مواعظ شافية

 6- الصدقة

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه:

﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ1

 

1- سورة التوبة، الآية: 104.


تمهيد

 

من أهمّ المواصفات أو الصفات الّتي أحبّها الله سبحانه وتعالى وأرادها في عبده المؤمن إلى جانب إقامة الصلاة، الّتي هي – معراج المؤمن – صفة الإنفاق، وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم إمّا بتعابير الإنفاق﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ2، أو بتعابير إيتاء الزكاة: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ3، أو بتعابير الصدقة والتصدّق و﴿الْمُصَّدِّقِينَ4. لكن، حتّى لا نكرّر الكلمات فلنقل التصدّق، لأنّ عنوان الصدقة هو عنوان واسع جدّاً.

 

طريق تزكية النفس

 

التأكيد القرآنيّ والنبويّ على موضوع التصدّق هو تأكيد كبير, والرسالة الإلهيّة السماويّة – من خلال تركيزها على هذه الصفة – تريد أن تحقّق غرضين أو هدفين دفعةً واحدة:

 

الغرض الأوّل يتعلّق بنفس الإنسان، لأنّ الإنسان الّذي يُنفق ويتصدّق ويُعطي من ماله ويُجاهد بماله – هذا الإنسان – يتطهّر ويتزكّى من خلال هذا الإنفاق. ولذلك،

 

2- سورة البقرة، الآيات: 261 262 265.

3- سورة المائدة: الآية: 55.

4- سورة الحديد، الآية: 18.

 

 ورد في الآية الكريمة ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا5.

 

هناك الكثير من المؤمنين الّذين يهتمّون بالسير والسلوك والأعمال الّتي تقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن بنفس الوقت يمكن أن يتطرّقوا إلى أعمال قد تكون شاقّة جسديّاً. في حين أنّ الله سبحانه وتعالى وهو الأعلم بالنفس الإنسانيّة دلّنا على طريق للتزكية والتطهّر يحتاج سلوكه إلى كثير من العناء، وهذا الطريق هو طريق الإنفاق في سبيل الله, والّذي ينتج عنه طُهر روحيّ ومعنويّ في الدنيا ومقام عليّ في الآخرة.

 

وعندما ننفق، فنحن المستفيدون في الدنيا قبل الآخرة، فقد يظنّ البعض ممّن لا يؤمن بالغيب أنّه لو أنفق من هذا المال الّذي بحوزته وأعطى منه فقيراً أو محتاجاً فإنّ مقدار هذا المال الموجود لديه سينقص- وذلك طبعاً بحسابات أهل الدنيا-إلا أنّه في الواقع وحقيقة الأمر فإنّ هذا المال يزيد بتزكية الله له وجعل البركة فيه، يقول تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ6، بل ودفع البلاء الّذي قد يكلّفني الكثير من مالي الّذي احتفظت به ولم أنفق بعضاً منه، كأن أمرض مرضاً شديداً، كان بإمكاني دفعه لو أنفقت في سبيل الله، وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام قال: “الصدقة تدفع البلاء المبرم فداووا مرضاكم بالصدقة”7.

 

من المسؤول؟

 

الغرض الثاني هو المساهمة في معالجة المشاكل الاجتماعيّة المعيشيّة المستعصية الّتي يعيشها الناس عموماً منذ بدء الخليقة إلى الآن وإلى يوم تكون لله تعالى فيه مشيئة أخرى. في كلّ مجتمع بشريّ فقراء وأغنياء، مكتفون ومحتاجون، وأناس قادرون على العمل وآخرون عاجزون عن العمل, وإلخ.

 

5- سورة التوبة، الآية: 103.

6- سورة البقرة، الآية:276.

7- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص433.

في الفهم الإسلاميّ، الدولة مسؤولة والمجتمع الّذي يعيش فيه هؤلاء الفقراء والعاجزون والأيتام والمساكين هو أيضاً يتحمّل مسؤوليّة من هذا النوع، وأمّا ثقافة إيتاء الزكاة والتصدّق والإنفاق والجهاد بالمال ورعاية أو تكفّل الأيتام وقضاء حوائج المحتاجين وما شاكل، فهي لتعالج جانباً كبيراً من هذه المشكلة، ولكن بخلفيّة ثقافيّة إيمانيّة أخلاقيّة إنسانيّة، وهذا ما ورد الحثُّ عليه في الكثير من الآيات والروايات.

