآية يؤكّد ذلك، فلو كان المراد من (بَقِيَّتُ اللَّهِ) هو الربح الذي يدخل في جيب الإنسان إذا باع بربح فلا معنى لاشتراطه بالإيمان، إذ الربح خير للمؤمن وللكافر ولا يختصُّ بالمؤمن، بينما الآية جعلت (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ) لخصوص المؤمنين (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وهذا لا ينطبق إلاَّ على ملجأ المؤمنين وملاذ المؤمنين الإمام الحجّة (عليه السلام) فهو الخير الذي يكون مشروطاً بالإيمان والصلاح.

فالآية تتحدَّث عن الإمام الحجّة، وورودها في سياق الآيات التي تتحدَّث عن شعيب وقومه لا ينافي عمومها وسعتها لغير زمان شعيب، بل لجميع الأزمنة فإنَّ الغرض منها خطاب للمؤمنين في كلّ زمان وإن جاءت بلسان خطاب شعيب لقومه.

والحديث عن الإمام الحجّة (عليه السلام) ينفتح على ثلاثة محاور:

المحور الأوّل: كيفية التعامل مع قضيّة الإمام المنتظر (عليه السلام):

هناك اتّجاهان: اتّجاه مادي، واتّجاه روحي.

الاتّجاه المادي: هو الذي يتعامل مع الإمام المنتظر كإنسان غائب ينتظر قدومه ومسافر ينتظر مجيؤه، لذلك ترى كثيراً من الشيعة وكثيراً من الأقلام وكثيراً من المتحدّثين يركّزون على القضايا المادية, وعلامات الظهور، وشكل الإمام وشكل سيفه ودرعه ولباسه وخاتمه، هذا التركيز على القضايا المادية يعبّر عن (اتّجاه مادي) وهو أنَّ الإمام جسد غاب عن الأنظار ومسافر غاب عن الأعين يرتجى قدومه يوماً من الأيّام، لذلك لا بدَّ أن نبحث عن علامات قدومه وعلامات مجيئه حتَّى نميّزه عن غيره.

وهناك اتّجاه آخر وهو الاتّجاه الروحي: وهذا الاتّجاه ينطلق من رؤية أنَّ الإمام حاضر وليس بغائب، نعم أنَّ الإمام كسائر الناس له جسد مكوَّن من دم ولحم، ولكن ليست الإمامة منوطة بجسده الغائب، بل الإمامة مجموعة من القيم والمبادئ والمُثل، وهذه المبادئ حاضرة وقائمة وفاعلة وليست غائبة، فالإمام بمبادئه, والإمام بمُثله، والإمام بقيمه، وليس الإمام بجسده المادي فقط.

وبما أنَّ الإمامة مجموعة من القيم والمُثُل، إذن فالإمام حاضر وليس بغائب، لأنَّ هذه المبادئ حاضرة وفاعلة، فعلينا أن نتعامل مع الإمام كحاضر لا أن نتعامل مع الإمام كغائب.

وهذه المبادئ هي التي تقرّرها الآية المباركة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110)، وقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 104)، هذه هي مفهوم الإمام, فإنَّ الإمام أمر بمعروف ونهي عن منكر، والإمام دعوة إلى الخير، وهذه المبادئ الحيّة النشطة المتجدّدة هي الإمام الحجّة، ونحن نتفاعل مع هذه المبادئ تفاعلاً حضورياً لا تفاعلاً غيابياً، ولا يعني هذا أن نستخفّ بالعلامات المرتبطة بالظهور فقد ذكرت لنا علامات، مثلاً:

ورد في رواية عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة, والسفياني, والخسف, وقتل النفس الزكية _ بين الركن والمقام _(2)، واليماني)(3)، هذه خمس علامات.

وفي معتبرة عبد الله بن سنان (أنَّ جميعها محتوم)(4)، بمعنى لا بدَّ من حصوله.

وفي رواية أبي بصير: (وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى، لأنَّه يدعو إلى صاحبكم)(5).

