وفي ليلة عاشوراء التي حَفلت بعظيمِ المكاره والمصائب والأرزاء ، والتي لا يُعهد لها مثيل في تاريخ البشرية ، نرىٰ وقد برزَ الصبرُ فيها ، وصار أحدَ سِماتها ، وصفةً قد تحلىٰ بها أصحابُها ، حتىٰ أصبحَ كلُ واحد منهم كالجبل الأصم لا تهزه العواصف و مِنْ بينهم سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ الذي كُلما ازداد الموقف شدةً ازداد صبراً و إشراقةً.
يقول الأربلي : شجاعةُ الحسين عليه السلام يُضربُ بها المثل ، وَ صبرُه في مأقط الحرب أعجزَ والاواخر الأوائلَ والأواخر(1).
وكما قيل : إن في بشاشة وَجه الرئيس أثراً كبيراً في قوُة آمال الأتباع و نشاط أعصابهم ، فكان أصحابه كلما نظروا إليه عليه السلام ازدادوا نَشاطاً و صمُوداً ، هَذا مع ما هو فيه ـ صلوات الله عليه ـ من البلاء العظيم والخطب الجسيم في ليلة لم تمر عليه بأعَظمَ منها ، حيث يرَى الأعداءَ قد اجتمعوا لقتاله و قتال أهل بيته ، و هو يَرىٰ أهلهَ يرقبونَ نزولَ البلاء العظيم مع ما هُم فيه من العطش الشديد ، بلا زادٍ ولا ماء حتىٰ ذَبُلت شِفاهُهُم و غارت عيونُهم ، و بُحّت أصواتهم ، و ذعُرتْ أطفالهم ، وارتاعت قلوبهم ، في وَجَل شديد علىٰ فراق الأحبة وفقد الأعزة ، و مَنْ يرىٰ ذلك كيف لا ينهار ولا يضعُف ولا تقل عزيمته و هو يرىٰ ما يَبعثُ على الالم و يُحطِّم القُوىٰ !!
إلا أن الحسين عليه السلام الذي كان يَلحظ ذلك بعينه ، لا تجد أثراً من ذلك في نفسه بل كان يزدادُ صبراً و عزيمةً ، و تحمل تلك الأعباء الثقيلة ، و تسلح بالصبر على الأذىٰ في سبيل الله تعالىٰ و هو القائل : و مَنْ رَدَّ عليَّ هذا أصبرُ حتى يقضي الله بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين (2) فكان عليه السلام نعم الصابر المحتسب عند الله تعالىٰ.
وقد جاء في الزيارة عن الإمام الصادق عليه السلام : و صَبرتَ على الأذىٰ في جنبه محتسباً حتىٰ أتاك اليقين (3).
و ناهيك تعجب ملائكة السماء من صبره كما جاء في الزيارة : وقد عجبت من صبرك ملائكةُ السموات (4).
وكان يقول عليه السلام في أوقاتِ الشدة يوم عاشواء و هو متشحّط بدمه : صَبراً علىٰ قضائك يا رب لا إلهَ سِواكَ ، يا غِياثَ المستغيثين (5) ما لي ربٌّ سواك ولا معبود غيرك صبراً علىٰ حكمك (6) و ناهيك عن موقفه المرير و هو يُشاهد مقتلَ رضيعه الصغير و هو يقول : اللهم صبراً و احتساباً فيك (7).
و كيف لا يكونُ صابراً محتسباً و هو من الذين عناهم الله تعالىٰ في قوله : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) (8) و قوله : ( وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) (9).
فالحسين عليه السلام شخصيةٌ منفردةٌ بجميع صفات الكمال ، و تجسدت فيه كلُ صور الأخلاق ، وقد أراد عليه السلام أن يضفي من كماله علىٰ أصحابه و أهل بيته بوصاياه لهم بالصبر الجميل ، و توطين النفس ، و احتمال المكاره ، ليستعينوا بذلك في تحمُّل الأعباء و مكابدة الآلام ، وليحوزوا علىٰ منازل الصابرين و ما أعَداللهُ لهم.
فأما أصحابه فقد أوصاهم 7 مراراً بالصبر والتسلُّح به في مواجهة النوائب والمحن ، والصبر علىٰ حدِّ السيف وطعن الأسنَّة و علىٰ أهوال الحرب.
وكما لا يخفىٰ أن هذا ليس بالأمر السهل إذ أن مواجهة ذلك يحتاج إلى التدرُّع بالصبر والحزم ، و عدم الجزع من أهوال المعركة والثبات عند القتال ، و عدم الاستسلام أو الانهزام ، فإذا ما تسلح المقاتل بالصبر كان في قمة المواجهة ، لا يبالي بما يلاقيه و ما يتعرَّض إليه من ألم السنان و جرح الطعان.