 

يُربي الصدقات

 

الله سبحانه وتعالى – من باب الترغيب للمتصدّقين – يقول لهم: أنا الّذي آخذ منكم الصدقات بشكل مباشر، الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير أو المحتاج أو اليتيم: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ8. وقد ورد في الروايات ما يؤكّد هذا المعنى.

 

ومن باب التشجيع أيضاً، وعد الله سبحانه وتعالى في القرآن المجيد بأنّه هو الّذي يربي الصدقات. عندما يدفع الواحد منّا صدقة، هذه الصدقة تنمو وتنمو إلى أن يحشر يوم القيامة، فيفاجأ يوم القيامة كأنّه تصدق بمثل جبل أحد كما ورد في بعض الروايات، في حين أنّ كلّ ما تصدّق به هو فقط هذا المبلغ المتواضع الّذي خرج منه. لكنّ الله سبحانه وتعالى وعد بأن يربي الصدقات وأن ينمّيها تشجيعاً على الإنفاق لعباده. وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: “تصدّقوا ولو بشقّ تمرة، واتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فإنّ الله عزّ وجلّ يُربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فصيله حتّى يوفيه إيّاها يوم القيامة، وحتّى يكون أعظم من الجبل العظيم”9.

 

8- سورة التوبة، الآية: 104.

9- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج93، ص122.

وفي الحديث القدسيّ، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: “قال الله تعالى: إنّ من عبادي من يتصدّق بشقّ تمرة فأربيها له كما يُربي أحدكم فلوَه، حتّى أجعلها مثل جبل أحد”10.

 

من بركات الصدقة

 

هناك روايات كثيرة تتحدّث عن آثار الصدقة، فقد ورد على سبيل المثال أنّها “تدفع البلاء ويتداوى بها من الأمراض” كما مرّ معنا. وهي “تدفع ميتة السوء”، وحيث إنّ الإنسان سيموت ولا مهرب من الموت. فإنّ هناك أشكالاً للموت، فتارةً هناك الموت الّذي هو قتل في سبيل الله، وموت على الفراش أو بحادث سيارة أو عن طريق الخطأ إلخ… الصدقة تدفع عن الإنسان ميتة السوء. وورد أيضاً أنّ الصدقة “تطيل العمر” وأنّها “مفتاح الرزق”، يقول تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ11. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بعض الذين سُدّت عليهم أبواب الرزق بالتصدّق لينظر الله سبحانه وتعالى إليهم نظرة رحمة ورأفة ويفتح لهم أبواب رزقه.

 

عطاء بلا حساب

 

وللتشجيع أيضاً على تحقيق الغرض الثاني (أي المساهمة في معالجة المشاكل الاجتماعيّة)، نجد بأنّ الإسلام لم يشجّع فقط المتصدّقين أنفسهم، لأنّ الإسلام يعرف أنّه سيأتي يوم من الأيّام لا يستطيع الواحد منّا أن يقوم بمبادرة فرديّة للتصدّق، وأنّه سيأتي يوم تصبح فيه مؤسّسات ضخمة تعمل في هذا الموضوع. ولذلك نجد بأنّ الأجر والثواب الّذي وعد به المتصدّق وعد به أيضاً من يسعى في

 

10- م. ن.

11- سورة البقرة، الآية: 261.

تأمين الصدقة، ومن يحمل الصدقة من المتصدّق إلى اليتيم أو المحتاج أو الفقير. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “من مشى بصدقة إلى محتاج كان له كأجر صاحبها من غير أن ينقص من أجره شيء”12 ﴿وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. الله سبحانه وتعالى يعطي بلا حساب، وتكفّل للساعي في تأمين الصدقة ويإيصالها للمحتاجين بثواب وأجر المتصدّق نفسه دون أن يُنقصَ شيءٌ من أجر هذا المتصدّق. وورد أيضاً في رواياتنا حول مفهوم الصدقة في الإسلام الكثيرُ من أخلاقيّات وآداب هذا السلوك وهذه الممارسة وهذه الفريضة وهذا العمل المستحبّ، فيما يتحدّث عن صدقة السرّ أو العلن وأولويّة ذوي الأرحام.