إذن وجود علامات للإمام المنتظر (عليه السلام) أمر لا يمكن إنكاره، وهذه العلامات ستقع قبل خروجه، وذكرها أهل البيت (عليهم السلام) من أجل رفع اللبس عن خروجه ووقت خروجه، لكن لا ينبغي أن نركّز على العلامات ونهمل المبادئ, فإنَّ الإمام هو المبادئ وليس هو هذه العلامات, فهذه العلامات سواء تمَّت أو لم تتمّ فإنَّ علينا أن نتعامل مع الإمام كحاضر فاعل.

والخلاصة أنَّ التركيز في الحديث عن علامات الظهور وصفات شخص الإمام وصفات لباس الإمام يعبّر عن اتّجاه مادي يحصر الإمامة في الجسد الذي لا تراه الأعين مع أنَّ الإمامة بمبادئ حاضرة وفاعلة.

المحور الثاني: هل الهدف لقاء الإمام (عليه السلام)؟

لا إشكال أنَّ الهدف الأسمى والسعادة الكبرى هي في التشرّف بلقاء الإمام الحجّة (عليه السلام) ولكن حتَّى نفهم هذه النقطة جيّداً فهناك ثلاثة أسئلة نطرحها ونجيب عنها:

السؤال الأوّل: هل من الممكن لقاء الإمام (عليه السلام) أم لا؟

ربَّما يقول شخص بأنَّ لقاء الإمام باب مسدود مغلق، لما رواه الشيخ الصدوق في كتابه (كمال الدين)، والشيخ الطوسي في كتابه (الغيبة)، عن الحسن بن أحمد المكتَّب (رضي الله عنه) _ كان من أجلاّء علماء الإماميّة _، يقول في آخر سنة وفي آخر شهر من حياة السفير الرابع وهو (علي بن محمّد السمري) آخر سفراء الإمام المنتظر خرج إليه توقيع من الإمام المنتظر (عليه السلام):

(بـِسْم اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيم، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُريَّ أعْظَمَ اللهُ أجْرَ إِخْوَانـِكَ فِيكَ، فَإنَّكَ مَيَّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أيَّام فَأجْمِعْ أمْرَكَ وَلاَ تُوص إِلَى أحَدٍ يَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ التَّامَّةُ فَلاَ ظُهُورَ إِلاَّ بَعْدَ إِذْن اللهِ عز وجل وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأمَدِ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَامْتِلاَءِ الأرْض جَوْراً، وَسَيَأتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ ألاَ فَمَن ادَّعَى الْمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوج السُّفْيَانِيّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَلِيّ الْعَظِيم)(6), حيث يستفاد منه أنَّ لقاء الإمام ممتنع لأنَّه يقول: (من ادَّعى المشاهدة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله).

الجواب: الأمر ليس كذلك لعدّة أمور:

الأمر الأوّل: إنَّ غيبة الإمام ليست غيبة انعزالية وإنَّما هي غيبة اتّصالية بمعنى أنَّ الإمام ليس غائباً عن المجتمع ويعيش في جبل أو في جزيرة أو في مكان وحده، لا، ليس الأمر كذلك، فغيبة الإمام غيبة اتّصالية، بمعنى أنَّ الغائب عنوانه لا شخصه، فهو يعيش مع الناس، يأكل معهم، يشرب معهم، وقد يتزوَّج، هو بين ظهرانينا لكنّا لا نعرف عنوانه، فغيبته غيبة اتّصالية وليست غيبة انعزالية، ولذلك نقرأ في دعاء الندبة: (بِنَفْسِي أنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا، بِنَفْسِي أنْتَ مِنْ نَازِح مَا نَزَحَ عَنَّا، بِنَفْسِي أنْتَ اُمْنِيَّةُ شَائِقٍ يَتَمَنَّى مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ذَكَرَا فَحَنَّا)(7), إذن غيبته هي غيبة عنوان لا غيبة شخص فهو متَّصل بنا يعيش معنا، ولذلك فإنَّ لقائه أمر ممكن جدَّاً وأمر متيسّر إذا أراد الإمام ذلك فإنَّ بيده تحديد اللقاء وليس بأيدينا.

