الرئيسية / القرآن الكريم / الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

الامثال في القران – الشيخ جعفر السبحاني

الاَمثال
في
القرآن الكريم

دراسة مبسّطة
حول الاَمثال الواردة في الكتاب العزيز

تأليف
العلاّمة المحقّق
جعفر السبحاني


( 2 )


( 3 )

بسم الله الرحمن الرحيم



(لَوْ أَنْزلْنا هَذَا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الاَْمثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يِتَفَكّرُون)(1)

____________
1 ـ (الحشر: 21)

الاَمثال في القرآن


وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً:
الاَوّل: المثل في اللغة
يظهر من غير واحد من المعاجم، كلسان العرب والقاموس المحيط، أنّ للفظ “المثل” معانى مختلفة، كالنظير والصفة والعبرة وما يجعل مثالاً لغيره يُحذا عليه إلى غير ذلك من المعانى. (1)
قال الفيروز آبادي: المِثْل ـ بالكسر والتحريك ـ الشبه، والجمع أمثال؛ والمَثَلُ ـ محرّكة ـ الحجة،والصفة؛ والمثال: المقدار والقصاص، إلى غير ذلك من المعانى.(2)
ولكن الظاهر أنّ الجميع من قبيل المصاديق، وما ذكروه من باب خلط المفهوم بها وليس للّفظ إلا معنى أو معنيين، والباقي صور ومصاديق لذلك المفهوم، وممن نبَّه على ذلك صاحب معجم المقاييس، حيث قال:
المِثْل والمثَل يدلاّن على معنى واحد وهو كون شيء نظيراً للشيء، قال
____________
1 ـ لسان العرب:13|22، مادة مثل.
2 ـ القاموس المحيط:4|49، مادة مثل.


( 6 )

ابن فارس: “مثل” يدل على مناظرة الشيء للشىء، وهذا مثل هذا، أي نظيره، والمثل والمثال بمعنى واحد. وربما قالوا: “مثيل كشبيه”، تقول العرب: أمثل السلطان فلاناً، قتله قوداً، والمعنى أنّه فعل به مثلما كان فعله.
والمِثْل: المثَل أيضاً، كشِبْه وشبَه، والمثل المضروب مأخوذ من هذا، لانّه يذكر مورّى به عن مثله في المعنى.
وقوله: مَثَّلَ به إذا نُكِّل، هو من هذا أيضاً، لاَنّ المعنى فيه إذا نُكل به: جعل ذلك مثالاً لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه. والمثُلات أيضاً من هذا القبيل، قال الله تعالى: (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلات ) (1) أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لاَجله، وواحدها:مُثُل. (2)
وعلى الرغم من ذلك فمن المحتمل أن يكون من معانيه الوصف والصفة، فقد استعمل فيه إمّا حقيقة أو مجازاً، وقد نسب ابن منظور استعماله فيه إلى يونس ابن حبيب النحوي (المتوفّى182هـ)، ومحمد بن سلام الجمحي(المتوفّى 232هـ)، وأبي منصور الثعالبي (المتوفّى 429 هـ). (3)
ويقول الزركشى(المتوفّى 794هـ) : إنّ ظاهر كلام أهل اللغة أن المثل هو الصفة، ولكن المنقول عن أبى على الفارسى (المتوفّى 377هـ) أنّ المثل بمعنى الصفة غير معروف في كلام العرب، إنّما معناه التمثيل. (4)
ويدل على مختار الاَكثر ما أورده صاحب لسان العرب، حيث قال: قال
____________
1 ـ الرعد:6.
2 ـ معجم مقاييس اللغة:5|296.
3 ـلسان العرب: 13|22، مادة مثل.
4 ـ البرهان في علوم القرآن:1|490.


( 7 )

عمر بن أبى خليفة: سمعت مُقاتِلاً صاحب التفسير، يسأل أبا عمرو بن العلاء، عن قول الله عزّ وجلّ: (مَثَلُ الجَنّة )، ما مَثَلُها؟ فقال: (فيهَا أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسن)، قال: ما مَثَلُها؟ فسكت أبو عمرو.
قال: فسألت يونس عنها، فقال: مَثَلها صفتها، قال محمد بن سلام: ومثل ذلك قوله: (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِِنْجِيل )(1) أي صفتهم.
قال أبو منصور: ونحو ذلك روي عن ابن عباس، وأمّا جواب أبى عمرو لمقاتل حين سأله ما مثَلُها، فقال: فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ، ثمّ تكريره السوَال ما مَثَلُها وسكوت أبى عمرو عنه، فانّ أبا عمرو أجابه جواباً مقنعاً، ولما رأى نبوة فَهْمِ مقاتل، سكت عنه لما وقف من غلظ فهمه. وذلك انّ قوله تعالى: (مثل الجنّة) تفسير لقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُدخِلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهار ) (2) وصف تلك الجنات، فقال: مَثَلُ الجنة التي وصفتها، وذلك مثل قوله: (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِِنْجيل ) أي ذلك صفة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه في التوراة ، ثم أعلمهم أنّ صفتهم في (3) الاِنجيل كزرعٍ.
ثمّ إنّ الفرق بين المماثلة والمساواة، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين، لاَنّ التساوي هو التكافوَ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، وأمّا المماثلة فلا تكون إلاّ في المتفقين. (4)
____________
1 ـ الفتح:29.
2 ـ الحج:14.
3 ـ لسان العرب: مادة مثل.
4 ـ لسان العرب: مادة مثل.


