الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد بايلاک آفيديان في تاريخ 29/12/1984م.
الشهيد پايلاك آفيديان
مكان الاستشهاد: ديزفول، خوزستان
تاريخ الاستشهاد: 15/10/1980م
84
68
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
أنا أخو بايلاک الأكبر. نحن تسعة إخوة وأخوات. وبايلاک كان ترتيبه الثّالث بعد أختي وبعدي. جميعنا قد وُلِدْنا في مدينة فريدون في أصفهان، وهناك كُنّا نعيش. تزوّجت أختنا الكبرى قُبَيْل الثورة بعدّة سنوات وجاءت إلى طهران. بعدها أتيتُ أنا إلى طهران، وبعدي بسنتَيْن أو ثلاث، انتقلت العائلة كلّها إلى طهران.
كان أبي فلّاحًا في مدينة فريدون. وعندما جاء إلى طهران عمل في مصنع للّحوم. وكما كان بايلاک عوناً لوالدي في أصفهان، كذلك كان حينما جئنا إلى طهران. سارع في البحث عن عمل واشتغل في مطعم من الدرجة الأولى. كانت علاقاته العامّة جيّدة جدًّا، وبالإضافة إلى اللّغتَيْن الأرمنيّة والفارسيّة كان يُجيد الإنكليزيّة أيضًا. في الأيام الأولى لوصولنا إلى طهران، تسجّل في مؤسسة لتعليم اللغات.
كان بايلاک جميل الوجه، أنيقاً وذا بنية جسديّة قويّة، كما يظهر في هذه الصورة الّتي تجمعني به، وقد أُخِذت قبل أن يلتحق بالخدمة العسكريّة. إنّ الّذي يرتدي المعطف الجينز هو أنا، والذي فرّق شعره من الوسط هو “بايلاک”.
85
69
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
كان إجمالًا، فتًى ذا استعدادات عالية. في المطعم، كان يملأ أوقات فراغه بالعزف على بيانو المطعم. خلال عدّة أشهر بات عزفه على البيانو متقناً، ومن دون أن يتعلّم على يديّ أستاذ. كلّ من كان يراه يظنّ أنّه قد كبر على عزف البيانو منذ نعومة أظفاره.
كان بايلاک، حقًّا وإنصافًا، شابًّا ودودًا جدًّا ومحبًّا جدًّا. لم يكن أحد يُحبّ أبي وأمّي مثله. وعندما استشهد لم يستطع أيّ شخص أن يملأ فراغ محبّته. كلّ الراتب الّذي كان يتقاضاه من المطعم كان يصرفه على البيت والأسرة. لم يكن يحتفظ بشيء منه لنفسه أبدًا. كان كذلك سنداً لأبي في المصروف، ويشتري الهدايا لأمّي وأخواتي وإخوتي. كان مصدر بهجة قلوبهم وفرحتها.
في ربيع تلك السنة الّتي استشهد. فيها، أيْ في سنة ثمانين، أهدى أمّي ذهباً بمناسبة عيد الفصح. وبعد شهادته وضعت أمّي قسيمة شراء ذلك الذهب في ألبومها. كانت كُلّما وصلت أثناء تصفّح الألبوم إلى قسيمة الشراء تلك، تجهش بالبكاء وتقول: “فدتك نفسي يا أمّاه، كُنتَ تُفكّر فقط بإسعاد الآخرين”.
86
70
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
هل سمعتم قولهم: “مهما قلت عن فلان فهو قليل؟” أنا نفسي كنتُ أظنّ أنّ هذا الكلام ليس إلّا مجاملة! ولكن حين أتكلّم عن بايلاک أعلم واقعًا أنّ كلّ ما أقوله عنه قليل في حقّه.
كان بايلاک رياضيًّا، ويُمارس رياضة الـ “زور خانه”1. وإذا ما راح يُحرّك الهراوات كان الفتية الأصغر سنّاً يتعبون من تعداد مرّات رفعه وتحريكه لها قبل أن يتوقّف هو. لم تكن قدرته البدنيّة محلًّا لنقاش. لقد اشتهر بأنّ أحداً لا يُمكنه أن يلوي ذراعه. كانت عضلاته مقسّمة ومفتولة لكثرة ممارسته للرياضة.
