– التأسّي بالإمام الحسن المجتبى وبكاؤه على أخيه عليهما السلام:
ورد في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: “إنّ الحسين بن عليّ عليهما السلام دخل يوماً إلى الحسن عليه السلام فلمّا نظر إليه بكى، فقال له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي لما يُصنع بك, فقال له الحسن عليه السلام: إنّ الذي يؤتى إليّ سمّ يدس إليّ فأُقتل به ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك فعندها تحلّ ببني أميّة
اللعنة وتمطر السماء رماداً ودماً ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار”[1].
– التأسّي بالإمام السجّاد عليه السلام:
لمّا انفصل موكب السبايا من كربلاء طالبين المدينة، قال بشير بن حذلم: فلمّا قربنا منها نزل عليّ بن الحسين عليهما السلام فحطّ رحله، وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال: “يا بشير! رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه؟” قلت: بلى يا بن رسول الله إنّي لشاعر, قال: “فادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله”، قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة فلمّا بلغت مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:
يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ بِهَا
الْجِسْمُ مِنْهُ بِكَرْبَلَاءَ مُضَرَّجٌ
قُتِلَ الْحُسَيْنُ فَأَدْمُعِيْ مِدْرَارُ
وَالْرَأسُ مِنْهُ عَلَى الْقَنَاةِ يُدَارُ
قال: ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه، فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلّا برزنَ من خدورهنَّ مكشوفةً شعورُهُنَّ مخمّشةً وجوهُهنَّ، ضارباتٍ خدودَهنَّ، يدعون بالويل والثبور، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه، وسمعت جارية تنوح على الحسين فتقول:
نَعَىْ سَيِّدِيْ نَاعٍ نَعَاهُ فَأَوجَعَا
فَعَيْنَيَّ جُوْدَا بِالْدُّمُوْعِ وَأَسْكُبَا
عَلَىْ مَنْ دَهَى عَرْشَ الْجَلِيْلِ فَزَعْزَعَا
عَلَىْ ابْنِ نَبِيِّ اللهِ وَابْنِ وَصِيِّه
وَأَمْرَضَنِيْ نَاعٍ نَعَاهُ فَأَفْجَعَا
وَجُوْدَا بِدَمْعٍ بَعْدَ دَمْعِكُمَا مَعَا
فَأَصْبَحَ هَذَا الْمَجْدُ وَالْدِّيْنُ أَجْدَعَا
وَإِنْ كَانَ عَنَّا شَاحِطَ الْدَارِ أَشْسَعَا
ثمّ قالت: أيّها الناعي جدّدت حزننا بأبي عبد الله وخدشت منّا قروحاً لمّا تندمل، فمن أنت رحمك الله؟ فقلت: أنا بشير بن حذلم, وجّهني مولاي عليّ بن الحسين عليهما الصلاة والسلام وهو نازل في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله ونسائه، قال: فتركوني مكاني وبادروا فضربت فرسي حتّى رجعت إليهم فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع فنزلت عن فرسي وتخطّيت رقاب الناس حتّى قربت من باب الفسطاط وكان
عليّ بن الحسين عليهما السلام داخلاً ومعه خرقة يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كرسيّ فوضعه له وجلس عليه، وهو لا يتمالك من العبرة وارتفعت أصوات الناس بالبكاء، وحنين الجواري والنساء، والناس من كلّ ناحية يعزّونه فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة فأومأ بيده أن: اسكتوا، فسكنت فورتهم فقال عليه السلام:
“الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدّين، بارئ الخلائق أجمعين الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاضعة، الكاظّة الفادحة الجائحة, أيّها الناس! إنّ الله – وله الحمد – ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزيّة التي لا مثلها رزيّة, أيّها الناس! فأيّ رجالات منكم يُسَرُّون بعد قتله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها وتضنُّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار والملائكة المقرّبون، وأهل السماوات أجمعون, أيّها الناس! أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ
سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام, أيّها الناس! أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين شاسعين عن الأمصار, كأنّا أولاد ترك وكابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إنْ هذا إلّا اختلاق والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاءة بنا لما ازدادوا على ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأوجعها وأفجعها، وأكظّها، وأفظّها، وأمرّها، وأفدحها, فعند الله نحتسب فيما أصابنا وما بلغ بنا إنّه عزيز ذو انتقام”[2].
وقد ورد في أحوال الإمام السجّاد عليه السلامأنّه بعد واقعة كربلاء وإلى آخر عمره المبارك بقي يبكي على مصيبة أبيه ويقيم العزاء عليه حتّى قيل- كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام- إنّه: “ما وضع بين يديه طعام إلّا بكى على الحسين، حتّى قال له مولى له: جُعلت فداك يا بن رسول الله, إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلّا خنقتني العبرة لذلك”[3].
وفي موضع آخر يقول الإمام الصادق عليه السلام: “وكان جدّي إذا ذكره (الحسين عليه السلام) بكى حتّى تملأ عيناه لحيته وحتّى يبكي لبكائه رحمة له من رآه”[4].