الأمر الثاني: تواتر لدى الشيعة الإماميّة لقاء الإمام مع كثير من العلماء بنحو يورث القطع واليقين بأنَّ لقائه ممكن وليس باباً مغلقاً ولا مسدود(8).

الأمر الثالث: هذا التوقيع الشريف الذي قال: (ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله)، يتحدَّث عن السفارة لا عن اللقاء، فالممتنع هو السفارة بمعنى أنَّه بعد السفير الرابع لا توجد سفارة إلى أن يخرج الإمام ويظهر ظهوراً تامّاً، فالمغلق هو السفارة لا اللقاء، والقرينة على ذلك سياق الرواية لأنَّها تتكلَّم عن كتاب إلى سفير الإمام تقول: أنت آخر سفير ولا توص لأحد من بعدك، قد وقعت الغيبة التامّة، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة بمعنى (من يدَّعي السفارة)، فمن ادّعى المشاهدة يعني السفارة فهو كاذب مفتر, والسفير يختلف عن الإنسان العادي، فإنَّ المواطن يعرف بعض أخبار الدولة لكن سفيرها يعرف أسرارها ويعرف سياستها الداخلية والخارجية ويناط به البحث في قضايا مصيرية وخطيرة.

والإمام المنتظر يقول: (لا سفير لي بعد السفير الرابع) يعني لا أبعث للأمّة سفيراً يعرف أسراري ويبلغ الأمّة القضايا المصيرية والخطيرة فهذا باب مسدود، أمَّا أن يلتقي الإنسان بالإمام ويستنير بأنواره وبإرشاداته فهو أمر ممكن وليست سفارة حتَّى ينفيها هذا الحديث.

وإن كان الإمام (عليه السلام) لا يبذل لقائه لكلّ أحد، بل هو الذي يختار من يلتقي به لمصلحة عامّة أو خاصّة، وإلاَّ لو بذل الإمام لقائه لأيّ شخص لكان ذلك خلاف الحكمة أي نقضاً للغرض من هذا اللقاء، لأنَّه (عليه السلام) لا يلتقي بشخص إلاَّ لأجل مصلحة عامّة أو خاصّة تقتضي هذا اللقاء، فلا بدَّ أن يكون الملاقي أهلاً لهذا اللقاء ولتحقيق هذه المصلحة العامّة أو الخاصّة.

السؤال الثاني: ما هي طبيعة لقاء الإمام (عليه السلام)؟

لقاء الإمام هو لقاء الله لأنَّ الإمام مظهر لله، فلقاء الإمام يعني لقاء الله عز وجل.