لمّا قرّر الذهاب إلى خدمة الجنديّة، أصابنا الحزن جميعًا. كلّنا ما عدا الوالد. لقد ذبح الوالد خروفاً أضحية على شرف ذهاب بايلاک إلى الجنديّة. كان إلى هذا الحدّ فرحاً من بلوغ ابنه الرجولة. وقد أخبره أنّه بمجرّد أن يُنهي خدمته العسكريّة سيُشمّر عن ساعدَيْ الخدمة من أجل تزويجه.
بدأت خدمته العسكريّة، ولم تكن الحرب قد نشبت بعد. كان تدريبه في مدينة بيرجند، وبعدها انتقل إلى مدينة مشهد. بعد مضي عدّة أشهر، بدأت الحرب فعزم على الذهاب إلى دزفول. كانوا قد جاؤوا إلى بايلاک وقالوا له: “تعال لنفرّ وننجوَ بأنفسنا! فإن لم نَلُذْ بالفرار لن نبقى أحياء”.
تلك الفترة كانت فترة رئاسة بني صدر للجمهوريّة. وكان بنو صدر في الوقت عينه رئيسًا للجمهورية وقائداً عامّاً للقوّات المسلّحة. وأنتم تعلمون حتمًا أنّ أوضاع المقاتلين في الجبهة خلال تلك الأشهر، بسبب نمط تفكير بني صدر وإدارته، لم تكن بالنحو المطلوب.
ورغم هذا كلّه، لم يقبل بايلاک أن يفرّ، بل كان يدفع الفارّين للانصراف عن قراراتهم. كان شجاعًا جدًّا، مقدامًا لا يخاف. أُقسم بالله إنّه لم يكن في هذا الفتى أيّ خوف. كان يتكلّم مع رفاقه بشكل حاسم وراسخ، فيطرد الخوف من قلوبهم.
هو نفسه كان يُخبرنا أيّام إجازته: “قلت لهم: إنّ الموت أفضل بألف مرّة من العيش بهذا الهوان والذلّ. إذا كان لا بدّ من الموت في يوم من الأيّام، فأيّ موت أفضل من أن نُقتل دفاعاً عن ترابنا ومالنا وعرضنا”.
1- زور خانه أو “بيت القوّة” هي رياضة فتوة تقليدية قديمة جدًّا في إيران، فيها من استعراض القوّة ورفع الأثقال وما يُشبه المصارعة الكثير، ولها أدوات خاصّة تستخدم عند ممارستها كالهراوات والأقواس والأحجار. (المترجم)
87
71
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
إحدى مميّزاته أيضًا هي أنّه حيثما كان في جماعة، فإنّ إدارة تلك الجماعة كانت تقع بطريقة تلقائية على عاتقه، من دون حتى أن يريد هو ذلك أو يلتفت إليه. وكأنّه قد صُنع لأجل القيادة وإعطاء الأوامر. بالطبع لم يكن في وجوده أبداً أيّ ميل للقيادة وتولّي الأمور. في الأيّام الأولى للحرب، اقترحوا عليه أن يخدم في الجيش وينضم إلى قوّات النخبة، لكنّه لم يقبل.
من ميزات بايلاک الأخرى التي يحتمل أن تكون لافتة لكم هي أنّ بايلاک كان من أهل المطالعة. كان قارئاً نهم، بدءًا من كتب التاريخ ووصولًا إلى القصص والروايات. حتى في المعسكر والمخيّم والجبهة، لم يتوقّف عن قراءة الكتب.
لا أعلم بالدقّة ماذا كان عمله في فترة الخدمة العسكريّة. لدينا صور لبايلاک في كلّ الحالات: من إطلاق النار بالمسدس والـ ج3 والآر بي جي والرشاش، وصولًا إلى قيادة الدبّابة وغيرها! سواء في حرّ الصيف أو في ثلج وبرد الشتاء. عندما كُنّا نسأله عن دوره في الجبهة لم يكن يقدّم لنا جوابًا وافيًا. كان يقول افترضوا أنّني أكنس هناك! ما الذي يُغيّره نوع عملي في الجبهة؟
كان ينشط كثيرًا كلّما حانت ذكرى إبادة الأرمن في تركيا. يُعِدُّ الإعلانات، ويكتب اللّافتات، ويُسيّر المظاهرات ويلتقط الصور.
لطالما كان يُثني على العلاقة الحسنة بين مسلمي إيران والأرمن، مكرِّراً أنّ عددًا كبيرًا
88
72
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
من الأرمن بعد الترحيل الإجباري لهم من قبل الشيوعيّين قد هاجروا إلى إيران وتركيا، فأين المعاملة الوحشيّة للأتراك من المعاملة الحسنة للإيرانيّين. لقد دمّر الأتراك الآثار التاريخيّة للأرمن، فيما أعاد الإيرانيّون ترميمها.
