الرئيسية / القرآن الكريم / بيّنات في معرفة القرآن الكريم

بيّنات في معرفة القرآن الكريم

نظرة تفسيريّة موضوعيّة في خصائص القرآن الكريم

أ- الفرق بين نزول القرآن وتنزيله:

النزول هو الورود على المحلّ من العلوّ. ويكمن الفرق بين الإنزال والتنزيل في أنّ الإنزال دفعيّ، والتنزيل تدريجيّ، فقوله تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾[1], ظاهر في نزول القرآن تدريجيّاً في مجموع مدّة الدعوة، وهي ثلاث وعشرون سنة تقريباً، والمتواتر من التاريخ يدلّ على ذلك.

وربّما استُشكل على هذا القول بتنافيه مع آيات أخرى يستفاد من مجموعها نزول القرآن في ليلة القدر.

وبالتدبّر في آيات القرآن الكريم، نجد أنّ الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه، إنّما عبّرت عن ذلك بلفظ الإنزال الدالّ على الدفعة دون التنزيل[2]: ﴿شَهْرُ

 


رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ…﴾[3], ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ...﴾[4], ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾[5].

 

ب- فلسفة تعدّد نزول القرآن وتنزيله:

الظاهر من الآيات المتقدّمة أنّ للقرآن نزولين: أحدهما دفعيّ، والآخر تدريجيّ.

 

وهنا نسأل: ما فلسفة نزول القرآن مرّتين؟ وما هي حقيقة النازل من القرآن في النزولين؟

وللجواب عن هذا السؤال، لا بدّ من طرح احتمالات المسألة وتقويمها على ضوء مصادر التفسير وأصوله: (اللغة/ العقل/ النقل: “القرآن والسنّة“). ويوجد في المسألة احتمالان، هما:

– إنّ النازل بالنزولين هو نفسه، وهو القرآن المفصّل العربيّ.

– إنّ النازل بالنزولين مختلف بالإحكام والتفصيل، فالنزول الأوّل هو لحقيقة القرآن المحكمة، والتنزيل الثاني للقرآن المفصّل العربيّ، الذي يرجع إلى حقيقة القرآن ويحكي عنها، حكاية الصورة عن الواقع الخارجيّ.

وفي مقام ترجيح أحد الاحتمالين، يمكن القول: إنّه لا بدّ من وجود حكمة في تعدّد النزول، فإذا كان النازل ثانياً (تدريجيّاً) هو نفسه النازل أولاً (دفعيّاً)، فهذا تحصيل حاصل، ولا فائدة مرجوّة منه، فيكون خلاف حكمة الحكيم، وهذا باطل بحكم العقل القطعيّ. وإذا قيل: إنّ فيه فائدة مرجوّة، وهي أنّ النزول الثاني (التدريجيّ) يسهّل على الناس تعلّم القرآن وضبطه وحفظه وصيانته، ويثبّتهم في الوقائع والحوادث المصيريّة والحسّاسة التي كانوا يمروّن بها، فهذا من دون أدنى شكّ توجيه صحيح بالنسبة إلى الحكمة من تنزيله على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فيما يرجع إلى الناس من فائدة، ولكنّه لا يقدّم توجيهاً بالنسبة إلى الفائدة الراجعة إلى تعدّد نزول القرآن على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالنزولين الأوّل والثاني.

ولذا لا بدّ من توجيه آخر في هذا الصدد، وهو ما تكفّل القرآن بتقديمه، إذ إنّ المتأمّل في الآيات القرآنيّة يجدها تتحدّث عن مقامين للقرآن، هما: القرآن المحكم، وهو حقيقة

القرآن، والقرآن المفصّل، وهو القرآن العربيّ المبين. الأوّل نزل على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّه في نفسه الطاهرة يستعدّ لتقبّل نزوله بحقيقته على قلبه، في حين أنّ التنزيل التدريجيّ للقرآن في المرّة الثانية على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، هو بفعل عدم لياقة الناس واستعدادهم لتحمّل حقيقة القرآن. وكي لا يحرموا من بركة هداية القرآن، قضى الله تعالى إلباسه ثوب الألفاظ واللغة العربيّة، ليتمكّنوا من خلال هذا التنزيل من نيل ما أمكنهم، بحسب إيمانهم وعملهم، من بركات حقيقة القرآن: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[6], ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[7].