( 8 )

وأمّا الفرق بين المماثلة والمشابهة هو أنّ الاَُولى تستعمل في المتفقين في الماهية والواقعية، بخلاف الثانية فإنّما تستعمل غالباً في مختلفي الحقيقة، المتفقين في خصوصية من الخصوصيات.
وبهذا يعلم أنّ التجربة تجري في المتماثلين والمتفقين في الحقيقة، كانبساط الفلز حينما تمسُّه النار، وهذا بخلاف الاستقراء، فإنّ مجراه الاَُمور المختلفة كاستقراء أنّ كل حيوان يتحرك فكه الاَسفل عند المضغ، فيتعلّق الاستقراء بمختلفي الحقيقة كالشاة والبقرة والاِبل.
وقد تكرر في كلام غير واحد من أصحاب المعاجم أن المَـثَل والمثْل سيان، كالشَبَه والشبْه، ومع ذلك كلّه نرى أنّ القرآن ينفي المثْل لله ، ويقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء ) (1) وفي الوقت نفسه يُثبت له المثَل، ويقول: (لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخرةِ مَثَلُ السَّوءِ وَللهِ المَثَلُ الاََعْلى وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيم ). (2) والجواب: أنّه لا منافاة بين نفي المِثْل لله واثبات المَثَل له؛ أمّا الاَوّل، فهو عبارة عن وجود فرد لواجب الوجود يشاركه في الماهية، ويخالفه في الخصوصيات، فهذا أمر محال ثبت امتناعه في محلّه، وأمّا المَثَلُ فهو نُعوت محمودة يُعرف بها الله سبحانه كأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعلى هذا، المَثَلُ في هذه الآية وما يشابهها بمعنى ما يوصف به الشيء ويعبَّر به عنه ، من صفات وحالات وخصوصيات.
فهذه الآية تصرّح بأنّ عدم الاِيمان بالآخرة مبدأ لكثير من الصفات
____________
1 ـ الشورى:11.
2 ـ النحل: 60.


( 9 )

القبيحة، ومصدر كل شر، وفي المقابل أنّ الاِيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كلّ خير وبركة، فكلّ وصف سوء وقبيح يلزم الاِنسان ويلحقه، فإنّما يأتيه من قبل عدم الاِيمان بالآخرة، كما أنّ كلّ وصف حسن يلزم الاِنسان ينشأ من الاِيمان بها، وبذلك ظهر معنى قوله: (لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَة مَثَل السَّوء) الذي يدلّ بالملازمة للذين يوَمنون بالآخرة لهم مثل الحسن.
وأمّا قوله سبحانه: (وَللهِ المَثَلُ الاََعلى) فمعناه أنّه منزّه من أن يوصف بصفات مذمومة وقبيحة كالظلم، قال سبحانه: (ولا يَظلم رَبُّك أَحداً ). (1) وفي الوقت نفسه فهو موصوف بصفات محمودة.
فكلّ وصف يستكرهه الطبع أو يردعه العقل فلا سبيل له إليه، فهو قدرة لا عجز فيها، وحياة لا موت معها إلى غير ذلك من الصفات الحميدة، بخلاف ما يقبله الطبع فهو موصوف به.
وقد أشار إلى ذلك في غير واحد من الآيات أيضاً، قال: (وَلَهُ المَثَلُ الاََعلى فِي السَّماواتِ وَالاََرْضِ ) (2) وقال: (لَهُ الاََسْماءُ الحُسْنى ) (3)، فالاَمثال منها دانية ومنها عالية فإنّما يثبت له العالي بل الاَعلى. (4)
ومنه يعلم أنّ الاَمثال إذا كان جمع مثْل ـ بالسكون ـ فالله سبحانه منزّه من المثْل والاَمثال، وأمّا إذا كان جمع مثَل ـ بالفتح ـ بمعنى الوصف الذي يحمد به سبحانه، فله الاَمثال العليا، والاَسماء الحسنى كما مرّ.

