الرئيسية / الاسلام والحياة / الحكومة الإسلامية: الدرس السابع والعشرون

الحكومة الإسلامية: الدرس السابع والعشرون

الفصل التاسع   في أن بيد ولي الأمر نصب مسؤولي الدولة الإسلامية   إن الإسلام شريعة عالمية وقد أرسل الله تعالى رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فمهما اتسعت هذه الشريعة اتسعت الدولة الإسلامية وكثرت بلادها،

ومع ازدياد الحاجات بحدوث الصنائع والإمكانات الحديثة تحدث الحاجة وتقتضي المصلحة إحداث دوائر مختلفة وربما تقتضي تقسيم الدولة الوسيعة إلى أقطار ونواحٍ وبلاد وقرىً كثيرة فتحدث إدارات مختلفة، وقد عرفت في الفصل الماضي أن بيد ولي الأمر تأسيس أية إدارة يرى تأسيسها صلاحاً للأمة،

فمن المعلوم أن كلاً من هذه الإدارات وهكذا كل من تلك النواحي والبلاد الكثيرة يحتاج إلى مسؤول رئيسي وإلى عمّال آخرين لكي يقوموا كلّ بوظائفهم، فها هنا نقول: إن أمر نصب هؤلاء المسؤولين أيضاً من اختيارات ولي أمر الأمة ووظائفه ينصبهم بنفسه أو بواسطة من يوكل الأمر إليه كيفما شاء ورآه مصلحة للأمة.

والدليل عليه أيضاً من وجهين:   أحدهما: هو الوجه الذي استندنا إليه في كثير من المواضع وهو أنه قد مر أن أدلة كثيرة واضحة الدلالة بل قطعيتها قد دلّت على أن وليّ أمر الأمة قد جعله الله تعالى وليّ أمرهم وأولى بالمؤمنين من أنفسهم وقيّماً منه تعالى عليهم وفوّض إليه أمر الدين والأمة، ولازم كل من هذه العناوين عند العقلاء أن يكون إلى هذا الوليّ وعليه إدارة أمر الأمة بما يكون فيه صلاحهم،

وبعد جعل إدارات ونواح مختلفة في البلاد الإسلامية بمقتضى أن المصلحة تقتضيه فلا شك في أنه لا يحصل الغرض الأصيل من كلٍّ منها إلا بأن يكون على كل وفي كل مسؤول وعمال بمقدار الحاجة، ولا تتحقق إدارة أمر الأمة إلا بنصب هؤلاء المسؤولين والعمال، فلا محالة يكون نصبهم إلى الوليّ عليهم والقيّم بأمر الله عليهم ينصبهم بنفسه أو يوكل إلى من يقدر على نصب الأفراد الصالحين بأي نحو رآه فيه صلاح الأمة.

والوجه الثاني: أن في أدلة خاصة أيضاً دلالة على هذا المعنى، والمتتبّع يقف بأخبار كثيرة واضحة الدلالة على هذا المعنى، فهذا نهج البلاغة مشحون بذكر موارد كثيرة قد نصب أمير المؤمنين (عليه السلام) على البلاد والياً أو عاملاً، كما أنه قد مر في بحث القضاء أيضاً أنه (عليه السلام) جعل شريحاً منصوباً للقضاء بين الناس، فهذه الروايات كثيرة إلا أنا نقتصر هنا على ملاحظة ما كتبه (عليه السلام) في عهده الشريف إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر فقد مر أن سنده تام وفيه موارد متعددة تدل على المطلوب.

فأول العهد الشريف هكذا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوّها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها)[1].

فقد صرح (عليه السلام) بأنه ولّى مالكاً مصر وجعله ونصبه مسؤولاً لإتيان الأمور المذكورة التي هي إدارة أمر أهل مصر من جميع الجهات، ففيه دلالة واضحة على أن لولي أمر الأمة أن ينصب من يراه صالحاً والياً لإدارة هذه الناحية العظيمة من بلاد المسلمين وقد أكد (عليه السلام) أن له من الله تعالى هذه التولية ـ بعد أمر مالك بالعفو والصفح عن الرعية ـ بقوله (عليه السلام): (فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم)[2] فإن ظاهر الجملة الأخيرة أن فاعل فعلى الاستكفاء والابتلاء هو الله تعالى فاستكفى الله مالكاً أمر أهل مصر وابتلاه بهم وهو لا يكون إلا بأن يكون من الله إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) تفويض هذه التولية حتى يكون توليته له كتولية الله له ويتعقبه أن الله تعالى استكفاه أمرهم وابتلاه بهم.