ولذا نادى ـ صلوات الله عليه ـ فيمن تبعه من الناس ـ في بعض المنازل ـ قائلاً لهم : أيها الناسُ فمَنْ كان منكم يصبر على حدِّ السيف وطعن الأسنة فليقُمْ معنا و إلا فلينصرف عنَّا (10).
فإذا كان المقاتل لا صبر له علىٰ ذلك كيف يثبت في ساحة القتال حينما يرى أهوال المعركة إنّ هذا و أمثاله لا يؤمن منه الجزع ، فإما أن ينهزمَ أو يستسلم للأعداء.
وهنا لا ننسى تأكيد القرآنُ الكريم في هذا الجانب إذ حثّ المجاهدين في سبيل الله تعالى علىٰ التحلَّي بالصبر والثبات في ساحة القتال قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ) (11) ، وقال تعالىٰ : ( إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) (12) ، وقال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (13).
و من الواضح أن نجد الحسين عليه السلام في هذه الليلة ـ استعداداً للمواجهة ـ أن يوصي أصحابه بذلك ويرغبهم في احتمال المكاره قائلاً لهم : فإن كنتُم قد وطأتم أنفسكم علىٰ قد وطّأتُ عليه نفسي ، فاعلمُوا أن الله إنما يَهبُ المنازلَ الشريفةَ لعبادة باحتمال المكاره ، و إن الله و إن كان قد خَصَّني مع مَنْ مضىٰ من أهلي الذين أنا آخِرهُم بَقاءً في الدُنيا من الكرامات ، بما سَهّل معها علىٰ احتمال الكريهات ، فإنَّ لكم شطرَ ذلك من كرامات الله ، واعلموا أن الدُنيا حُلوها مرٌ ، و مرُّها حُلوٌ ، والانتباه في الاخرة ، والفائزُ من فاز فيها والشقي من يشقىٰ فيها (14).
الأمر الذي أثَّر في نفُوسهم وزاد في تَحمُّلهم ، حتىٰ أوقفهم علىٰ غامض القضاء ، وكَشف عن أبصارهم فرأوا منازلهم من الجنة و ما حباهُم الله تعالىٰ من النعيم.
كما أوصاهم عليه السلام بهذا أيضاً و نحوه بعد ما صلَّىٰ بهم الغداةً قائلاً لهم : إن الله تعالىٰ أذنَ في قتلكم و قتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال (15).
و كذلك لما رآهم وقد تناوشتهم السيوف وقف عليه السلام قائلاً لهم : صَبراً يا بَني عُمومتي صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتُم هَواناً بعد هذا اليوم أبداً (16).
و كذا يوصي غلاماً له وقد قُطعت يده ، فضَمّهُ إليه قائلاً له : يا بن أخي اصبرعلىٰ ما نَزلَ بك واحتسب في ذلك الخير (17).
وفي رواية أنه يقول بعد ما يُقتل طفله الرضيع و يضع كفيه تحتَ نحره : يا نفس اصبري ، واحتسبي فيما أصابَكِ (18).
المصادر:
(1) كشف الغمة للإربلي : ج 2 ص 2ظ .
(2) بحار الأنوار : ج 44 ، ص 33ظ .
(3) بحار الأنوار : ج 98 ، ص 293 و ج 98 ، ص 256.
(4) بحار الأنوار : ج 98 ، ص 24ظ .
(5) أسرار الشهادة : ج 3 ، ص 68.
(6) مقتل الحسين للمقرم : ص 283.
(7) معالي السبطين : ج 1 ، ص 343.
(8) سورة السجدة : الآية 24.
(9) سورة الإنسان : الآية 12.
(10) ينابيع المودة : ص 338 ، كلمات الإمام الحسين : ص 348.
(11) سورة آل عمران : الآية 2ظ ظ .
(12) سورة الأنفال : الآية 65.
(13) سورة الأنفال : الآية 45.
(14) أسرار الشهادة للدربندي : ج 2 ، ص 223.
(15) كامل الزيارات لابن قولويه : ص 73 ، بحار الأنوار : ج 45 ، ص 86.
(16) مقتل الحسين للخوارزمي : ج 2 ، ص 27 ، بحار الأنوار : ج 45 ، ص 36.
(17) وقعة الطف : ص 254 ، الإرشاد للشيخ المفيد : ص 241.
(18) تظلم الزهراء : ص 2ظ 3 ، معالي السبطين : ج 1 ، ص 423.
اعداد: سيد مرتضى محمدي
القسم العربي :تبيان