____________
1 ـ الكهف:49.
2 ـ الروم:27
3 ـ طه:8.
4 ـ لاحظ: الميزان: 12|249.


( 10 )

الثاني: المَثَلَ في الاصطلاح
المَثَلُ: قسم من الحكم، يرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها، ثمّ يتداولها الناس في غير واحد من الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.
فالكلمة الحكيمة على قسمين: سائر منتشر بين الناس ودارج على الاَلسن فهو المثل، وإلا فهي كلمة حكيمة لها قيمتها الخاصة وإن لم تكن سائرة. فما ربما يقال : “المثل السائر” فالوصف قيد توضيحي لا احترازي، لاَنّ الانتشار والتداول داخل في مفهوم المثل، ويظهر ذلك من أبى هلال العسكري (المتوفّى حوالى 400هـ )، حيث قال: جعل كل حكمة سائرة، مَثَلاً، وقد يأتى القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به إلاّ أنّه لا يتفق أن يسير فلا يكون مَثَلاً. (1)
وكلامه هذا ينم”انّ الشيوع والانتشار وكثرة الدوران على الاَلسن هو الفارق بين الحكمة والمثل، فالقول الصائب الصادر عن تجربة يسمّى حكمة إذا لم يتداول،ومثلاً إذا كثر استعماله وشاع أداوَه في المناسبات المختلفة”.
ولاَجل ذلك يقول الشاعر:
ما أنت إلا مثل سائـريعرفه الجاهل والخابر
وأمّا تسمية ذلك الشيء بالمثال، فهو لاَجل المناسبة والمشابهة بين الموردين على وجه يُصبح مثالاً لكل ما هو على غراره.

____________
1 ـ جمهرة أمثال العرب:1|5.


( 11 )

قال ابن السكيت(المتوفّى عام 244هـ) : المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ، شبّهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره. (1)
وبما انّ وجه الشبه والمناسبة التي صارت سبباً لاِلقاء هذه الحكمة غير مختصة بمورد دون مورد، وإن وردت في مورد خاص يكون المثل آية وعلامة أو علماً للمناسبة الجامعة بين مصاديق مختلفة.
يقول المبرّد: فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الاَوّل، كقول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لها مَثَلا ًومـا مـواعيـدهـا إلاّ الاَباطيل
فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد (2)
وعلى ذلك فالمثل السائر كقوله: “في الصيف ضيعتِ اللبن” علم لكل من ضيَّع الفرصة وأهدرها، كما أن قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : “لا ينتطح فيها عنزان” علم لكلّ أمر ليس له شأن يعتد به. (3)
كما أنّ قول أبى الشهداء الحسين بن على (عليهما السلام) : “لو ترك القطا ليلاً لنام” الذي تمثل به الاِمام (عليه السلام) في جواب أُخته زينب (عليها السلام) ،علم لكل من لا يُترك بحال أو من حُمل على مكروه من غير إرادة، إلى غير ذلك من الاَمثال الدارجة.

____________
1 ـ مجمع الاَمثال:1|6.
2 ـ مجمع الاَمثال:1|6.
3 ـ مجمع الاَمثال:2|225.


( 12 )

الثالث: فوائد الاَمثال السائرة
ذكر غير واحد من الا َُدباء فوائد جمة للمثل السائر:
1. قال ابن المقفّع (المتوفّـى عام 143هـ) : إذاجعـل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث.
2. وقال إبراهيم النظّام (المتوفّـى عام 231هـ) : يجتمـع في المثل أربعـة لا تجتمع في غيره من الكلام : إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة.
وقال غيرهما: سُمِّيت الحِكَم القائم صدقها في العقول أمثالاً، لانتصاب صورها في العقول مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب. (1)
وقد نقل ابن قيم الجوزية (المتوفّى عام 751هـ) كلام النظّام بشكل كامل، وقال:
وقد ضرب الله ورسوله الاَمثال للناس لتقريب المراد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثّل به فقد يكون أقرب إلى تعقّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره، فإن النفس تأنس بالنظائر والاَشباه وتنفر من الغربة والوحدةوعدم النظير.
ففي الاَمثال من تأنّس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره، وكلّما ظهرت الاَمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً، فالاَمثال شواهد المعنى المراد، وهي خاصية العقل ولبّه وثمرته. (2)

____________
1 ـ مجمع الاَمثال :1|6.
3 ـ أعلام الموقعين:1|291.وما ذكره من الفائدة مشترك بين المثل السائر الذي هو موضوع كلامنا، والتمثيل الذي شاع في القرآن، وسيوافيك الفرق بين المثل السائر والتمثيل.