وهو لقاء الفناء لا لقاء الارتباط كما يعبَّر عنه في مصطلح علم الفلسفة, إذ هناك فرق بين العلاقة الارتباطية والعلاقة الفنائية، ولتقريب الفكرة نضرب مثلاً: إذا وضعت عسلاً في كأس حليب، فالحليب مع العسل يسمّى (علاقة ارتباطية) إذ ما زلت عندما تشرب الحليب تشعر أنَّ هناك حليباً وأنَّ هناك عسلاً، يعني هناك وجودان ارتبط أحدهما بالآخر، بينما إذا صهر الذهب مع معدن آخر وأصبح مادة واحدة فهذه تسمّى علاقة فنائية، لأنَّك لا تشعر بأنَّ هناك شيئين، بل مادة واحدة، بينما علاقة الامتزاج بين الحليب والعسل علاقة ارتباطية لا فنائية، هذا بلحاظ الوجود الخارجي وكذلك بلحاظ الوجود الذهني ويحصل بالتأمّل في علاقة الاسم بالمسمّى، مثلاً: إذا جيء لي بولد وأسميته ضرغام، فعندما يقول لي واحد من الناس: ضرغام، لا يتبادر ذهني إلى الولد لأنّي لم أتعوَّد على ذلك, فأشعر بأنَّ هناك وجودين وجود للولد وهو ابني ووجود للحروف، ضاد وراء وغين وألف وميم، لكن إذا مرَّت الأيّام واعتدت على الاسم فبمجرَّد أن يقال لي: ضرغام، ينتقل ذهني إلى ولدي ولا أشعر بالحروف أبداً، وهذه تسمّى (علاقة فنائية) فناء الاسم في المسمّى، فالعلاقة بين الاسم وبين المسمّى في أوّل أيّام الولادة كانت ارتباطية ربط الاسم بالمسمّى، لكن بمرور الوقت تحوَّلت العلاقة من علاقة ارتباطية إلى علاقة فنائية، ولا تشعر بالاسم أبداً، وهكذا لقاؤنا مع الله يجب أن يكون لقاء فناء بحيث نشعر أن ليس هناك وجودان وجود لنا ووجود لله، ولا نشعر إلاَّ بوجود الله، هذا ما يسمّى بالعلاقة الفنائية، واللقاء الفنائي أن يصل الإنسان إلى حدّ الإحساس بحضور الله، فالقرآن الكريم يعبّر عن العلاقة الفنائية عندما يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح: 10)، حيث يشعر الإنسان أنَّ يد الله تلامس يده، ويقول تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) (التوبة: 104)، بحيث نصل إلى الشعور بأنَّ الله هو الذي يأخذ صدقاتنا منّا، وقال تعالى في آية ثالثة: (لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (الحجّ: 37).

فالمطلوب في لقائنا مع الله أن يكون لقاء الفناء أي أن لا نشعر بأنفسنا، بل لا نشعر إلاَّ بوجود الله، وهذا ما تحدَّث عنه الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء يوم عرفة: (مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ، وَمَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبَّكَ نَصِيباً)(9).

السؤال الثالث: هل يريد الإمام (عليه السلام) لقاءنا؟

إنَّ علماء العرفان يقولون: هناك فرق بين لقاء الأنس ولقاء التشريف, والفرق بينهما هو أنَّ لقاء التشريف بمعنى أن يمنَّ عليَّ الإمام(عليه السلام) ويريني طلعته الرشيدة وغرَّته الحميدة كما جاء في الدعاء: (اللَّهُمَّ أرِني الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ، وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ، وَاكْحُلْ نَاظِري بِنَظْرَةٍ مِنّي إِلَيْهِ، وَعَجَّلْ فَرَجَهُ)(10)، لكن الإمام لا يريد ذلك, بل الإمام يريد لقاء الأنس، وكيف يلتقي بنا الإمام لقاء الأنس إذا لم نكن أهلاً لإيناس الإمام, ولم نكن أهلاً لتفريح قلب الإمام، إذن الإمام يريد شيئاً ونحن نريد شيئاً، نحن نريد أن نبقى على ذنوبنا ومعاصينا وعلى الإمام أن يشرّفنا بلقائه ويكرمنا بطلعته والإمام ينادينا: أنا لا أريد هذا اللقاء، أريد لقاء الأنس أريد أن التقي بكم وأنا فرح بكم، مبتهج بكم، والفرح والبهجة والأنس تتوقَّف على أن ننصهر بالإمام وأن تكون علاقتنا بالإمام علاقة فنائية لا ارتباطية حتَّى يكون لقاؤنا مع الإمام لقاء الأنس، وإلاَّ فالإمام يتفضَّل علينا باللقاء وهو كريم لكنَّه يريد أن يكرمنا بلقاء يعبّر عنه بلقاء الأنس، فما نطلبه نحن غير ما يطلبه الإمام منّا.

