الرئيسية / شخصيات اسلامية / الإمام محمد الجواد عليه السلام 4

الإمام محمد الجواد عليه السلام 4

الحالة السياسية في عصر الإمام عليه السلام

تميّزت الفترة الزمنية التي عاشها الاِمام الجواد عليه السلام بعد استشهاد والده الاِمام الرضا عليه السلام ؛ بهدوء سياسي نسبي ، بعد أن تمّ تصفية الحساب في وقت سابق بين الاَخوين العباسيين الاَمين والمأمون بمقتل الاَول ( 25 محرم 198هـ ) ، وتفرّد الثاني بالسلطة السياسية ، وقد خلا له الجو من المنافس السياسي سوى الاِمام الرضا عليه السلام ، الذي كان يتصدّر الزعامة الروحية والاجتماعية للمجتمع الاِسلامي ، وسوى بعض الثورات والانتفاضات العلوية هنا وهناك ، والتي سرعان ما قُضي عليها بحنكة سياسية ، ودهاء ماكر ، وقوة عسكرية حاسمة ، ثم دُبّر أمر تصفية الاِمام الرضا عليه السلام في آخر صفر (1)سنة 302 هـ ، بمكيدة ودهاء تامّين ، الاَمر الذي جنّب المأمون أيّ مشكلة سياسية ذات بال تواجه استقرار الحكومة .
أما اضطرابات بغداد وانفصالها عن سلطة المأمون ، ومبايعة عمّه إبراهيم
____________
1) تاريخ الطبري 7 : 150 . والشذرات الذهبية | ابن طولون : 98 وفيه : آخر صفر سنة اثنتين ومئتين . وفي التنبيه والاِشراف | المسعودي : 303 : في أول صفر؛ لكنه في إثبات الوصية : 182 ، قال : مضى ـ صلّى الله عليه ـ في سنة اثنين ومئتين من الهجرة في آخر ذي الحجة . وروي أنّه مضى في صفر ، والخبر الاَول أصح .


(38)

ابن المهدي العباسي في ( 5 محرم سنة 202 هـ ) بالخلافة ، ثم مناوشاتهم وحروبهم مع ولاة دولة المأمون ، فسرعان ما أُخمدت وعادت بغداد إلى أحضان دولة الخلافة المأمونية ، بدخول المأمون مدينة السلام على رأس جيش خراساني لجب في 18 صفر سنة 204 هـ (1) .
وبعد استتباب الاَوضاع السياسية في بغداد ، واستقرار شؤون الدولة في العاصمة الجديدة ( بغداد ) ، من بناء القصور الملكية والدواوين ( الوزارات ) ، والمراكز الاَمنية وغيرها ، تتناهى إلى سمع المأمون أخبار أبي جعفر ابن الرضا عليه السلام واحتفاء الناس به ، وظهور كراماته ومعجزاته . .
فيتأمل المأمون ـ وهو السياسي المحنّك والخبير ـ في الاَمر ملياً ، ويرسل خلف الاِمام ابن الرضا عليه السلام يستدعيه من المدينة إلى بغداد في تلك السنة . وفي تقديرنا أن التحرك السياسي للاِمام الجواد عليه السلام يبتدئ من السنة التالية ( 205 هـ ) التي وصل فيها إلى بغداد بعد أن أدّى نسك الحج ، وعاد إلى المدينة ليجمع أهل بيته وعمومته من الهاشميين وخدمه؛ لمرافقته إلى عاصمة الدولة لاِجابة ( المأمون ) طلبه ، وكان له عليه السلام أول لقاء مع المأمون العباسي في التاريخ المذكور ، ومن ذلك الوقت يبدأ المسلسل التاريخي الحافل السياسي ، والاجتماعي ، والعلمي لحياة جواد الاَئمة عليهم السلام .
بعد هذه التقدمة الموجزة ندخل إلى رحاب الحياة السياسية للاِمام الجواد عليه السلام ، باستشفاف بعض ملامح موقف السلطة العباسية تجاه الاِمام عليه السلام من جهة ، وتجاه الشيعة عموماً من جهة اُخرى .
____________
1) راجع : التنبيه والإشراف | المسعودي : 302 ـ 304 .