  ففيه دلالة واضحة على أن من الله إلى ولي الأمر أن يولي ولاة النواحي والبلاد.

  2ـ وكتب (عليه السلام) فيه: (إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانةً فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة وأنت واجدُ منهم خيرَ الخَلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليهم مثل آصارهم وأوزارهم… فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ثم ليكن آثرُهم عندك أقولَهم بمُرّ الحق لك وأقلّهم مساعدةً فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعاً ذلك من هواك حيث وقع، والصَق بأهل الورع والصدق ثم رُضهم على أن لا يطروك ولا يبجَحوك بباطل لم تفعله[3] فإن كثرة الإطراء تُحدث الزهو وتدني من العزة)[4].

  فقد ذكر (عليه السلام) من يصلح للوزارة ومن لا يصلح وأمره بأن يتخذ الصلحاء لوزارته والاستشارة بهم لخلواته وحفلاته. ففيه دلالة واضحة على أن لوالي الأمر في ناحية من بلاد المسلمين تعيين الوزراء ومنه يُعلم ثبوت هذا الحق لوالي أمر جميع المسلمين بطريق أصيل أولى. والوزارة وإن كانت في أصل اللغة بمعنى المعاونة والوزير هو المعاون وليس بحسب اللغة بالمعنى المتعارف المعهود منه في أذهاننا إلا أنه لا ينبغي الريب في أن من عيّن لإدارة قسم خاص من أمر البلاد كالزراعة ونحوها أيضاً يكون معيناً للوالي فلا شك في شموله للمعنى المعهود منه في أذهاننا أيضاً، فلا مجال للريب في دلالته على أن إلى الوالي وعليه تعيين هؤلاء الوزراء.

  3ـ وكتب (عليه السلام) فيه في أمر الجند: (فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأنقاهم جَيباً وأفضلهم حلماً ممن يُبطئ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء وينبو على الأقوياء وممن لا يثيره العنف ولا يعقد به الضعف ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والمساحة فإنهم جِماعٌ من الكرم وُشعَبٌ من العُرف…

وليكن آثرُ رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته وأفضل عليهم من جِدَته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدو فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك)[5].   فقد أمره (عليه السلام) بأن ينصب أولياء الأمور في الجنود من يراه في نفسه أنصحهم لله وللرسول ولإمام الأمة ومن يكون له تلك الفضائل التي ذكرها ومن كان من أهل البيوت الصالحة وأهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة. وفيه دلالة واضحة على أن نصب أمراء الجند وتعيين سماتهم إلى والي الأمر. وبعد ذلك أمره بأن يجعل آثرُهم عنده من كان يواسي أعضاء الجند في معونته ويفضل عليهم بما يجده عند نفسه. وهذا كله أمرٌ بنصب أمراء الجند وكيفية انتخاب الأصلح والآثر منهم.

  4ـ وكتب (عليه السلام) فيه: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزلة ولا يَحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه ولا تُشرِف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستمليه إغراء، وأولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه…)[6].

  فتراه (عليه السلام) قد أمر مالكاً بأن يختار للحكم والقضاء بين الناس أفضل رعيته عند نفسه من بين أشخاص لهم هذه الفضائل العالية مع أنهم قليل، وأمره بعد أن اختاره للقضاء بأن ينظر ويتعاهد قضاءه. ومن الواضح أن اختيار من يراه ذا فضائل لهذه التي ذكرها (عليه السلام) للحكم بين الناس عبارة أخرى عن أن تعيين من هو واجد لهذه الصفات ونصبه لمنصب القضاء بيد الوالي، وهذا الاختيار والنصب إنما يكون بيده لأن يقع الدين الإلهي موقعه المناسب له، ولذا فقد علل (عليه السلام) أمره باختيار القاضي ونصبه وتعاهد قضاءه بقوله (عليه السلام): (فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى وتُطلب به الدنيا)[7] يعني: فيا مالك فاعمل أنت بهذه الكيفية في نصب القاضي وتعاهد قضاءه حتى لا يكون للدين أسر ولا يُعمل فيه بالهوى.   فيدل على أن كون أمر نصب القاضي بيد الوالي أمر إلهي مرغوب فيه شرعاً.

  5ـ وقد كتب (عليه السلام) فيه: (ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختباراً ولا تولّهم محاباةً وأثَرةً فإنهما جِماعٌ من شُعب الجور والخيانة، وتوخّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقِدَم في الإسلام المتقدّمة، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصحّ أعراضاً وأقلّ في المطامع إشراقاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً… ثم تفقّد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوةٌ لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية)[8].