كان يجمع الصور والملصقات والمنشورات حول المظاهرات كلّ سنة في ألبومه ويحتفظ بها. في المرّة الأخيرة التي عاد فيها بمأذونيّة، كان موعد مأذونيّته، قد تأخّر قليلًا عمّا كانت عليه العادة. كان قد نظّم أوقات مأذونيّاته بحيث يستطيع أن يكون يوم 24 نيسان، يوم المراسم السنويّة لتلك المذبحة، في طهران. هذه الصورة هي صورة آخر صفحة في ألبومه حول مراسم المظاهرات.
89
73
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
لا يُمكن أن أنسى يومَيْن من حياتي. الأول هو اليوم الّذي ذهبتُ فيه للتعرّف إلى بايلاک في برّاد المستشفى. والآخر هو اليوم الّذي حلّ علينا فيه السيّد الخامنئي ضيفًا.
في ذلك اليوم الذي جاؤوا فيه بخبر شهادة بايلاک كنتُ في البيت، وكان أبي وجدّي موجودَيْن أيضًا. جاءنا جنديّ وطلب منّا الذهاب إلى مركز الطبّ الشرعي للتعرّف إلى الجثمان. ذهبنا ثلاثتنا إلى هناك. وقد عمّ المركز هرجٌ ومرج. الجميع منشغلٌ بالبكاء والنحيب. أخذونا إلى قسم من البرّاد، كانت فيه أجساد ثلاثة شهداء أرمن. الجثمان الأول كان لشهيد لم يكونوا قد أخبروا أسرته بشهادته بعد، العسكريّ الّذي كان قد ذهب ليُبلّغ الأمر شاهدَ حفلَ زواج أخي الشهيد فلم يُطاوعه قلبه أن يحوّل العرس إلى مأتم. الجثمان الثاني كان لزوريك مراديان، والثالث كان لبايلاک. وكان جثمانه حقّاً. كانت الرحمة لا تزال تتوهّج في وجهه، كتفه الأيسر ممزّق تمامًا فوق قلبه، و… فلندع ذلك. بايلاک وزوريك كانا في عداد الشهداء الأرمن الأُوَل.
كان زوريك مراديان قد استشهد في الحادي عشر من شهر تشرين الأول لسنة ثمانين، واستشهد بايلاک بعد أربعة أيام من ذلك التاريخ أي في الخامس عشر من شهر تشرين الأول. لكنّهم جلبوا جثمانَيْ الشهيدَيْن معًا إلى طهران. بايلاک كان قد استُشْهِد في دزفول1، وزوريك في مدينة بيرانشهر.
1- من أقدم مدن إيران وخوزستان، والّتي بسبب تحمّلها لأشد القصف الصاروخي للعدو وتقديمها لألفَيْن وستمئة شهيد أثناء الحرب المفروضة قد تحوّلت إلى أحد رموز المقاومة.
90
74
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
كان جدّنا لأمّنا قسّيساً، القسّ “آشام آراكليان”. هذه صورة بايلاک بجانب جدّي وجدّتي لأمّي. يجب أن تُسامحَني لأنّني أُريك كلّ هذه الصور. أخي بايلاک كان رقيقاً وجذّاباً إلى الحدّ الّذي يشفق المرء معه أن لا يَبْرِز صوره هنا وهناك. وهو كان يعرف أنّه كذلك. كان يُمازحني أحيانًا عند أخذ الصور ويقول: “مسرور أنت لأنّ لديك أخاً جذّاباً بهذا الشكل ها!”.
كنتُ أتحدّث عن جدّي عندما وصل بنا الكلام إلى هنا، كان جدّي القس آراكليان معروفًا جدًّا، جميع الأرمن كانوا يعرفونه. عند دفن بايلاک، اقترح أن ندفنه في قطعة أرض منفصلة، وأن نُخصّص في المقبرة مكاناً لدفن الشهداء، بقعة باسم “ناهاتاك”. نحن في اللّغة الأرمنيةّ نذكر الشهيد بعنوان ناهاتاك. الآن إذا ذهبت إلى مقبرة الأرمن تجد بقعة خاصّة بالشهداء، وقد وَضَعوا في وسط تلك البقعة نصباً كتبوا عليه أسماء الشهداء. كان وجود هذه البقعة بفضل اقتراح جدّنا, وكأنّه كان يعرف غيرة الأرمن وحماستهم، ويعلم بأنّ عدد الشهداء الأرمن سيكون كثيرًا إلى الحدّ الذي يتطلّب بقعة مستقلّة.