(39)

الموقف السياسي بعد شهادة الاِمام الرضا عليه السلام :
كانت الفترة بين ( رمضان 201 ـ صفر 203 هـ ) (1) التي تقلّد فيها الاِمام الرضا عليه السلام ولاية العهد سنيّ هدوء نسبي إلاّ ما كان من اضطراب الاَمور في بغداد حنقاً على المأمون ؛ لمقتل محمد الاَمين أولاً؛ ولتوليته العهد من بعده للرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ظناً منهم أن الخلافة ستخرج من بني العباس إلى آل أبي طالب ، لكن تبيّن بعد ذلك أن المأمون كان يفكر غير ماكانوا يستعجلون تفكيره .

وأما السنوات القلائل التي أعقبت استشهاد الاِمام الرضا عليه السلام فكانت هي الاُخرى مشحونة بالحذر والترقب من قبل الشيعة عموماً والبيت الهاشمي خصوصاً؛ للسياسة التي اتخذها المأمون في تقريب الاِمام الجواد عليه السلام وإنزاله تلك المنزلة منه ، وهذا الترقب والحذر راجع إلى عدة أمور لعلّ من أهمها ما نوجزه بالنقاط التالية:
1 ـ شغف المأمون بأبي جعفر عليه السلام بعد أن استدعاه من المدينة المنورة إلى بغداد؛ لما رأى من غزارة علمه وهو لم يبلغ الحلم بعد ، ولم يحضر عند أحد للتلمّذ والدراسة ، ثم إنّ صغر السن وامتلاك علوم جمة والجلوس للمناظرة والحجاج مع كبار الفقهاء هي ظاهرة فريدة وغريبة في دنيا الاِسلام
____________
1) هناك نصّ نقله النجاشي في رجاله : 277 رقم 727 . وشيخ الطائفة الطوسي في أماليه : 359 | 749 يشير إلى أنّ الاِمام الرضا عليه السلام كان في خراسان سنة ( 198 هـ ) ، حيث يروي أبو الحسن علي أخو دعبل الخزاعي أنّه ودعبل رحلا إلى الاِمام علي بن موسى الرضا عليه السلام والتقياه في تلك السنة ، وحدّثهما إملاءً في رجب من ذلك العام ، وأقاما عنده إلى آخر سنة ( 200 هـ ) . ثم خرجا من عنده متوجهين صوب قم حيث أشار الاِمام عليه السلام إليهما أن يصيرا إليها وهما في طريق عودتهما إلى واسط ، بعد أن خلع عليهما وزودهما وأعطاهما من الدراهم الرضوية ما يعينهما .


(40)

يومذاك ، تجلب الانتباه وتأخذ بالعقول وتستهويها؛ لهذا فقد أبقاه عنده فترة طويلة .
2 ـ المأمون ، ولاَجل رفع أصابع الاتّهام عنه باغتيال الاِمام الرضا عليه السلام ، أراد أن يثبت ظاهرياً للعوام والخواص حبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، من خلال بقائه على ولاء وحب البيت العلوي؛ لذلك أظهر اهتماماً زائداً ، وتكريماً متميزاً للاِمام الجواد عليه السلام ، بل وأقرّ له ما كان يعطي أباه الرضا عليه السلام من عطاء وزيادة ، فبلغ عطاؤه ألف ألف درهمٍ سنوياً (1) .
3 ـ تزويجه إياه من ابنته ( زينب ) المكناة بأم الفضل ، واسكانه قصور السلطنة .
4 ـ توليته بعد وروده بغداد عام ( 204 هـ ) عبيدالله بن الحسن بن عبيدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه السلام مكة والمدينة . وبقي على ولايتهما حتى أواخر عام ( 206 هـ ) .
5 ـ أمره ولاة الاَقاليم والخطباء بإظهار فضائل الاِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على المنابر في جميع المناسبات .
6 ـ تبنّيه مذهب الاعتزال وإظهار القول بخلق القرآن في ربيع الاَول سنة ( 212 هـ ) ، وكان الدافع من وراء ذلك ـ على ما يظهر لنا ـ سياسياً ، لاَجل تصفية بعض الخصوم وإبعاد البعض الآخر ، وإجبار بعض الفقهاء ، خارج المدار السلطاني ، الدخول في فلك البلاط؛ لتمرير بعض المآرب السياسية في مرحلة لاحقة . ثم لعلّه أراد من إظهار هذا الحق باطلاً كان يختبئ في
____________
1) مرآة الجنان | اليافعي 2 : 80 .