المحور الثالث: في علاقة العشق بالإمام (عليه السلام):

من المفيد الاعتراف بأنَّ علاقتنا بالإمام علاقة سطحية، علاقة جافّة جدَّاً، علاقة يابسة، ربَّما تكون علاقتنا بأساتذتنا أقوى من علاقتنا بالإمام, ربَّما تكون علاقتنا بأصدقائنا وأحبّائنا أقوى من علاقتنا بالإمام، ربَّما تكون علاقتنا بمراجعنا وزعمائنا أقوى من علاقتنا بالإمام، فلذا يجب مراجعة الذوات لتكون علاقتنا بالإمام علاقة حبّ وعشق لا مجرَّد دعاء، فنحن ندعو للإمام ولكن ما يريده الإمام منّا ليس مجرَّد لقلقة لسان في الدعاء، بل يريد علاقة حبّ وعشق كي نكون أهلاً للقائه وأهلاً لتكريمه وأهلاً لتشريفه.

عناصر العلاقة العشقية بالإمام (عليه السلام):

العنصر الأوّل: صفاء القلب:

فالقلب الذي يحمل حقداً على الناس بعيد عن لقاء الإمام، قال تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلإِِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإِْيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (الحشر: 10)، والقلب الخالي من الغل هو القلب الذي يلتقي بالإمام.

والإنسان المبتسم المتواضع الخلوق الذي يحبّ الناس، يألف الناس، يبادر لقضاء حوائج الناس، هو المحظوظ بلقاء الإمام، هو المحظوظ ببركة الإمام، هو المحظوظ بمدد الإمام، لأنَّ قلبه طاهر، وصفحة بيضاء لا يحمل حقداً ولا ضغينة، كما ورد عن النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وتوطأ رحالهم)(11).

العنصر الثاني: الطهارة من الذنوب:

فالذنوب تزعج الإمام وتؤلمه، فقد روى الشيخ الطبرسي في (الاحتجاج)(12) عن الإمام المنتظر (عليه السلام) أنَّه قال: (ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم الله لطاعته _ الإمام يريد أن يشير إلى شرط اللقاء معه (عليه السلام) _ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد الذي عليهم لمَّا تأخَّر عليهم اليمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلاَّ ما يتَّصل بنا ممَّا نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل).

العنصر الثالث: الإهداء للإمام (عليه السلام):

فقد ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (تهادوا تحابوا)(13)، فالهدية تورث المحبّة حتَّى مع الإمام وذلك أن تصلّي عنه, أن تطوف عنه, أن تحجّ عنه، أن تتصدَّق عنه، أن تصوم عنه، والصدقة عنه هدية غالية ثمينة يكرمها الإمام (عليه السلام) وهذه الهدية تجعلنا مشمولين لبركته مشمولين لدعائه، الدعاء الحقيقي المستجاب من الله، (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60)، فإذا تحقَّق الدعاء تحقَّقت الاستجابة، لكن كثير منّا يقول: أنا أدعو ولا يستجاب لي، ونقول له: لم يصدر منك دعاء حقيقي المستلزم للإجابة، وتستطيع أن تصل إلى الدعاء الحقيقي عن طريق الإمام الحجّة بأن يدعو لك فحينئذٍ تتحقَّق الاستجابة، (ادْعُونِي) إمَّا بالمباشرة أو بالواسطة, وأنا أستطيع أن أدعو الله عز وجل بواسطة لسان الإمام المنتظر (عليه السلام)، والاتّصال يكون من خلال الإهداء إليه والقيام بأعمال الخير نيابة عنه، فإنَّ هذه الهدية تجلب دعائه لي، فأكون قد دعوت الله تبارك وتعالى بلسان الإمام المنتظر (عليه السلام)، والسيّد علي بن طاووس من أجلاّء علماء الإماميّة يقول: (كنت بسُرَّ من رأى فسمعت سحراً دعاء القائم (عليه السلام) فحفظت منه لمن ذكره الأحياء والأموات: (وأبقهم _ أو قال: وأحيهم _ في عزّنا وملكنا وسلطاننا ودولتنا) وكان ذلك في ليلة الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة سنة 638هـ)(14).

