المراجعات بقلم الإمام عبد الحسين شرف الدين الموسوي46
21 سبتمبر,2018
بحوث اسلامية, صوتي ومرئي متنوع
737 زيارة
س
المراجعة 90 رقم : 17 ربيع الأول سنة 1330
سرية أسامة
لئن صدعت بالحق ، ولم تخش فيه لومة الخلق ، فأنت العذق المرجب ،
والجذل المحكك ، وأنك لأعلى – من أن تلبس الحق بالباطل – قدرا ، وأرفع – من
أن تكتم الحق – محلا ، وأجل من ذلك شانا ، وأبر وأطهر نفسا .
أمرتني – أعزك الله – أن أرفع إليك سائر الموارد التي آثروا فيها رأيهم على
التعبد بالأوامر المقدسة ، فحسبك منها سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى غزو
الروم ، وهي آخر السرايا على عهد النبي صلى الله عليه وآله ، وقد اهتم
فيها – بأبي وأمي – اهتماما عظيما ، فأمر أصحابه بالتهيؤ لها ، وحضهم على ذلك ،
ثم عبأهم بنفسه الزكية إرهافا لعزائمهم واستنهاضا لهممهم ، فلم يبق أحدا من
وجوه المهاجرين والأنصار كأبي بكر وعمر ( 1 ) ( 862 ) وأبي عبيدة وسعد وأمثالهم ،
إلا وقد عبأه بالجيش ( 1 ) ( 863 ) وكان ذلك لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى
عشر للهجرة ، فلما كان من الغد دعا أسامة ، فقال له : سر إلى موضع قتل أبيك
فأوطئهم الخيل ، فقد وليتك هذا الجيش ، فاغز صباحا على أهل أبنى ( 2 ) ، وحرق
عليهم ، وأسرع السير لتسبق الأخبار ، فإن أظفرك الله عليهم فأقل اللبث فيهم ،
وخذ معك الادلاء ، وقدم العيون والطلائع معك . فلما كان اليوم الثامن
والعشرين من صفر ، بدأ به صلى الله عليه وآله ، مرض الموت فحم – بأبي
وأمي – وصدع ، فلما أصبح يوم التاسع والعشرين ووجدهم مثاقلين ، خرج إليهم
فحضهم على السير ، وعقد صلى الله عليه وآله ، اللواء لأسامة بيده الشريفة
تحريكا لحميتهم ، وإرهافا لعزيمتهم ، ثم قال : اغز بسم الله وفي سبيل الله ،
وقاتل من كفر بالله . فخرج بلوائه معقودا ، فدفعه إلى بريدة ، وعسكر بالجرف ،
ثم تثاقلوا هناك فلم يبرحوا ، مع ما وعوه ورأوه من النصوص الصريحة في وجوب
إسراعهم كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ” أغز صباحا على أهل أبنى ” ( 864 ) .
وقوله : ” وأسرع السير لتسبق الأخبار ” ( 865 ) إلى كثير من أمثال هذه الأوامر التي
لم يعملوا بها في تلك السرية . وطعن قوم منهم في تأمير أسامة كما طعنوا من قبل في تأمير
أبيه ، وقالوا في ذلك فأكثروا ، مع ما شاهدوه من عهد النبي له بالإمارة ، وقوله
صلى الله عليه وآله وسلم ، له يومئذ : ” فقد وليتك هذا الجيش ” ( 866 ) ورأوه
يعقد له لواء الإمارة – وهو محموم – بيده الشريفة ، فلم يمنعهم ذلك من الطعن في
تأميره حتى غضب صلى الله عليه وآله ، من طعنهم ، غضبا شديدا ،
فخرج – بأبي وأمي – معصب الرأس ( 2 ) ، مدثرا بقطيفته ، محموما ألما ، وكان
ذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول قبل وفاته بيومين ، فصعد المنبر فحمد
الله وأثنى عليه ، ثم قال – فيما أجمع أهل الأخبار على نقله ، واتفق أولوا العلم على
صدوره – : ” أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، ولئن
طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وأيم الله إنه كان لخليقا
بالإمارة ، وإن ابنه من بعده لخليق بها ” ( 867 ) وحضهم على المبادرة إلى السير ،
فجعلوا يودعونه ويخرجون إلى العسكر بالجرف ، وهو يحضهم على التعجيل ، ثم
ثقل في مرضه ، فجعل يقول : جهزوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أسامة ،
أرسلوا بعث أسامة ، يكرر ذلك وهم مثاقلون ، فلما كان يوم الاثنين الثاني عشر من
ربع الأول دخل أسامة من معسكره على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمره
بالسير قائلا له : ” أغد على بركة الله تعالى ” ( 868 ) فودعه وخرج إلى المعسكر ، ثم
رجع ومعه عمر وأبو عبيدة ، فانتهوا إليه وهو يجود بنفسه ، فتوفي – روحي وأرواح
العالمين له الفداء – في ذلك اليوم . فرجع الجيش باللواء إلى المدينة الطيبة ، ثم
عزموا على إلغاء البعث بالمرة ، وكلموا أبا بكر في ذلك ، وأصروا عليه غاية
الاصرار ، مع ما رأوه بعيونهم من اهتمام النبي صلى الله عليه وآله ، في
إنفاذه ، وعنايته التامة في تعجيل إرساله ، ونصوصه المتوالية في الاسراع به على
وجه يسبق الأخبار ، وبذله الوسع في ذلك منذ عبأه بنفسه وعهد إلى أسامة في أمره ،
وعقد لواءه بيده إلى أن احتضر – بأبي وأمي – فقال : أغد على بركة الله تعالى ، كما
سمعت ، ولولا الخليفة لأجمعوا يومئذ على رد البعث ، وحل اللواء ،
لكنه أبى عليهم ذلك . فلما رأوا منه العزم على إرسال البعث ، جاءه
عمر بن الخطاب حينئذ يلتمس منه بلسان الأنصار أن يعزل أسامة ،
ويولي غيره .