(41)

مطاوي نفسه التي لم تُعرف نواياها الحقيقية ، فماتت معه بموته .
كما أراد صرف الناس عن التوجه إلى أهل البيت عليهم السلام والتمسك بمنهجهم القويم .
بهذا الدهاء السياسي استطاع المأمون العباسي سحب البساط من تحت أرجل شيعة أهل البيت عليهم السلام عموماً ، والطالبيين بشكل أخص ، وفوّت عليهم فرصة أي ثورة أو انتفاضة ضد حكومته . وبذلك تمكن من أن يأمن هذا الجانب ـ وإن كان على حذر ووجل إلى فترة غير قليلة ـ استطاع خلالها ترتيب البيت العباسي ، واستحكام أمر الخلافة . ولم يكن المأمون مستعجلاً هذه المرة مع الاِمام الجواد عليه السلام الصبي الصغير ثم الشاب اليافع ، بشأن تصفية وجوده ، لما يشكّله عليه السلام من خطر على مستقبل الخلافة والوجود العباسي ككل .
ولقد انعكس ذلك الهدوء السياسي النسبي الذي أعقب تولي الاِمام الرضا عليه السلام عهد المأمون له بالخلافة من بعده ، على امتداد فترة إمامة أبي جعفر الثاني عليه السلام ، إلاّ ما كان من ثورة عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام في اليمن سنة ( 207 هـ ) .
كان هذا مجمل الوضع السياسي بُعيد استشهاد الاِمام الرضا عليه السلام ، وتسنّم الاِمام الجواد عليه السلام منصب الاِمامة ، واظهاره لها وهو حدث صغير ، الاَمر الذي جعل الاَنظار تتجه نحوه ، وتصطكّ عنده رُكَبُ العلماء ، وتُثنى أمامه هيبةً وإذعاناً لعلمه .
ثم ما كان من أحداث ( قم ) سنة ( 210 هـ ) . وفي سنة ( 214 هـ ) كانت حركة جعفر بن داود القمي في مصر . وسنأتي على تفصيل هذه الثورات


(42)

والحركات في خاتمة هذا الفصل إن شاء الله .
وفي مطلع سنة ( 215 هـ ) كان خروج المأمون لغزو الروم ، ماراً بتكريت سالكاً طريق الموصل ـ نصيبين على ما يبدو . وقد طال أمد حروبه نسبياً مع الروم فاستمرت حتى وفاته في عام ( 218 هـ ) (1) تخللتها فترات هدنة عاد فيها إلى الشام .
ولعلّ آخر حدث في حياة الاِمام الجواد عليه السلام كان خروج محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام في الطالقان من بلاد خراسان عام ( 219 هـ ) يدعو للرضا من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
القول بخلق القرآن :
في ربيع الاَول من عام ( 212 هـ ) أظهر المأمون لاَول مرة القول بخلق القرآن الكريم ، وتفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأنّه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ثم بعد فترة أصدر ( مرسوماً ) ملوكياً وعممه على كافة ولايات الامبراطورية الاِسلامية يدعو فيه القضاة والمحدِّثين للقول بخلق القرآن ، وإلاّ رُدّت شهاداتهم ، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه ، وكان يومها في الرقة .