( 13 )

وقال عبد القاهر الجرجاني (المتوفّى عام 471هـ) : إعلم أنّ مما اتّفق العقلاء عليه انّ التمثيل إذاجاء في أعقاب المعانى، أو أُبرزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت عن صورها الاَصلية إلى صورته كساها أُبّهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار من أقاصى الاَفئدة صبابة وكلفاً، وقسر الطّباع على أن تُعطيها محبة وشغفاً.
فإن كان ذمّاً: كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشدّ، وحدّه أحد.
وإن كان حجاجاً: كان برهانه أنور،وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر.
وإن كان افتخاراً: كان شأوه أمدّ، وشرفه أجد (1) ولسانه ألد.
وإن كان اعتذاراً: كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ، ولغَرْب الغضب أفلّ،وفي عُقد العقود أنفث،وحسن الرجوع أبعث.
وإن كان وعظاً: كان أشفى للصدر ، وأدعى إلى الفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر أن يجلى الغياية (2) ويُبصّـر الغاية، ويبريَ العليل، ويشفي الغليل.(3)
4. وقال أبو السعود (المتوفّى عام 982هـ) : إنّ التمثيل ليس إلاّ إبراز المعنى المقصود في معرض الاَمر المشهور، وتحلية المعقول بحلية المحسوس، وتصوير أوابد المعانى بهيئة المأنوس، لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفيّة، وفهم الدّقائق الاَبيّة؛ كي
____________
1 ـ من الجد: الحظ، يقال: هو أجدّ منك، أي أحظ.
2 ـ الغياية: كل ما أظلك من فوق رأسك.
3 ـ أسرار البلاغة: 101 ـ 102.


( 14 )

يتابعه فيما يقتضيه، ويشايعه إلى ما لا يرتضيه، ولذلك شاعت الاَمثال في الكتب الاِلهية والكلمات النبوية، وذاعت في عبارات البلغاء، وإشارات الحكماء.
إن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقا الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبىّ، وقمع سورة الجامح الاَبىّ، كيف لا، وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبرازها لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداء للمنكر في صورة المعروف، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف. (1)
ولعلّ في هذه الكلمات غنى وكفاية فلا نطيل الكلام، غير انّه يجب التنبيه على نكتة، وهي أن السيوطى نقل في “المزهر” عن أبى عبيد أنّه قال:
الاَمثال حكمة العرب في الجاهلية والاِسلام وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق بكناية. (2)
ولا يخفى أنّ الاَمثال ليست من خصائص العرب فحسب ، بل لكلّ قوم أمثال وحكم يقرّبون بها مقاصدهم إلى إفهام المخاطبين ويبلغون بها حاجاتهم، وربما يشترك مَثَلٌ واحد بين أقوام مختلفة، ويصبح من الاَمثال العالمية، وربما تبلغ روعة المثل بمكان يقف الشاعر أمامه مبهوراً فيصب مضمونه في قالب شعري.
روى الطبري عن مهلّب بن أبي صفرة، قال: دعا المهلَّب حبيباً ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة. (3)
وليس المهلب أوّل من ساق هذا المثل على لسانه، فقد سبقه غيره إليه.

____________
1 ـ هامش تفسير الفخر الرازي:1|156، المطبعة الخيرية، ط الا َُولى، مصر ـ 1308هـ.
2 ـ المزهر:1|288.
3 ـ تاريخ الطبري: حوادث سنة 82 هـ .


( 15 )

روى أبو هلال العسكري في جمهرته، عن قيس بن عاصم التميمى (المتوفّـى عام 20 هـ ) الاَبيات التالية التي تعرب بأنّ المثل صبّ في قالب الشعر أيضاً:
بصلاح ذات البين طول بقائكم إن مُدّ في عمري وإن لم يُمدد
حتى تلين قلوبكم وجلودكم لمسوّد منكم وغير مسوّد
إنّ القداح إذا جمعن فرامها بالكسر ذو حنق وبطش باليد
عزّت فلم تكسر وإن هي بُدّدت فالوهن والتكسير للمتبدّد (1)
وقد نقل المسعودي في ترجمة عبد الملك بن مروان، وقال:
كان الوليد متحنّناً على إخوته، مراعياً سائر ما أوصاه به عبد الملك، وكان كثير الاِنشاد لاَبيات قالها عبد الملك حين كتب وصيته، منها:
انفوا الضغائن عنكم وعليكم عند المغيب وفي حضور المشهد
إنّ القداح إذا اجتمعن فرامها بالكسر ذو حنق وبطش باليد
عزّت فلم تكسر وإن هي بُدّدت فالوهن والتكسير للمتبدّد (2)
____________
1 ـ جمهرة الاَمثال:1|48.
2 ـ مروج الذهب: أخبار الوليد بن عبد الملك.