 

ج- القرآن في مرتبة الإحكام:

إنّ كون القرآن ذا حقيقة محكمة وراء كونه مفصّلاً، هو المستفاد من الآيات الكريمة، كقوله تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾[8], فإنّ هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وقطعة قطعة. فالإحكام كونه على نحو لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز فيه بعضه من بعضه الآخر، لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء فيه ولا فصول. والآية ناطقة بأنّ هذا التفصيل المشاهَد في القرآن إنّما طرأ عليه ولحقه بعد كونه محكماً غير مفصّل. وأوضح منه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق…﴾[9], وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ … بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ[10], فإنّ الآيات الشريفة، وبخاصّة الآية التي وردت في سورة يونس، ظاهرة الدلالة على أنّ التفصيل أمر طارئ لاحق على الكتاب. فالكتاب نفسه شيء، والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر. وإنّهم إنّما كذّبوا في الدنيا

بالتفصيل من الكتاب، لكونهم ناسين شيئاً يؤول إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة. وفي الآية إشعار بأنّ أصل الكتاب هو تأويل تفصيل الكتاب. وأوضح منه قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[11], فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتاباً مبيناً عَرَضَ عليه جعله مقروءاً عربياً، وإنّما أُلبِسَ لباس القراءة والعربيّة ليعقله الناس، والحال أنّه في أمّ الكتاب عند الله عليّ، لا تصعد إليه العقول، حكيم، لا يوجد فيه تفصيل. وفي الآية تعريف بالكتاب المبين وأنّه أصل القرآن العربيّ المبين. وفي هذا السياق أيضاً قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *  فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ[12], فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون، لا يمسّه هناك أحد إلا المطهّرون من عباد الله، وأنّ التنزيل بعده. وأمّا قبل التنزيل، فله موقع في كتاب مكنون عن الأغيار، وهو الذي عُبِّر عنه في آيات سورة الزخرف بـ “أمّ الكتاب“، وفي سورة البروج بـ “اللوح المحفوظ“، حيث قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ[13]. وهذا اللوح إنّما كان محفوظاً لحفظه من ورود التغيّر عليه. ومن المعلوم أنّ القرآن المنزل تدريجياً لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ، وعن التدريج الذي هو نحو من التبدّل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن العربي المفصّل وحكمه الخالي عن التفصيل، أمر وراء هذا المنزل، وإنّما هذا بمنزلة اللباس والتنزّل لذاك.

وبالجملة، فإنّ المتدبّر في الآيات القرآنيّة لا يجد مناصاً من الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزل على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تدريجيّاً، متّكئاً على حقيقة غيبيّة متعالية عن أن تدركها أبصار عقول الناس، أو تتناولها أيدي الأفكار المتلوّثة بألواث المادّة والمحدودة بحدودها، وأنّ تلك الحقيقة أُنزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إنزالاً، فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه[14].

[1] سورة الإسراء، الآية 106.

[2] الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج2، ص15-16. بتصرّف.

[3] سورة البقرة، الآية 185.

[4] سورة الدخان، الآية 3.

[5] سورة القدر، الآية 1.

[6] سورة يوسف، الآية 2.

[7] سورة الزخرف، الآيات 2-4.

[8] سورة هود، الآية 1.

[9] سورة الأعراف، الآيتان 52-53.

[10] سورة يونس، الآيتان 37، 39.

[11] سورة الزخرف، الآيات 2-4.

[12] سورة الواقعة، الآيات 75-80.

[13] سورة البروج، الآيتان 21 – 22.

[14] الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج2، ص16-19، ج18، ص83-84. بتصرّف.

شاهد أيضاً

اليمن – رمز الشرف والتضامن العربي مع غزة فتحي الذاري

ان الحشد المليوني للشعب اليمني بكافة قواه الفاعلة والاصطفاف الرشيد بقيادة السيد القائد عبدالملك بدرالدين ...