أما السبب الذي قاد إلى أطروحة خلق القرآن هو أن بعض المثقفين والعلماء الذين لم يكونوا ميالين إلى السلطة السياسية ، ولم يستطيعوا خوض نضال سياسي واجتماعي مكشوف مع السلطة خوفاً على استمرارية وجودهم في الحياة ، لِمَا تميّز به الدور الاَموي من طابع قمعي استبدادي .
____________
1) تاريخ الطبري 7 : 189 ـ 190 .


(43)

فقد انتحلوا مذهب الاعتزال الذي أخذ بدوره يطوّر الفلسفة الاِسلامية عن طريق علم الكلام الذي يغلب عليه الطابع السجالي العقلي الحر ، واعتماده الجدل المنطقي ، والقياس في مناقشة القضايا الكلامية . ثم كان من مقولاتهم : المنزلة بين المنزلتين ، وحرية الاختيار ( التفويض ) ، وأخيراً خلق القرآن .
وبوصول نوبة الخلافة إلى المأمون ودعمه مذهب الاعتزال ، حدا به الموقف ( السياسي ـ العقيدي ) إلى اتّباع وسائل إدارية قسرية لفرض وإشاعة هذا المذهب ، حتى بلغ الاَمر أن أصدر مرسومه السلطاني ـ فيما بعد ـ بعدم تقليد منصب القضاء لغير معتنقي مذهب الاعتزال والقائلين بخلق القرآن .
هذه الاَطروحة الفكرية العقائدية التي كان يُراد منها تصفية بعض المناوئين للسلطة العباسية ، أضحت سياسة رسمية للدولة أيام حكم المأمون والمعتصم والواثق ، يُعاقَب من لم يقل بها ويتّخذها مبدأً له . وفعلاً فقد شكّل هذا المقطع الزمني ( محنة ) بالنسبة لغير ( فقهاء السلطان ) . فقد وجدوا أنفسهم في مواجهة تحول الفكر والمعتقد إلى مؤسسة من مؤسسات السلطة التي أخذت تلوّح بعصا الايديولوجية؛ لسحق المعارضة السياسية ، وضرب المعارضة الفكرية في آن واحد .
والتأريخ لم يحدثنا عن موقف للاِمام الجواد عليه السلام من هذه القضية التي كانت مثار جدل ونقاش سنين عديدة .
الاِمام والسلطة :
قبل الحديث عن علاقة الاِمام أبي جعفر الثاني عليه السلام بالسلطة العباسية ،


(44)

والمأمون العباسي رأس السلطة بالخصوص ، ثم ما تمخض عن تلك العلاقة من إرهاصات ، لابدّ من إلقاء الضوء على بعض المقدمات التي استرعت انتباه السلطة الحاكمة ، وجعلتها تولي قضية الاِمام الجواد عليه السلام أهمية خاصة ، سيّما وأن إمامته عليه السلام وهو بهذه السن غير المعهودة من قبل ، قد طار صيتها في الآفاق ، وأخذت تجتذب إليها القلوب ، وتستهوي جماهير الاُمّة الاِسلامية ، وراح حديث خلافة أبي جعفر لاَبيه الرضا عليهما السلام في منصب الاِمامة ، ونبوغه العلمي وهو في هذا السن المبكر يسري شيئاً فشيئاً إلى مختلف أقطار الدولة الاِسلامية ، بعد أن أصبح حديث عامة الناس وشغلهم في مكة والمدينة .
ومرة اُخرى اختلفت كلمة الشيعة بعد استشهاد الاِمام الرضا عليه السلام ، ووقعوا في حيرة من أمر الاِمامة؛ لاستصغار بعضهم سنّ أبي جعفر عليه السلام ، رغم أن الرضا عليه السلام طالما أكّد لشيعته وأصحابه حال حياته بصريح العبارة ، وأبو جعفر لم يتجاوز الثلاث سنوات ، بأنّه إمامهم ومولاهم من بعده ، وقد مرّت الاِشارة إلى تلك الاَحاديث في النص على إمامته عليه السلام من الفصل الاَول . ولكن . . وبعد استشهاد الاِمام الرضا عليه السلام تحيرت الشيعة واضطرب أمرهم في كلِّ الاَمصار ، ففي بغداد مثلاً ( اجتمع الريان بن الصلت ، وصفوان ابن يحيى ، ومحمد بن حكيم ، وعبدالرحمن بن الحجاج ، ويونس بن عبدالرحمن وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبدالرحمن بن الحجاج في ( بركة زلزل ) يبكون ويتوجعون من المصيبة .
فقال لهم يونس بن عبدالرحمن : دعو البكاء ، من لهذا الاَمر ، وإلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا الصبي ؟ يعني أبا جعفر عليه السلام ، وكان له ست