( 16 )

الكتب الموَلّفة في الاَمثال العربية
وقد أُلّفت في الاَمثال العربية قديمها وحديثها كتباً كثيرة، وأجمع كتاب في هذا المضمار هو ما ألّفه أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الميداني (المتوفّى عام 518هـ) وأسماه بـ”مجمع الاَمثال” لاِحتوائه على عظيم ما ورد منها وهي ستة آلاف ونيف. (1)
الرابع: الاَمثال القرآنية
دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن مشتمل على الاَمثال، وأنّه سبحانه ضرب بها مثلاً للناس للتفكير والعبرة، قال سبحانه: (لَوْ أَنْزَلْنا هذا الْقُرآنَ عَلى جَبلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصدّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الاََمْثالُ نَضْربُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفكَّرون). (2)
إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على وجود الاَمثال في القرآن، وانّ الروح الاَمين نزل بها، وكان مَثَلاً حين النزول على قلب سيد المرسلين، هذا هو المستفاد من الآيات.
ومن جانب آخر أنّ المثل عبارة عن كلام أُلْقيَ في واقعة لمناسبة اقتضت إلقاء ذلك الكلام، ثمّ تداولت عبر الزمان في الوقائع التي هي على غرارها، كما هو الحال في عامة الاَمثال العالمية.

____________
1 ـ مجمع الاَمثال:1|5.
2 ـ الحشر:21.


( 17 )

وعلى هذا فالمثل بهذا المعنى غير موجود في القرآن الكريم، لما ذكرنا من أنّ قوام الاَمثال هو تداولها على الاَلسن وسريانها بين الشعوب، وهذه الميزة غير متوفرة في الآيات القرآنية.
كيف وقد أسماه سبحانه مثلاً عند النزول قبل أن يعيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرأها للناس ويدور على الاَلسن، فلا مناص من تفسير المثل في القرآن بمعنى آخر، وهو التمثيل القياسي الذي تعرّض إليه علماء البلاغة في علم البيان وهو قائم بالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وقد سمّاه القزويني “في تلخيص المفتاح” المجاز المركب وقال:
إنّه اللفظ المركب المستعمل فيما شُبّه بمعناه الاَصلى تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه، ثمّ مثّل بما كتب يزيد بن وليد إلى مروان بن محمد حين تلكأ عن بيعته: أمّا بعد، فإنّي أراك تقدّم رجلاً وتوَخّر أُخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت، والسلام. (1)
فلهذا التمثيل من المكانة ما ليس له لو قصد المعنى بلفظه الخاص، حتى أنّه لو قال مثلاً: بلغنى تلكّوَك عن بيعتى، فإذا أتاك كتابى هذا فبايع أو لا، لم يكن لهذا اللفظ من المعنى بالتمثيل، ما لهذا.
فعامة ما ورد في القرآن الكريم من الاَمثال فهو من قبيل التمثيل لا المثال المصطلح.
ثمّ إنّ الفرق بين التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز أمر واضح لا حاجة لاِطناب الكلام فيه، وقد بيّنه علماء البلاغة في علم البيان، كما طرحه أخيراً
____________
1 ـ الاِيضاح:304؛ التلخيص:322.


( 18 )

علماء الاَُصول في مباحث الاَلفاظ، ولاَجل ذلك نضرب الصفح عنه ونحيل القاريَ الكريم إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.
ويظهر من بعضهم أنّ التمثيل من معاني المثل، قال الآلوسي: المثل مأخوذ من المثول ـ و هو الانتصاب ـ و منه الحديث “من أحبّ أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوّأ مقعده من النار” ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إمّا على تشبيه بلا شبيه أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة نافعة، أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز. (1)
ولولا قوله “الشائع” لانطبقت العبارة على التمثيل القياسي.
“وقد امتازت صيغة المثل القرآني بأنّها لم تنقل عن حادثة معينة، أو واقعة متخيلة، أُعيدت مكرورة تمثيلاً، وضرب موردها تنظيراً، وإنّما ابتدع المثل القرآني ابتداعاً دون حذو احتذاه، و بلا مورد سبقه فهو تعبير فني جديد ابتكره القرآن حتى عاد صبغة متفردة في الاَداء والتركيب والاِشارة”.
“وعلى هذا فالمثل في القرآن الكريم ليس من قبيل المثل الاصطلاحي، أو من سنخ ما يعادله لفظاً ومعنى، الفقر بالاَمثال بمضمونه، بل هو نوع آخر أسماه القرآن مثلاً من قبل أن نعرف علوم الاَدب”المثل”، و من قبل أن تسمّي به نوعاًمن الكلام المنثور وتضعه مصطلحاً له. بل من قبل أن يعرف الاَُدباء “المثل” بتعريفهم”. (2)