هذا ولم يطل العهد منهم بغضب النبي وانزعاجه ، من طعنهم في تأمير
أسامة ، ولا بخروجه من بيته بسبب ذلك محموما ألما معصبا مدثرا ، يرسف في
مشيته ، ورجله لا تكاد تقله ، مما كان به من لغوب ، فصعد المنبر وهو يتنفس
الصعداء ، ويعالج البرحاء ، فقال : ” أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في
تأميري أسامة ، ولئن طعنتم في تأميري أسامة ، لقد طعنتم في تأميري أباه من
قبله ، وأيم الله أنه كان لخليقا بالإمارة ، وإن ابنه من بعده لخليق بها ” فأكد
صلى الله عليه وآله ، الحكم بالقسم ، وإن وإسمية الجملة ولام التأكيد
ليقلعوا عما كانوا عليه ، فلم يقلعوا ، لكن الخليفة أبى أن يجيبهم إلى عزل أسامة ،
كما أبى أن يجيبهم إلى إلغاء البعث ، ووثب فأخذ بلحية عمر ( 1 ) فقال : ” ثكلتك
أمك وعدمتك يا ابن الخطاب ، استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله ،
وتأمرني أن نزعه ” ( 869 ) ولما سيروا الجيش – وما كادوا يفعلون – ، خرج أسامة في
ثلاثة آلاف مقاتل فيهم ألف فرس ( 2 ) ، وتخلف عنه جماعة ممن عبأهم رسول الله
صلى الله عليه وآله ، في جيشه . وقد قال صلى الله عليه وآله – فيما أورده
الشهرستاني في المقدمة الرابعة من كتاب الملل والنحل : ” جهزوا جيش أسامة ،
لعن الله من تخلف عنه ” ( 870 ) .
وقد تعلم ، أنهم إنما تثاقلوا عن السير أولا ، وتخلفوا عن الجيش أخيرا ،
ليحكموا قواعد سياستهم ، ويقيموا عمدها ، ترجيحا منهم لذلك على التعبد
بالنص ، حيث رأوه أولى بالمحافظة ، وأحق بالرعاية ، إذ لا يفوت البعث بتثاقلهم
عن السير ، ولا بتخلف من تخلف منهم عن الجيش ، أما الخلافة فإنها تنصرف
عنهم لا محالة إذا انصرفوا إلى الغزوة قبل وفاته صلى الله عليه وآله ، وكان – بأبي
وأمي – أراد أن تخلو منهم العاصمة ، فيصفوا لأمر من بعده لأمير المؤمنين علي بن
أبي طالب على سكون وطمأنينة ، فإذا رجعوا وقد أبرم عهد الخلافة ، وأحكم
لعلي عقدها ، كانوا عن المنازعة والخلاف أبعد . وإنما أمر عليهم أسامة وهو ابن
سبع عشرة سنة ( 1 ) ليا لأعنة البعض ، وردا لجماح أهل الجماح منهم ، واحتياطا
على الأمن في المستقبل من نزاع أهل التنافس لو أمر أحدهم ، كما لا يخفى ، لكنهم
فطنوا إلى ما دبر صلى الله عليه وآله وسلم ، فطعنوا في تأمير أسامة ، وتثاقلوا عن
السير معه ، فلم يبرحوا من الجرف حتى لحق النبي صلى الله عليه وآله بربه ،
فهموا حينئذ بإلغاء البعث وحل اللواء تارة ، وبعزل أسامة أخرى ، ثم تخلف كثير
منهم عن الجيش كما سمعت . فهذه خمسة أمور في هذه السرية لم يتعبدوا فيها
بالنصوص الجلية ، إيثارا لرأيهم في الأمور السياسية ، وترجيحا لاجتهادهم فيها
على التعبد بنصوصه صلى الله عليه وآله وسلم ، والسلام .
2018-09-21