فتراه (عليه السلام) قد ذكر الصفات اللازمة الرعاية في عمّال الوالي فجعل اختيار استعمالهم بعد معرفة أنهم واجدوا هذه الصفات إلى الوالي نفسه ثم أمره بتفقّد أعمال هؤلاء العمّال وبعث ناظري الصدق والوفاء عيوناً على العمال لكي يوجب تعاهد أمورهم أن يستعملوا في أعمالهم الأمانة وأن يرفقوا بالرعية.

فدلت هذه الفقرات المباركات على أن أمر نصب العمال بعد معرفة أنهم أهلٌ لأن يستعملوا إلى الوالي وعلى الوالي، وعمّال الوالي هم عمّال الحكومة ويصدق عنوانهم على كل من فوّض عمل من الحكومة إليهم فيعمّ جميع العمّال ويدل العهد الشريف على أن معرفة صلاحيّتهم ونصبهم من اختيارات الوالي ووظائفه.

6. وقد كتب (عليه السلام) في أمر كتّاب الوالي: (ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق… ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحُسن الظن منك، فإن الرجال يتعرّضون لفراسات الولاة بتصنّعهم وحسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء، ولكن اختبرهم بما وُلّوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً وأعرفهم بالأمانة وجهاً فإن ذلك دليلٌ على نصيحتك لله ولمن ولّيت أمره… ومهما كان في كتّابك من عيبٍ فتغابيتَ عنه أُلزِمته)[9].

فهذا المقطع المبارك يدل على أن اختيار من فيه صلاح أن يكون من كتّاب الوالي ونصبه لأمر الكتابة إلى الوالي نفسه فيختارهم للكتابة ويعطي كلاً منهم كتابة أمور هو صالح لكتابتها.   فهذه الموارد الستة المذكورة نماذج من نصب عمال الحكومة بيد الوالي مع أن المورد الخامس منها يشمل كل من يُستعمل لأمر من أمور الولاية، ويستفاد منها بالوضوح أن نصب كل من يطلب منه أمر في دائرة ولاية الوالي فهو من وظائف الوالي واختياراته.

  فهذه الموارد الستة المذكورة نماذج من نصب عمال الحكومة بيد الوالي مع أن المورد الخامس منها يشمل كل من يُستعمل لأمر من أمور الولاية، ويستفاد منها بالوضوح أن نصب كل من يطلب منه أمر في دائرة ولاية الوالي فهو من وظائف الوالي واختياراته.

فهذه الاختيارات ثابتة لمثل مالك الذي جُعل والياً من وليّ أمر الأمة على مصر التي هي ناحية من البلاد الإسلامية، ويُفهم منه أن تلك الاختيارات بنحوٍ أوسع وأصيل ثابتة من الله تعالى لوليّ أمر الأمة النبي أو الأئمة المعصومين عليهم أفضل صلاة الله وسلامه، كما أن نفس تولية مالك ونصبه لولاية مصر مصداقٌ آخر لنصب عاملي الحكومة قد تصداه إمام الأمة وولي الأمر بنفسه، فهذا العهد المبارك فيه دلالة كاملة على أن نصب جميع عمال الولاية يكون إلى ولي الأمر.

  ثم إن من الواضح أن جميع الأمور لا يفوّض إلى عمال الحكومة بل فيها ما لا بد من مباشرة الولي له بنفسه، وهو أمر بيّن، وقد أشار إليه في العهد المبارك حيث كتب فيه: (ثم أمورٌ من أمورك لا بد لك من مباشرتها، منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرَجُ به صدور أعوانك)[10].

فالإتيان في بيان هذه الأمور بلفظة (منها ومنها) شاهدٌ على أن ما ذكره فإنما هو من قبيل المثال، والإنصاف أن مصاديق هذه الأمور تتضح لولي الأمر المتصدّي لإدارة أمر الأمة. والله يهدي إلى الخير وهو ولي التوفيق.

  ــــــــــــــــــــ   [1] نهج البلاغة: ص426 ـ 428 (صبحي الصالح).   [2] نهج البلاغة: ص426 ـ 428 (صبحي الصالح).   [3] أي عوّدهم بأن لا يزيدوا في مدحك وأن لا يفرحوك بنسبة عمل عظيم إليك لم تفعله.   [4] نهج البلاغة: ص430.   [5] نهج البلاغة: ص432 (صبحي الصالح).   [6] نهج البلاغة: ص 433 (صبحي الصالح).   [7] نهج البلاغة: ص434.   [8] نهج البلاغة: ص 435.   [9] نهج البلاغة: ص437.   [10] نهج البلاغة: ص440.

00

اقرأ المزيد على الرابط : http://alwelayah.net/post/14069

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...