____________
1 ـ روح المعاني:1|163.
2 ـ الصورة الفنية في المثل القرآني: 72، نقلاً عن كتاب المثل لمنير القاضي.


( 19 )

الخامس: أقسام التمثيل
قد عرفت أنّ التمثيل عبارة عن إعطاء منزلة شيء لشيء عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو المجاز أو غير ذلك، فهو على أقسام:
1. التمثيل الرمزي: وهو ما ينقل عن لسان الطيور والنباتات والاَحجار بصورة الرمز والتعمية ويكون كناية عن معاني دقيقة، وهذا النوع من التمثيل يعجّ به كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع، وقد استخدم هذا الاَُسلوب الشاعر العارف العطار النيشابوري في كتابه “منطق الطير”.
ويظهر من الكتاب الاَوّل أنّه كان رائجاً في العهود الغابرة قبل الاِسلام ، وقد ذكر الموَرّخون أنّ طبيباً إيرانياً يدعى “برزويه” وقف على كتاب “كليلة ودمنة” في الهند مكتوباً باللغة السنسكريتية ونقلها إلى اللغة البهلوية، وأهداه إلى بلاط أنوشيروان الساساني، وقد كان الكتاب محفوظاً بلغته البهلوية إلى أن وقف عليه عبد الله بن المقفع (106ـ143هـ) فنقله إلى اللغة العربية، ثمّ نقله الكاتب المعروف نصر الله بن محمد بن عبد الحميد في القرن السادس إلى اللغة الفارسية وهو الدارج اليوم في الاَوساط العلمية.
نعم نقله الكاتب حسين واعظ الكاشفى إلى الفارسية أيضاً في القرن التاسع ومن حسن الحظ توفر كلتا الترجمتين.
وقام الشاعر “رودكي” بنظم، ما ترجمه ابن المقفع، باللغة الفارسية.
ويظهر من غير واحد من معاجم التاريخ أنّه تطرق بعض ما في هذا الكتاب من الاَمثلة إلى الاَوساط العربية في عصر الرسالة أوبعده، وقد نقل أنّ عليّاً(عليه السلام) قال: “إنّما أُكلت يوم أُكل الثور الاَبيض” وهو من أمثال ذلك الكتاب.


( 20 )

وهناك محاولة تروم إلى أنّ القصص القرآنية كلّها من هذا القبيل أي رمز لحقائق علوية دون أن يكون لها واقعية وراء الذهن، وبذلك يفسرون قصة آدم مع الشيطان، وغلبة الشيطان عليه، أو قصة هابيل وقابيل وقتل قابيل أخاه، أو تكلم النملة مع سليمان (عليه السلام) ، وغيرها من القصص، وهذه المحاولة تضادّ صريح القرآن الكريم، فانّه يصرّح بأنّها قصص تحكى عن حقائق غيبيّة لم يكن يعرفها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا غيره، قال سبحانه: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاَُولى الاََلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُوَْمِنُون ). (1)
فالآية صريحة في أنّ ما جاء في القصص ليس أمراً مفترىً، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن بأجمعه هو الحقّ الذي لا يدانيه الباطل.
2. التمثيل القصصي: وهو بيان أحوال الاَُمم الماضية بغية أخذ العبر للتشابه الموجود. يقول سبحانه: (ضَرَبَ اللهُ مَثلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امرأةَ نُوحٍ وَامرأةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وقِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلِين ). (2)
والقصص الواردة في أحوال الاَُمم الغابرة التي يعبر عنها بقصص القرآن ، هي تشبيه مصرّح، وتشبيه كامن والغاية هي أخذ العبرة.
3. التمثيل الطبيعي: وهو عبارة عن تشبيه غير الملموس بالملموس، والمتوهم بالمشاهد، شريطة أن يكون المشبه به من الاَُمور التكوينية، قال سبحانه: (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ
____________
1 ـ يوسف:111.
2 ـ التحريم:10.