(45)

سنين وشهور (1) . ثم قال : أنا ومَن مثلي !
فقام إليه الريّان بن الصلت فوضع يده في حلقه ، ولم يزل يلطمه ويقول له : أنت تظهر الاِيمان لنا وتبطن الشكّ والشرك، : إن كان أمره من الله جلّ وعلا ، فلو أنّه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه ، وإن لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من الناس ، هذا مما ينبغي أن يفكّر فيه . فأقبلت العصابة عليه ( يونس بن عبدالرحمن ) تعذله وتوبّخه .
وكان وقت الموسم ، فاجتمع من فقهاء بغداد والاَمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً ، فخرجوا إلى الحج ، وقصدوا المدينة؛ ليشاهدوا أبا جعفر عليه السلام فلمّا وافوا ، أتوا دار الاِمام جعفر الصادق عليه السلام ؛ لاَنّها كانت فارغة ، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير ، وخرج إليهم عبدالله بن موسى ، فجلس في صدر المجلس ، وقام منادٍ وقال : هذا ابن رسول الله ، فمن أراد السؤال فليسأله .
فقام إليه رجل من القوم فقال له : ما تقول في رجل قال لامرأته أنتِ طالق عدد نجوم السماء ؟ قال : طلقت ثلاث دون الجوزاء . ثم قام إليه رجل آخر فقال : ما تقول في رجل أتى بهيمة ؟ قال : تقطع يده ، ويجلد مئة جلدة ، ويُنفى .
فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم ، واضطربت الفقهاء وقاموا وهمّوا بالانصراف ، وقالوا في أنفسهم : لو كان أبو جعفر عليه السلام يكمل لجواب المسائل لما كان من عبدالله ما كان ، ومن الجواب بغير الواجب ، فهم في ذلك إذ فُتح باب من صدر المجلس ، ودخل ( موفق ) وقال : هذا أبو جعفر ، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه ، فدخل عليه السلام وعليه قميصان ،
____________
1) بناءً على هذه الرواية نستظهر أن شهادة الاِمام الرضا عليه السلام كانت سنة ( 202 هـ ) .


(46)

وعمامة بذؤابتين إحداهما من قدّام والاُخرى من خلف ، ونعل بقبالين (1) ، فجلس وأمسك الناس كلّهم ، ثم قام صاحب المسألة الاُولى ، فقال : يابن رسول الله ، ما تقول فيمن قال لامرأته أنتِ طالق عدد نجوم السماء ؟
فقال له : « يا هذا اقرأ كتاب الله ، قال الله تبارك وتعالى : ( الطلاقُ مرَّتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريح بإحسانٍ ) (2) في الثالثة » . قال : فإن عمّك أفتاني بكيت وكيت . فقال : « يا عم اتّق الله ولا تفتِ وفي الاُمّة من هو أعلم منك » .
فقام إليه صاحب المسألة الثانية ، فقال له : يا بن رسول الله ، ما تقول في رجل أتى بهيمة ؟ فقال : « يُعزّر ، ويُحمى ظهر البهيمة ، وتُخرج من البلد حتى لا يبقى على الرجل عارها » . فقال : إنّ عمّك أفتاني بكيت وكيت . فالتفت وقال بأعلى صوته : « لا إله إلاّ الله ، يا عبدالله ! إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يدي الله فيقول لك ، لم أفتيت عبادي بما لا تعلم وفي الاُمّة من هو أعلم منك ؟ » .
فقال عبدالله بن موسى : رأيت أخي الرضا وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب .
فقال أبو جعفر عليه السلام : « إنّما سُئل الرضا عن نبّاش نبش قبر امرأة ففجر بها ، وأخذ ثيابها ، فأمر بقطعه للسرقة ، وجلده للزنا ، ونفيه للمثلة » . ففرح القوم ، ودعوا له وأثنوا عليه ) (3) .
____________
1) القِبال : سير من الجلد طويل يربط على الرجل لشدّ النعال .
2) سورة البقرة : 2 | 229 .
3) النص أخذناه عن عيون المعجزات : 122 ـ 123 . وعنه بحار الاَنوار 50 : 99 | 12 . والزيادات فيه

