ولكننا مع ذلك . . سنحاول أن نظهر بعض التوجهات الخاصة التي نلمحها لدى كل أمة بقدر الإمكان ، وذلك على النحو التالي :
1 – الطب عند المصريين :
لقد كانت الرقى والعزائم أساس الطب المصري القديم ، لاعتقادهم أن الأمراض من الآلهة ، فلا تشفيها إلا التوسلات لها ، فكانوا يلجأون إلى الكهنة لقربهم منها ( 1 ) .
وأول طبيب عرف باسمه من المصريين هو « ايمتحب » الذي عاش حوالي القرن الثلاثين قبل الميلاد ( 2 ) .
وتوجد أوراق من البردى – وهي سبع – وقد كتب بعضها في القرن السادس أو السابع عشر ، وبعضها قبل ألفي سنة للميلاد ، وفيها ما يرتبط بالطب ( 3 ) .
ويذكر وجدي أنه من المعروف : أن أحد فراعنة مصر ، وهو نيتي بن فينيس ، قد ألف كتاباً في علم التشريح . واشتهر الملك « نيخور دفس » وهو من الأسرة الثالثة من الفراعنة بوضعه رسالة في الطب ، كما أن قيروش ودار ملكي الفرس قد عينا في قصورهما أطباء من المصريين .
ويقول وجدي : « كان للأطباء المصريين امتيازات ، مثل اعفائهم من الضرائب وكان الناس يحملون إليهم هدايا بدل الأجور ، وكان منهم من هو
موظف عند الحكومة تنقده أجره في كل شهر ، وكان الناس يستشيرونه بدون أجر » ( 1 ) .
2 – الطب عند الكلدان ، والبابليين ، والأشوريين ، والإسرائيليين :
أما الكلدان فكان أطباؤهم من السحرة ، وكان جل اهتمامهم موجهاً إلى معالجة المريض بالرقى ، مع السماح له بتعاطي بعض الأعشاب ، وكانت جميع الأمراض عندهم تعزى إلى الأرواح الشريرة .
كما أن الأشوريين والبابليين كانوا يعتمدون في معالجاتهم على الرقى والعزائم بصورة عامة . . ويعتمدون – فيما عن البابليين على الوثائق التي وجدت في خزانة كتب الملك آشور بانيبال ، وهي الآن في المتحف البريطاني ، ويرجع حكم ذلك الملك إلى القرن السابع قبل الميلاد ( 2 ) .
وقد تقدم : أن كهنة بابل كانوا يضعون مرضاهم في الأزقة ، ومعابر الطرق حتى إذا مرّ أحد كان قد أصيب بهذا المرض وشفي ، أعلمهم بسبب شفائه ، فيكتبون ذلك . . الخ .
ويوجد في قانون حمورابي الأشوري ، الذي حكم حوالي القرن العشرين قبل الميلاد مواد قانونية خاصة بالطب الجراحي ( 3 ) .
أما الإسرائيليون ، فقد كان الطب عندهم بيد رجال الدين ، وقد وجد في التلمود بعض ما يرتبط بالطب ( 4 ) .
ولكن ليعلم : أن التلمود ليس له من القدم بحيث يعبر وجود ذلك فيه عن نبوغ خاص للإسرائيليين في علم الطب ، بل هو قد وضع بعد أن قطع الطب شوطاً كبيراً في كثير من مجالاته .
3 – الطب عند الهنود :
وهو عندهم أيضاً يعتمد على السحر والرقى ، وفي كتابهم المسمى « ريجفيدا » الذي يتحدث عن خصائص أعشاب كثيرة تجد دعوات تتلى لكثير من الأمراض .
و « كان الطب عندهم بيد البراهمة ، وقد عرف اليونانيون أيام مدنيتهم بأن الطب الهندي أرقى من طبهم ، ولكنهم لم يفصلوا وجه هذا الرقى ، فقد تكلم أبقراط كثيراً عن علاجاتهم ، وكان تيوفراست يذكر أعشاباً طبية أخذها عنهم » ( 1 ) .
4 – الطب عند الصينيين :
ويذكر وجدي أن الصينيين يزعمون : أنه كان لديهم حدائق لتربية النباتات الطبية قبل المسيح بثلاثة آلاف عام ، وينسبون إلى الملك « هوانج تي » كتاباً في الطب ألفه – حوالي سنة 2600 قبل الميلاد ، وهو باق عندهم إلى اليوم .
وقد استفاد منهم الأوروبيون في معارفهم الطبية ، ويقال : إن العالم « بوردو » قد أخذ مباحثه في النبض عن الكتب الصينية ، والمادة الطبية ، كانت أهم ما شغلهم ويعتبر كتابهم المسمى « بنتاو » كنز المادة الطبية وفيه [ 1100 ] مادة يسرد خصائصها العلاجية .
وصناعة الطب عندهم حرة يتعاطاها من شاء ، وكانت مدارسهم الطبية في المدن إلى القرن العاشر كثيرة ، ثم اختفت إلا مدرسة في العاصمة ( 1 ) .
5 – الطب عند اليونان ، والرومان :
لقد رأينا في الإلياذة لهوميروس إشارات إلى كثير من المعلومات الطبية ولا سيما الجراحية ( 2 ) .