( 21 )

مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالاََنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الاََرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيّنَت وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالاََمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون ). (1)
والاَمثال القرآنية تدور بين كونها تمثيلاً قصصيّاً، أو تمثيلاً طبيعيّاً كونيّاً. وأمّا التمثيل الرمزي فإنّما يقول به أهل التأويل.
السادس: الاَمثال القرآنية في الاَحاديث
إنّ الاَمثال القرآنية بما أنّها مواعظ وعبر قد ورد الحث على التدبّر فيها عن أئمّة أهل البيت (عليهما السلام) ، ننقل منها مايلي:
1. قال أمير الموَمنين على (عليه السلام) :”قد جرّبتم الاَُمور وضرّستموها، ووُعظتم بمن كان قبلكم، وضُـربت الاَمثال لكم، ودعيتم إلى الاَمر الواضح، فلا يصمّ عن ذلك إلا أصمّ ، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى، ومَن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة”. (2)
2. وقال (عليه السلام) : “كتاب ربّكم فيكم، مبيّناً حلاله وحرامه،وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصّه وعامّه، وعبره وأمثاله”. (3)
3. قال أمير الموَمنين (عليه السلام) : “نزل القرآن أرباعاً: ربع فينا، وربع في عدوّنا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام”. (4)

____________
1 ـ يونس:24.
2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 176.
3 ـ نهج البلاغة: الخطبة 81.
4 ـ بحار الاَنوار:24|305 ح1، باب جوامع تأويل ما نزل فيهم 8.


( 22 )

4. روى الاِمام الصادق (عليه السلام) عن جده أمير الموَمنين علي (عليه السلام) أنّه قال لقاض “هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟”، قال: لا، قال:” فهل أشرفت على مراد الله عزّ وجل في أمثال القرآن؟”،قال: لا، قال: “إذاً هلكت وأهلكت”. والمفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن وحقائق السنن وبواطن الاِشارات والآداب والاِجماع والاختلاف والاطّلاع على أُصول ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ، ثم حسن الاختيار، ثم العمل الصالح، ثم الحكمة، ثم التقوى، ثم حينئذٍ إن قدر .(1)
5. قال أمير الموَمنين على (عليه السلام) : “سمّوهم بأحسن أمثال القرآن، يعنى :عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، هذا عذب فرات فاشربوا، وهذا ملح أُجاج فاجتنبوا”. (2)
6. وقال علي بن الحسين 8 في دعائه عند ختم القرآن:
“اللّهمّ انّك أعنتنى على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته ـ إلى أن قال:ـ اللّهم اجعل القرآن لنا في ظلم الليالي موَنساً، ومن نزعات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً، ولاَقْدامِنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً، ولاَلسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً، ولما طوت الغفلة عنّا من تصفح الاعتبار ناشراً، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه وزواجر أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله”. (3)
7. وقال علي بن الحسين 8في مواعظه: “فاتّقوا الله عباد الله ، واعلموا أنّ الله عزّ وجلّ لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لاَحد من أوليائه ولم يرغّبهم فيها و في عاجل زهرتها وظاهر بهجتها، وإنّما خلق الدُّنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها
____________
1 ـ بحار الاَنوار:2|121 ح34، باب النهى عن القول بغير علم من كتاب العلم.
2 ـ بحار الاَنوار:92|116، الباب 12 من كتاب القرآن.
3 ـ الصحيفة السجادية: من دعائه 7 عند ختم القرآن.


( 23 )

أيّهم أحسن عملاً لآخرته، وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الاَمثال وصرّف الآيات لقوم يعقلون ولا قوّة إلاّ بالله “.(1)
8. وقال الاِمام الباقر (عليه السلام) لاَخيه زيد بن علي: “هل تعرف يا أخى من نفسك شيئاً مما نسبتها إليه فتجيىَ عليه بشاهد من كتاب الله ، أو حجّة من رسول الله ، أو تضرب به مثلاً، فانّ الله عز وجلّ أحلَّ حلالاً وحرّم حراماً، فرض فرائض، وضرب أمثالاً، وسنَّ سنناً”. (2)
9. روي الكليني عن إسحاق بن جرير، قال: سألتني امرأة أن استأذن لها على أبى عبد الله (عليه السلام) فأذن لها ،فدخلت ومعها مولاة لها، فقالت: يا أبا عبد الله قول الله عزّ وجلّ: (زَيتُونةٍ لا شَرْقيةٍ وَلا غَرْبية ) (3) ما عنى بهذا؟ فقال: “أيّتها المرأة إنّ الله لم يضرب الاَمثال للشجر إنّما ضرب الاَمثال لبنى آدم”. (4)
10. روى داود بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: “يا داود إنّ الله خلقنا فأكرم خلقنا وفضلنا وجعلنا أُمناءه وحفظته وخزّانه على ما في السماوات وما في الاَرض، وجعل لنا أضداداً وأعداءً، فسمّـانا في كتابه وكنّى عن أسمائنا بأحسن الاَسماء وأحبها إليه، وسمّى أضدادنا وأعداءنا في كتابه وكنّى عن أسمائهم وضرب لهم الاَمثال في كتابه في أبغض الاَسماء إليه …”. (5)
هذه عشرة كاملة من كلمات أئمّتنا المعصومين حول أمثال القرآن.

x x x


____________
1 ـ الكافي:8|75.
2 ـ بحار الاَنوار:46|204، الباب 11.
3 ـ النور:35.
4 ـ الكافي: 5|551، الحديث 2، باب السحق من كتاب النكاح.
5 ـ البحار : 24|303، الحديث 14.