اللّيلة الأخرى التي لا تذهب من خاطري أبداً هي تلك اللّيلة حين شرّفنا السيّد الخامنئي في منزلنا. ومهما كان مرّاً ومظلماً وثقيلاً ذلك اليوم الّذي ذهبنا فيه إلى الطبّ الشرعي للتعرّف إلى جثمان بايلاک، فإنّ تلك اللّيلة الّتي زارنا فيها السيّد الخامنئي عن قرب في منزلنا كانت
91
75
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
عذبة ومضيئة للغاية. لقد كانت ليلةٌ لا تُنسى. في الواقع، لقد تعرّفت في تلك الليلة إلى سيّد خامنئي آخر، فهذا السيّد الخامنئي يفصله عن ذاك الّذي كنتُ أعرفه ألف سنة ضوئية. لا بمعنى أن تُفكّر أنّه قبل اللقاء كان في ذهني ملاحظة سلبيّة عنه. كلّا، أبدًا. فقط، وبحقّ، لم أكن أُصدّق أن يكون إلى هذا الحدّ رحيمًا وطيّباً ودافئًا ولطيفًا وحميمًا ومحبّباً. أصلاً، أين تلك الصلابة والقوّة التي كنتُ أُشاهدها فيه عبر التلفاز، وأين تلك الرأفة والحنان والمحبّة التي رأيتها منه في تلك اللّيلة. لم أكن أستطيع أن أجمع تلك الصفات بعضها مع بعض.
في ذلك اليوم، اتصلتْ أمّي وقالت: “إنّه من المقرّر أن يأتينا ضيف. عدْ إلى المنزل فورًا من عملك”. كنتُ حينها خاطباً. بعد العمل ذهبت إلى منزل خطيبتي ونسيت توصية أمّي. وبينما كنتُ هناك وسألني والدا خطيبتي عن أحوال والدَيّ تذكّرت في تلك اللحظة توصية أمّي. اعتذرت وعدت إلى منزلنا. كان ذلك سنة أربع وثمانين بعد أربع سنوات على شهادة بايلاک، وفي أوج أيّام الحرب المفروضة.
عندما وصلت أمام منزلنا، رأيت شخصَيْن مجهولَيْن يقفان أمام الباب. وبعد سين وجيم منهما دخلت إلى المنزل. وفي منتهى الدهشة والحيرة، رأيتُ رئيس الجمهورية السيّد الخامنئي في منزلنا يتحدّث بحرارة مع أبي وأمّي.
عندما دخلت وسلّمت عرّفني أبي بالأخ الكبير للشهيد والابن الأكبر للأسرة. وقف السيّد احترامًا لي وسلّم عليّ بحرارة وحميميّة.
كانت تلك الليلة ليلة حافلة بالذكريات، ليس بالنسبة لي فحسب، بل لأبي وأمّي ولكلّ
92
76
الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك
فردٍ من أخواتي وإخوتي الذين كانوا حاضرين في تلك الجلسة. لقد تحدّث “السيّد” مع كلّ واحد منّا وسألنا عن أحوالنا، حتى إنّه سأل أخواتي وإخوتي الّذين يتابعون دراستهم عن الصفوف الّتي هم فيها، وعن أوضاع دروسهم وأمثال هذه الأمور. أنت لا تعرف أيّ حالة يبعثها في الإنسان اللّقاء الحضوري والخصوصي مع السيّد الخامنئي. أذكر أنّني ذهبت وجلبت شهادة بايلاک، وتحدّثنا معه بالتفصيل عن بايلاک. وهو كذلك تحدّث كثيراً عن عظمة عمل بايلاک، والشباب من أمثاله، وأثنى على أبي وأمّي وقدّر عطاءاتهما.
الآن صورة بايلاک هي زينة منزلنا، صورة تختلف عن بقية الصور.
صورة وكأنّ فيها روحًا تسري، ترى وتسمع وتتحدّث معك في الخلوة، صورة هي مشكى ضيم أكثر منها صورة على جدار. صورة سعت أن تملأ لي فراغ مكان أخي الغالي، ولكن.
عائلة أخي الشهيد آوديان المحترمة 09/2014م.