الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيدَيْن هايقان وادموند موسِسيان ومنزل الشهيد جاجيك طومانيان في تاريخ 01/01/1999م.
الشهيد هايقان موسسيان
شهيد الإرهاب في طهران
تاريخ الاستشهاد: 03/09/1981م.
الشهيد ادموند موسسيان
شهيد الإرهاب في طهران
تاريخ الاستشهاد في: 13/06/1981م.
الشهيد جاجيك طومانيان
مكان الاستشهاد: مريوان، كردستان
تاريخ الاستشهاد: 15/08/1987م.
112
90
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾1
الشتاء قارس والثلج والجليد يُغطّيان الطرقات، لكنّ دفء شهر رمضان قد بلغ أوجه. لقد انقضت ليلتا التاسع عشر والواحد والعشرين من هذا الشهر، أيْ اللّيلتان اللّتان يُحتمل أن تكون ليلة القدر إحداهما. وها هي اللّيلة الثالثة والعشرون؛ الليلة التي يُرجّح أن تكون هي ليلة القدر أكثر من اللّيلتَيْن السابقتَيْن، ولذلك فهي بالنسبة إلى كلّ مسلم أهمّ ليلة في السنة.
أهمّ شهر في السنة هو شهر رمضان، وأهمّ ليلة في شهر رمضان هي ليلة القدر؛ ليلة نزل فيها القرآن على قلب النبي. ليلةٌ بتعبير القرآن هي أفضل من ألف شهر. ليلةٌ يُكتب فيها مصير السّنة القادمة بتمامه للنّاس. ولو أنّ مؤمناً علم قدر هذه اللّيلة لأمكنه من خلال الدّعاء والمناجاة والطلب من اللّه أن يؤثّر في هذا المصير. إنّه أمر أولياء الله أن يبقى المؤمنون في هذه اللّيلة مستيقظين، ويحيوها بذكر الله والعبادة والدعاء.
يُخيّم على هذه اللّيالي أيضاً شيء من الحزن والعزاء. فهذه هي اللّيلة الخامسة الّتي نذرف فيها الدمع على أمير المؤمنين علي عليه السلام لمصيبة ضربة رأسه الشريف وشهادته.
لطالما شغلتني في ليالي القدر هذه الفكرة، وهي أنّه ما الّذي يدعو به ويطلبه جناب السيّد في هذه اللّيلة. وحيث إنّني أعمل في مكتبه، وأرى وأسمع وأقرأ قسماً من القضايا المتعلّقة به، يقلّ صبري في ليالي القدر، وتكون جعبتي مملوءة بالحاجات. وفي ظلّ هذه الأوضاع الحسّاسة في البلد وفي العالم، وحيث إنّه لم يبقَ من ليالي القدر إلاّ ليلة واحدة، كان ينبغي أن يُقدّر وقت هذه اللّيلة لحظة بلحظة. الغفلة ممنوعة ولو بأدنى مقدار.
1- سورة القدر.
113
91
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
لقد عقدت الأمل على هذه اللّيلة، ووضعتُ برنامجاً وجدولة زمنيةً لإحيائها. ورغم أنّ ليالي الشتاء طويلة، وحتى لو أحيينا هذه اللّيلة من بعد الإفطار حتّى الصباح بالمناجاة والدّعاء إلى الله لما اكتفيَنْا. والحال أنّ تمضية اللّيلة بطلب الحاجات من الله فقط هي خلاف الأدب. ينبغي القيام بالأعمال المأثورة الموصى بها. ليلة القدر هي ليلة القرآن، فإنْ لم يتيسّر ختمه كاملاً، فأقلّه ينبغي أن نقرأ عشرة أجزاء منه. وهي ليلة المناجاة، ليلة أبي حمزة والجوشن الكبير ودعاء المجير وعشرات الأدعية المأثورة الأخرى التي أوصى بها علماؤنا. إنّها ليلة الصلاة وليلة البكاء على مظلوميّة علي عليه السلام ووحدته.