( 24 )

وقد حازت الاَمثال القرآنية على اهتمام المفكرين، فذكروا حولها كلمات تعرب عن أهمية الاَمثال ومكانتها في القرآن :
1. قال حمزة بن الحسن الاصبهاني (المتوفّى عام 351هـ) : لضرب العرب الاَمثال واستحضار العلماء النظائر ، شأن ليس بالخفي في إبراز خفيّات الدقائق ورفع الاَستار عن الحقائق، تريك المتخيَّل في صورة المتحقق، والمتوهَّم في معرض المتيقن، والغائب كأنّه مشاهد، وفي ضرب الاَمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة، وقمع لسَورة الجامح الاَبيّ، فإنّه يوَثر في القلوب مالا يوَثّر وصف الشيء في نفسه ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الاَمثال، ومن سور الاِنجيل سورة تسمّى سورة الاَمثال وفشت في كلام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وكلام الاَنبياء والحكماء. (1)
2. قال الاِمام أبو الحسن الماوردي(المتوفّى عام 450هـ) : من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والنّاس في غفلة عنه لاشتغالهم بالاَمثال، وإغفالهم الممثَّلات،والمثل بلا ممثَّل كالفرس بلا لجام والناقة بلا زمام. (2)
3.قال الزمخشري (المتوفّى عام 538هـ ) في تفسير قوله سبحانه: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ) (3) وضرب العرب الاَمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر ، إلى آخر ما نقلناه عن الاصبهاني. (4)
4. وقال الرازي (المتوفّى عام 606هـ) : “إن المقصود من ضرب الاَمثال
____________
1 ـ الدرّة الفاخرة في الاَمثال السائرة: 1|59 ـ 60 والعجب أن هذا النص برمّته موجود في الكشّاف في تفسير قوله سبحانه: (فَما رَبِحَتْ تِجارتهم وَما كانُوا مُهْتَدين مَثَلُهُمْ كَمَثل الَّذي استَوقَدَ ناراً) (انظر الكشّاف:1|149).
2 ـ الاِتقان في علوم القرآن:2|1041.
3 ـ البقرة:17.
4 ـ الكشّاف: 1|72.


( 25 )

انّها توَثر في القلوب ما لا يوَثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لاَنّ الغرض في المثل تشبيه الخفى بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل ،وذلك في نهاية الاِيضاح، ألا ترى أنّ الترغيب إذا وقع في الاِيمان مجرّداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مُثّل بالنور، وإذا زهد في الكفر بمجرّد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول، كما يتأكد إذا مثل بالظلمة، وإذا أخبر بضعف أمر من الاَُمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الاِخبار بضعفه مجرّداً، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين،وفي سائر كتبه أمثاله،قال تعالى: (وَتِلْكَ الاََمْثال نَضْرِبها لِلنّاس) (1) (2)
5. وقال الشيخ عزالدين عبدالسلام (المتوفّى عام 660هـ) : إنّما ضرب الله الاَمثال في القرآن،تذكيراً ووعظاً، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب، أو على إحباط عمل، أو على مدح أو ذم أو نحوه، فإنّه يدل على الاحكام. (3)
6. وقال الزركشى(المتوفّى عام 794هـ) : وفي ضرب الاَمثال من تقرير المقصود مالا يخفى، إذ الغرض من المثل تشبيه الخفى بالجلى، والشاهد بالغائب، فالمرغب في الاِيمان مثلاً، إذا مثّل له بالنور تأكّد في قلبه المقصود،والمزهَّد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه وفيه أيضاً تبكيت الخصم،وقد أكثر الله تعالى في القرآن، وفي سائر كتبه من الاَمثال. (4)
لكن يرد على ما ذكره الزمخشري والرازي والزركشي أنّ ما ذكروه راجع
____________
1 ـ العنكبوت:43.
2 ـ مفاتيح الغيب:2|72ـ73.
3 ـ الاِتقان في علوم القرآن:2|1041.
4 ـ البرهان في علوم القرآن: 1|488.

شاهد أيضاً

هل نجحت إيران فى فرض قواعد اشتباك جديدة؟

هل نجحت إيران فى فرض قواعد اشتباك جديدة؟ خبيران مصريان يعلقان على الهجوم الإيراني على ...