وكان الطب موجوداً لدى اليونان قبل أبقراط ، لأنه هو نفسه ينقل عن مؤلفات سابقة ، ولكن أبقراط قد خلص هذا العلم مما علق به من الشعوذة والعقائد بالأرواح ، ولم يقم أبقراط بما قام به إلا اعتماداً على الثروة الطبية الجيدة التي ورثها عن أسلافه ( 3 ) .
ويذكر وجدي أيضاً : أن الكتب التي سبقت أبقراط مفقودة ، وليس لدينا أقدم من كتبه الآن ، وكان الطب عندهم سحرياً يعتمد على الرقى والعزائم . ثم لما نبغ الفلاسفة أمثال أنكزيماندوا ، وبارفيد ، وهيراقليت وغيرهم تكلموا في الأهوية ، والأغذية ، والأمراض ، وغير ذلك . ثم جاء فيثاغورس فاشتغل بالطب وكتب أمبيدو كل في الجنين والحواس ، والوراثة والتوالد .
ثم ترقى الطب عندهم حتى أس بطليموس الأول والثاني ملكا مصر مدرسة الإسكندرية ، التي نبغ منها جالينوس ، الذي عاش في القرن السادس قبل الهجرة .
وكان الطب الروماني مبنياً على الخرافات والأوهام ، واليونان هم الذين
أدخلوا العلم الطبي إليهم من مدرسة الإسكندرية – التي استمرت – كما يقول البعض ( 1 ) إلى أواخر القرن الأول الهجري – ولعل أول طبيب يوناني دخل رومية هو أركاجانوس بن ليزانياس سنة 192 قبل المسيح ، ثم سقط إلى الحضيض على إثر بعض أعماله الجراحية ، ثم عاد فدخلها من العلماء اليونانيين من كان له أثر كبير في نشر هذا العلم هناك ( 2 ) .
6 – الطب عند الفرس :
قد تقدم أن البعض يقول : إن كهنة الفرس هم واضعو علم الطب .
ويذكر وجدي : أن الطب كان عندهم مخلوطاً من الرقى والتعزيم ، وشئ من المبادئ الطبية العلمية . وإن تاريخ الطب عندهم يصعد إلى نحو القرن الرابع قبل المسيح ( عليه السلام ) ، وأصوله الأولية مذكورة في كتابهم المقدس زندافستا في الفصل المعنون به « فنديد » وخصوصاً تحت عنوان « فارجاد » ، وهو أحدث تاريخاً من كتب « الفيدا » الهندية المقدسة ( 3 ) .
وكحصيلة لما تقدم ، فإن جورج سارتون يقول : إن في وسعنا أن نقرر : أن القسم الأكبر من المعارف الطبية يرجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد ( 4 ) .
هذا . . ولأهمية جامعة جند يشابور في النهضة الإسلامية ، نرى أنه لا
بد من إعطاء لمحة عن هذه الجامعة الشهيرة ، فنقول :
جامعة جند يشابور :
تقع مدينة جند يشابور بين شوشتر وخرابات شوش في خوزستان ( 1 ) .
ويظهر من كلام القفطي : أنها كانت مركزاً طبياً شهيراً من عهد شابور الأول ، وأن الطب قد انتقل إليها من الروم ( 2 ) .
ويحتمل البعض أن مدرسة الطب فيها كانت قبل القرن الرابع أو الخامس الميلادي ( 3 ) .
يقول القفطي : إنه بعد أن انتقل إليها بعض الأطباء الروم مع ابنة ملكهم « ولما أقاموا بها بدأوا يعلمون أحداثاً من أهلها ، ولم يزل أمرهم يقوى في العلم ، ويتزايدون فيه ، ويرتبون قوانين العلاج على مقتضى أمزجة بلدانهم حتى برزوا في الفضائل . وجماعة يفضلون علاجهم وطريقتهم على اليونانيين والهند ؛ لأنهم أخذوا فضائل كل فرقة ؛ فزادوا عليها بما استخرجوه من قبل نفوسهم ! فرتبوا لهم دساتير وقوانين ، وكتباً جمعوا فيها كل حسنة ، حتى إن في سنة عشرين من ملك كسرى اجتمع أطباء من جند يشابور بأمر الملك ، وجرى بينهم مسائل وأجوبتها . وأثبتت عنهم . وكان أمراً مشهوراً . وكان واسطة المجلس : جبرائيل درستباذ ؛ لأنه كان طبيب كسرى . والثاني : السوفسطائي وأصحابه . ويوحنا ، وجماعة من الأطباء . .
وجرى لهم من المسائل والتعريفات ما إذا تأملها القارئ لها استدل على فضلهم وغزارة علمهم . . ( 1 ) .
ويقال : إن خسرو أنوشروان قد أرسل برزويه الطبيب ، والمشرف على أمور الطب جند يشابور – أرسله – مع هيئة خاصة إلى مختلف البلدان لجلب الكتب الطبية ( 2 ) .
ويرى البعض : أن الطب في جند يشابور مزيج من طب اليونان ، والهند ، وإيران ومدرسة مرو ( 3 ) .
شاهد أيضاً
الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ
أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...