 

خيرٌ من الصدقة

 

ومن أهمّ الأمور الّتي تعبّر عن هذا البعد الأخلاقيّ والإنسانيّ في التشريع الإسلاميّ هو حرمة إلحاق المنّ والأذى بمن نعينهم أو بمن نساعدهم، وهذا يؤكّد أنّ الغرض في الحقيقة والخلفيّة الأساس هي خلفيّة أخلاقيّة وإنسانيّة. لذلك، قال الله سبحانه وتعالى ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى13.

 

نعم، هناك الكثير ممّن يتصدّقون أو يساعدون، أو مثل بعض الدول الّتي تقدّم المساعدات والمعونات لجهة معيّنة، ثمّ فيما بعد يلحق بهم من الأذى والمنّ ما يذهب بماء وجوههم جميعاً. بينما ركّز الإسلام على حفظ ماء وجه اليتيم والمحتاج والفقير الّذي نتصدّق أو ننفق عليه أو نساعده في الحقيقة. ولعلّ هذا أيضاً أحد إيجابيّات أو خلفيّات صدقة السرّ. حتّى أنّه ورد في بعض الروايات في الآداب أنّك عندما تعطي مالك للفقير لا تنظر إلى وجهه، حتّى لا يخجل ولا يستحي منك فحاول الإسلام إلى هذا الحدّ أن يُراعي كرامة أولئك الّذين تمتدّ إليهم اليد لمعونتهم ولمساعدتهم وسدّ حوائجهم.

 

12- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج92، ص175.

13- سورة البقرة، الآية: 263.

 

يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى14. عندما تتصدّق على إنسان ثمّ تمنّ عليه وتؤذيه فقد أبطلت صدقتك ولم يعد لها أجر ولا ثواب ولا مكان ولا معنى. وهذا يؤكّد أنّ حرص الإسلام على الكرامة الإنسانيّة هو أشدّ بكثير من حرص الإسلام على أن يملأ بطن الجائع. ولذلك، قالت الآية: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾15. فكرامة الإنسان أهمّ من جوعه أو شبعه، ولذلك، إن كنت تريد أن تشبع بطنه عليك أن تحفظ الأهمّ، وهو كرامة هذا الإنسان.

 

عندما يصبح في كلّ دكّان وفي كلّ بيت مكان للصدقة، وصندوق للصدقة، وعندما تنتشر ثقافة الصدقة بين الناس، هذه الأموال المتواضعة والبسيطة تتراكم، وعندما تتراكم هذه المبالغ تستطيع أن تحلّ مشكلة عدد كبير من العائلات.

 

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتصدّقين، ويتقبّل منّا القليل، ويعوّضنا بالكثير، ويعجّل لنا ظهور الدولة الكريمة حتّى لا يبقى موضعٌ للصدقة، حيث يملؤها صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، إنّه سميع مجيب.

 

14- سورة البقرة، الآية: 264.

15- سورة البقرة، الآية: 263.

للمطالعة

في رحاب الصدقة16

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أكثر من صدقة السرّ فإنّها تطفئ غضب الربّ جلّ جلاله”

 

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “سبعة في ظلّ عرش الله عزّ وجلّ يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل تصدّق بيمينه فأخفاه عن شماله، ورجل ذكر الله عزّ وجلّ خالياً ففاضت عيناه من خشية الله، ورجل لقي أخاه المؤمن فقال: إنّي لأحبّك في الله عزّ وجلّ، ورجل خرج من المسجد وفي نيّته أن يرجع إليه، ورجل دعته امرأة ذات جمال إلى نفسها فقال: ﴿إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.

 

روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “إنّ صدقة النهار تُميث الخطيئة كما يُميث الماء الملح، وإنّ صدقة الليل تطفئ غضب الربّ جلّ جلاله”.

 

وعنه عليه السلام قال: “من تصدّق حين يُصبح بصدقة أذهب الله عنه نحس ذلك اليوم”.

 

وعنه عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام قال: “سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الصدقة أفضل؟ فقال: على ذي الرحم الكاشح17“.

 

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: “من تصدّق في شهر رمضان بصدقة صرف الله عنه سبعين نوعاً من البلاء”.

 

وعنه عليه السلام: “الصدقة يوم الجمعة تضاعف أضعافا”.

 

عن أبي جعفر عليه السلام عن أمّ سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “صنايع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الربّ، وصلة

 

16- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج93، باب الصدقة.

17- الكاشح: الذي يُضمر لك العداوة.


الرحم زيادة في العمر، وكلّ معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وأوّل من يدخل الجنّة أهل المعروف”.


شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...