وورد في أحواله سلام الله عليه بعد استشهاد والده أنّه: “إذا أخذ إناءً ليشرب ماءً بكى حتّى يملأه دمعاً“[5].
ولم يكتف الإمام عليه السلام بالبكاء على أبي الشهيد عليه السلام, بل كان يحثّ شيعته على البكاء ويرغّبهم فيه, فعن أبي جعفر عليه السلام، أنّه قال: “كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول: أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن عليّ عليهما السلام دمعة حتّى تسيل على خدّه, بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه فينا لأذى مسّنا من عدوّنا في الدنيا, بوّأه الله بها في الجنّة مبوّأ صدق، وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خدّه من مضاضة ما أوذي فينا, صرف الله عن وجهه الأذى, وآمنه يوم القيامة من سخطه والنّار”[6].
– التأسّي بالإمام الباقر عليه السلام:
عن مالك الجهنيّ من أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: “من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء حتّى يظلّ عنده باكياً لقي الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة بثواب ألفي حجّة وألفي ألف عمرة وألفي ألف غزوة، وثواب كلّ حجّة وعمرة وغزوة كثواب من حجّ واعتمر وغزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع الأئمّة الراشدين عليهم السلام” قال: قلت: جعلت فداك فما لمن كان في بُعْدِ البلاد وأقاصيها ولم يمكنه المصير إليه في ذلك اليوم؟ قال: “إذا كان ذلك اليوم برز إلى الصحراء أو صعد سطحاً مرتفعاً في داره وأومأ إليه بالسلام واجتهد على قاتله بالدعاء وصلّى بعده ركعتين يفعل ذلك في صدر النهار قبل الزوال، ثمّ ليندب الحسين عليه السلامويبكيه ويأمر من في داره بالبكاء عليه ويقيم في داره مصيبته بإظهار الجزع عليه ويتلاقون بالبكاء بعضهم بعضاً في البيوت وليعزّي بعضهم بعضاً بمصاب الحسين عليه السلام…“[7].
– التأسّي بالإمام الصادق عليه السلام:
يروي أبو الفرج الأصفهانيّ أنّه عندما تشرّف السيّد الحميريّ بالمحضر المقدّس للإمام الصادق عليه السلام قام عليه السلام بإجلاس
أهل بيته خلف الستر وطلب من الحميريّ أن ينشده أبياتاً في رثاء جدّه المظلوم الحسين عليه السلام… قال: فرأيت دموع جعفر تنحدر على خدّيه وارتفع الصراخ من داره حتّى أمره بالإمساك فأمسك[8].
وكذلك ينقل عبد الله بن غالب يقول: دخلت على أبي عبد الله عليه السلامفأنشدته مرثيّة الحسين عليه السلام فلمّا انتهيت إلى هذا الموضع:
لِبَلِيَّةٍ تسقوا حُسَيْناً بِمِسْقَاةِ الْثَرَىْ غَيْرَ الْتُّرَابِ
فصاحت باكية من وراء الستر: وا أبتاه[9].
وروي عن أبي هارون المكفوف أيضاً أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي: “أنشدني” فأنشدته، فقال: “لا، كما تنشدون وكما ترثيه عند قبره”، قال فأنشدته:
أُمْرُرْ عَلَىْ جَدَثِ الْحُسَيْنِ فَقُلْ لِأَعْظُمِهِ الْزَّكِيَّة
قال: فلمّا بكى أمسكت أنا، فقال: “مر“، فمررت، قال: ثمّ قال عليه السلام: “زدني“، قال: فأنشدته:
يَا مَرْيَمُ قُوْمِيْ فَانْدُبِيْ مَوْلَاكِ وَعَلَىْ الْحُسَيْنِ فَأَسْعَدِيْ بِبُكَاكِ
قال: فبكى وتهايج النساء…[10].
وتشير هذه الروايات مضافاً إلى تشويق الناس وترغيبهم بإقامة العزاء على سيّد الشهداء أنّه نفسه سلام الله عليه أقام مجالس العزاء وكان يبكي ويتفجّع على الحسين عليه السلام.
[1] الخصائص الحسينيّة، ص212, بحار الأنوار، ج45، ص218, الأمالي للشيخ الصدوق، ص101, مثير الأحزان، ص23.
[2] بحار الأنوار، ج 45، ص 147- 149.
[3] كامل الزيارات، باب 35، رقم 1.
[4] كامل الزيارات، باب 26، رقم 168.
[5] ابن شهرآشوب، المناقب، ج4، ص166.
[6] كامل الزيارات, باب 32, الرقم 1، ص 201.
[7] كامل الزيارات، باب 71، رقم 9، ص326.
[8] الأغاني، ج7، ص7, النقد النزيه، ص197 و198.
[9] كامل الزيارات، باب 33، رقم 3، ص209 و210.
[10] كامل الزيارات، باب 33، رقم 5، ص210 و211.
شبكة المعارف الإسلامية