فالإمام يدعو لمن قرب منه، والإمام (عليه السلام) يكتب للشيخ المفيد شيخ الطائفة الإمامية: (إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلاَ نَاسِينَ لـِذِكْركُمْ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اللأوَاءُ وَاصْطَلَمَكُمُ الأعْدَاءُ)(15)، الإمام إذا اقتربنا منه اقترب منّا ودعا لنا.

العنصر الرابع: الذكر الخفي:

والذكر الخفي مصطلح عند علماء العرفان مأخوذ من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): (وآنسنا بالذكر الخفي, واستعملنا بالعمل الزكي، والسعي المرضي)(16)، ويقصد به الانقطاع إلى الله بحيث لا يطلب إلاَّ من الله ولا يشكو إلاَّ لله ولا يبثّ همّه إلاَّ لله، فيقال عنه: ذكر الله ذكراً خفيّاً وانقطع إلى الله تبارك وتعالى، فمن عناصر لقاء الإمام الذكر الخفي بمعنى أن تنقطع إليه وتقول: يا ربّ أنا لا أريد حاجةً لا أريد حياةً ولا شفاءاً ولا رزقاً إلاَّ برضى الإمام المنتظر (عليه السلام)، عن طريق رضاه عن طريق إرادته، لأنّي منصهر به، لأنّي متعلَّق به، لأنّي مغرم به، هذا ما يسمّى (بالذكر الخفي) وهو من عناصر لقائه (عليه السلام).

العنصر الخامس: تصوّر الإمام والتفكّر فيه (عليه السلام):

أنت إذا أحببت شخصاً تتصوَّره ويمرُّ على بالك دائماً، ولو كنت تحبّ الإمام المنتظر (عليه السلام) حقّاً لكان بالك وذكرك وذهنك مشغولاً بصورته مشغولاً بخياله مشغولاً بما تتصيَّد من أوصافه، فهل بالك مشغول به؟

ونظرة واحدة لزيارة آل ياسين تصوّر لنا التفكّر في الإمام، حيث نقرأ فيها: (السَّلامُ عَلَيْكَ فِي آنَاءِ لَيْلِكَ وَأطْرَافِ نَهَارِكَ…، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقُومُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْعُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْرَأ وَتُبَيَّنُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصَلّي وَتَقْنُتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُهَلّلُ وَتُكَبَّرُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصْبِحُ وَتُمْسِي، السَّلامُ عَلَيْكَ فِي اللَّيْل إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)(17)، هذه صور للإمام تمرُّ على أذهاننا وتربطنا به (عليه السلام).

العنصر السادس: التألّم لألمه (عليه السلام):

لا يوجد شخص على هذه الأرض يتألَّم مثل الإمام, لما يرى من مصائب ونوائب في الأمّة الإسلاميّة، كما أنَّ الإمام إذا رأى ذنباً من مؤمن يتألَّم، فكيف إذا رأى فضائع الذنوب وكبائر الجرائم والمعاصي، لذلك علاقتنا بالإمام تقتضى أن نتألَّم لألمه، ويعلّمنا دعاء الندبة المعروف بين الإماميّة كيف نتألَّم لألم الإمام: (عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أرَى الْخَلْقَ وَلا تُرَى وَلا أسْمَعُ لَكَ حَسِيساً وَلا نَجْوَى…، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ اُجَابَ دُونَكَ وَ اُنَاغَى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرَى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ يَجْريَ عَلَيْكَ دُونَهُمْ مَا جَرَى)(18)، هذه الكلمات تقوّي عندنا إحساساً بألم الإمام وبآهات الإمام، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (رحم الله شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا)(19)، فالتألّم لألمهم دليل الولاء لهم، ومن ألم الإمام المنتظر (عليه السلام) الذي لا ينساه ولا يهجع عند ذكره ألم كربلاء، ألم عاشوراء، فهو الألم المستمرّ المتجدّد للإمام المنتظر (عليه السلام).

الحمد لله ربّ العالمين

 

0

 

السيد منير الخبار 

https://t.me/wilayahinfo

1

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...