إن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ
هذا ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية ،
وليشنعوا على علي وشيعته من ناحية أخرى ، فيردوا بعض أمور الشيعة إلى
يهودي أسلم كيدا للمسلمين ، وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة .
فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط ، ولنكبر المسلمين في
صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من
صنعاء ، وكان أبوه يهوديا وكانت أمه سوداء ، وكان هو يهوديا ثم أسلم ، لا رغبا
ولا رهبا ولكن مكرا وكيدا وخداعا ، ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي ، فحرض
المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه ، وفرقهم بعد ذلك أو قبله شيعا وأحزابا .
هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل ، ولا تثبت للنقد ، ولا ينبغي أن تقام عليها
أمور التاريخ ، وإنما الشئ الواضح الذي ليس فيه شك هو أن ظروف الحياة
الإسلامية في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأي ، وافتراق الأهواء ،
ونشأة المذاهب السياسية المتباينة ، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنة النبي
وسيرة صاحبيه كانوا يرون أمورا تطرأ ، ينكرونها ولا يعرفونها ، ويريدون أن
تواجه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدة وضبط للنفس وضبط للرعية ،
والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه
الأمور الجديدة بنفوس جديدة ، فيها الطمع ، وفيها الطموح ، وفيها الأثرة ، وفيها
الأمل البعيد ، وفيها الهم الذي لا يعرف حدا يقف عنده ، وفيها من أجل هذا كله
التنافس والتزاحم لا على المناصب وحدها بل عليها وعلى كل شئ من حولها ،
وهذه الأمور الجديدة نفسها كانت خليقة أن تدفع الشيوخ والشباب إلى ما دفعوا
إليه ، فهذه أقطار واسعة من الأرض تفتح عليهم ، وهذه الأموال لا تحصى تجبى لهم
من هذه الأقطار ، فأي غرابة في أن يتنافسوا في إدارة هذه الأقطار المفتوحة ،
والانتفاع بهذه الأموال المجموعة ؟ وهذه بلاد أخرى لم تفتح ، وكل شئ يدعوهم
إلى أن يفتحوها كما فتحوا غيرها ، فما لهم لا يستبقون إلى الفتح ؟ وما لهم لا
يتنافسون فيما يكسبه الفاتحون من المجد والغنيمة إن كانوا من طلاب الدنيا ، ومن
الأجر والمثوبة إن كانوا من طلاب الآخرة ؟ ثم ما لهم جميعا لا يختلفون في سياسة
هذا الملك الضخم وهذا الثراء العريض ؟ وأي غرابة في أن يندفع الطامحون
الطامعون من شباب قريش من خلال هذه الأبواب التي فتحت لهم ليلجوا منها إلى
المجد والسلطان والثراء ؟ وأي غرابة في أن يهم بمنافستهم في ذلك شباب الأنصار
وشباب الأحياء الأخرى من العرب ؟ وفي أن تمتلئ قلوبهم موجدة وحفيظة وغيظا
إذا رأوا الخليفة يحول بينهم وبين هذه المنافسة ، ويؤثر قريشا بعظائم الأمور ،
ويؤثر بني أمية بأعظم هذه العظائم من الأمور خطرا وأجلها شأنا ؟
والشئ الذي ليس فيه شك هو أن عثمان قد ولى الوليد وسعيدا على الكوفة
بعد أن عزل سعدا ، وولى عبد الله بن عامر على البصرة بعد أن عزل أبا موسى ،
وجمع الشام كلها لمعاوية ، وبسط سلطانه عليها إلى أبعد حد ممكن بعد أن كانت
الشام ولايات تشارك في إدارتها قريش وغيرها من أحياء العرب ، وولي عبد الله
ابن أبي سرح مصر بعد أن عزل عنها عمرو بن العاص ، وكل هؤلاء الولاة من
ذوي قرابة عثمان ، منهم أخوه لأمه ، ومنهم أخوه في الرضاعة ، ومنهم خاله ، ومنهم
من يجتمع معه في نسبه الأدنى إلى أمية بن عبد شمس .
كل هذه حقائق لا سبيل إلى إنكارها ، وما نعلم أن ابن سبأ قد أغرى عثمان
بتولية من ولى وعزل من عزل ، وقد أنكر الناس في جميع العصور على الملوك
والقياصرة والولاة والأمراء إيثار ذوي قرابتهم بشؤون الحكم ، وليس المسلمون
الذين كانوا رعية لعثمان بدعا من الناس ، فهم قد أنكروا وعرفوا ما ينكر الناس
ويعرفون في جميع العصور ( 1 ) .
شاهد أيضاً
الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ
أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...