=


(47)

نعم ، فرح القوم لِمَا عرفوا من أن الاِمامة حقاً متعيّنة في هذا الفتى المستوعب للفقه . . الحاضر الجواب . . العارف بإجابة أبيه ، وقد تركه أبوه طفلاً صغيراً في الخامسة من عمره . .
وجاء في العديد من المصادر أن القوم سألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة (1) ، ووجدنا أن البعض أخذ يلتمس وجوهاً لتبرير عدم معقولية مثل هذا العدد الهائل من المسائل في مجلس واحد (2) . وهو أمر غير معقول طبعاً ، اللهمّ إلاّ أن يستمر انعقاد المجلس لعدة أيام أو يُخفّض العدد إلى الثلاثين . والمرجّح ـ وإلى هذا الرأي ذهب آخرون ـ أن ( الألف ) زيادة من النسّاخ ، فإنّ الفيض الكاشاني؛ نقل الخبر في المحجة البيضاء وليس فيه كلمة ( ألف ) (3) .
من ثمّ ـ وبعد استتباب الاَوضاع الاَمنية داخلياً ـ بدأ يتناهى إلى سمع الدولة في بغداد ، احتفاء الناس بالاِمام وانبهارهم بعلومه على صغر سنه . ونظراً لاَنّ اللعبة السياسية لم تنته بعد . فبغياب نجم الاِمام الرضا عليه السلام ، برز نجم آخر لمع في دنيا الاِسلام ، أخذ يستقطب إليه الاُمّة شيئاً فشيئاً بجاذبية يندر وجودها في أكابر الشخصيات العلمية أو السياسية .
إذن فمشكلة الاِمامة ـ بالنسبة للسلطة العباسية ـ واستقطاب جماهير
____________
=
أوردناها عن رواية الطبري في دلائل الاِمامة : 388 ـ 390 . وراجع : اختصاص الشيخ المفيد : 102 طبع قم . ومناقب آل أبي طالب 4 : 382 ـ 383 .
1) اُصول الكافي 1 : 496 | 7 .
2) راجع : بحار الاَنوار 50 : 93 .
3) راجع : المحجة البيضاء 4 : 306؛ لكنه في كتاب الوافي 3 : 830 | 1440 أورد الخبر نفسه عن اُصول الكافي وفيه ثلاثون ألف مسألة ولم يعلّق عليه .


(48)

الاُمّة لم تزل قائمة إلى الآن ، وفصول المسلسل ( الدرامي ) الذي لم ينته بانتهاء الاِمام الرضا عليه السلام . . يجب أن يُعالج هذه المرة بأُسلوب أهدأ . . وطريقة طبيعية تُسقط الاِمام والاِمامة من أعين الناس ، دون استخدام العنف أو التصفية الجسدية . .
فلقد سعى المأمون الداهية المتآمر ، وهو أعظم خلفاء بني العباس خطراً . . . وأكثرهم علماً . . وأبعدهم نظراً . . وأشدهم مكراً . . وأخفاهم مكيدة . . سعى هو وحاشيته إلى الالتفاف على الاِمام أبي جعفر عليه السلام بالمكر والتحايل؛ لقتله وهو ما يزال حيّاً ، وذلك بإسقاطه في أعين الناس ، وكذا فعل المعتصم . ففي إحدى المرات وصل بهم خبث السريرة إلى أنهم أرادوا إيثاق الاِمام وسقيه خمراً إلى حدِّ الاِسكار ، ثم إخراجه إلى الناس على تلك الحالة مضمّخاً بخلوق الملوك . لكنّ كيدهم لم يتم بإذن الله تعالى ، إذ منعهم المأمون من ذلك قبل تنفيذ خطتهم ، حيث خاف عواقب هذا الفعل الشنيع ، قائلاً لهم : لا تؤذوا أبا جعفر . . (1) .
كما احتال المأمون على أبي جعفر عليه السلام بكل حيلة فلم يمكنه فيه شيء ، فلمّا اعتل وأراد أن يزفّ إليه ابنته ، قال محمد بن الريّان : ( دفع إلى مئة ) (2) وصيفة من أجمل ما يكون ، إلى كل واحدة منهنّ جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر عليه السلام إذا قعد في موضع الاَختان . فلم يلتفت إليهنّ ، وكان رجل يقال له « مخارق » صاحب صوت وعود وضرب ، طويل اللحية ، فدعاه المأمون . فقال : يا أمير المؤمنين إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره ، فقعد
____________
1) راجع : اختيار معرفة الرجال : 560 | 1058 ترجمة محمد بن أحمد بن حماد المحمودي .
2) في الكافي : مئتي . وما أثبتناه عن ابن شهرآشوب والعلاّمة المجلسي .


(49)

بين يدي أبي جعفر عليه السلام ، فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار ، وجعل يضرب بعوده ويغني ، فلما فعل ساعة وإذا أبوجعفر لايلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً ، ثم رفع رأسه وقال : « اتقِ الله ياذا العثنون ! » ، قال : فسقط المضراب من يده والعود فلم ينتفع بيديه إلى أن مات ، قال : فسأله المأمون عن حاله ، قال : لمّا صاح بي أبو جعفر ، فزعت فزعة لا أفيق منها أبداً ) (1) .
وعلى كلِّ حال ، فقد أرسل المأمون إلى محمد بن عبدالملك الزيات يوصيه بحمل أبي جعفر من المدينة إلى بغداد على أحسن محمل ، وأن لا يُعجّل بهم السير ، ويريحهم في المنازل . فيكلف ابن الزيات الحسن بن علي بن يقطين؛ لمنزلته ومنزلة أبيه من الاَئمة عليهم السلام والخلفاء والاَمراء معاً . بأن يرافق أبا جعفر وأهله وعياله في سفرهم .
ويظعن الرحل مودعاً المدينة المنورة ، متجهاً صوب بغداد . وينسى الخليفة أو يتناسى قدوم الوفد المدني ، فلقد ألهته ليالي الاُنس . . وأيام الصيد ، السؤال عن القادمين من المدينة أو أنّه فعلاً تناسى أمرهم ، وهي عادة الملوك في استصغار من سواهم ، وأراد أن يلتقي بأبي جعفر بشكل غير علني ، إمّا حياءً من البيت الهاشمي لما أحلّه بأبيهم الرضا عليه السلام قبل عهد قريب ، وإمّا أنفة واستعلاءً منه ـ وهو أميرالمؤمنين المسيطر على الآفاق شرقاً وغرباً ـ أن يلتقي بحدث صغير لم يبلغ الحلم . فلم يكن المأمون قد وقف بعد على علم الاِمام الجواد عليه السلام ونبوغه المذهل . أو إنّه لم يكن هذا ولا ذاك ، إنّما أراد أن يستريح القادمون لبضعة أيام من وعثاء السفر ، ثم يستدعي إليه التقي عليه السلام ليتعرّف أخباره .
____________
1) اُصول الكافي 1 : 494 | 4 . وعنه مناقب آل أبي طالب 4 : 396 .

شاهد أيضاً

الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي وهو لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، يبعد عنها العاشق بعتاب ...