أُفكّر مجدّداً بأنّني أنا اللّاشيء، لديّ كلّ هذه الحاجات في هذه اللّيلة وأضع لنفسي برنامجاً، فكيف بقائدنا الّذي تشغله كلّ تلك الهواجس والهموم بشأن الثورة والبلد وعالم الإسلام، ما هي الشرائط التي يُراعيها في هذه الليلة؟ هو الذي عليه أن يعبر بسلامةٍ بهذه السفينة وسط هذا الطوفان والفتن الكبرى والصغرى، كيف يكون حاله وما هو البرنامج الذي وضعه لليلته هذه؟ أيّ دعاء وأيّ صلاة؟ ومن بين كلّ الأعمال والعبادات الخاصّة بهذه اللّيلة، أيّ عمل قد وجده هو المقرّب إلى اللّه أكثر؟
جلستُ على سجّادة الصلاة في الغرفة الأكثر هدوءاً في المنزل، وقبل البدء بالأعمال رُحت أُفكّر في عظمة ليلة القدر، وعظمة ليلة قدر القائد. وفجأة، رنّ جرس الهاتف؛ إنّه من المكتب. يقولون إنّ لدينا برنامج زيارة منازل عوائل الشهداء هذه اللّيلة.
عجيب! اللّيلة! اللّيلة التي ينبغي أن نمضيَها في العبادة! ألا يُمكن أن يؤجّلوا هذا البرنامج إلى ليلة أخرى، ليلة الغد مثلاً. هل حقّاً ينبغي أن نذهب في هذه اللّيلة الثالثة والعشرين التي هي أهمّ ليالي السنة!
بحزنٍ واغتمام من ضياع هذه الفرصة، أجرّ خُطاي بتثاقل إلى المكتب. أتوجّه لجلب مصاحف للعوائل الّتي سنزورها. يقولون لا حاجة لذلك. أتعجّب، في هذه الليلة يضع الجميع القرآن على رؤوسهم، أليس من الواجب أن نحمل معنا المصاحف إلى عوائل الشهداء! يقولون إنّ العوائل الّتي سنزورها الليلة أرمنيّة. عجيب! لم أكن ملتفتاً أبداً إلى أنّ القائد وفي هذه الأيام من شهر كانون الثاني، والتي هي أيام السنة الجديدة الميلاديّة، يزور عادةً منازل الشهداء المسيحيّين.
114
92
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
تسير سيّارتنا خلف سيّارة السيّد الخامنئي، وتمرّ أمام ناظري مشاهد العزاء في المدينة وأرى الناس يتوجّهون إلى المساجد فيزداد حزني وغمّي. في هذه الليلة، المسلمون في حزن وعزاء على أمير المؤمنين عليه السلام، ونحن علينا أن نذهب إلى بيوتٍ تحتفل بالعيد وتُقيم الأفراح. علينا أن نذهب لنُبارك لهم ونُشاركهم عيدهم. وأنا في خضمّ هذه الأفكار نتوقّف. وحينما أرى القائد وأُسلّم عليه، تتنحّى كلّ هذه الأفكار في ذهني جانباً. لقد هيمنت أجواء حضوره وملأت فراغ قلبي.
بعد كلّ تلك السنوات من مرافقته، منذ أيّام ما قبل الثورة وإلى اليوم، لم تكن رؤية هذا الوجه بالنسبة إليّ عاديّة أو متكرّرة. في كلّ مرّة يرتجف قلبي وأشعر بالخشوع عند رؤيته.
نسير خلف خطى السيّد القائد وهو يصعد درج أحد المنازل، مبنى مؤلّف من طبقتين، ومنزل عائلة الشهيد في الطبقة الثانيّة. نلتفتُ إلى وجود شهيدَيْن في هذه الأسرة، أبٌ وابن. وكلاهما قد سقط شهيداً في الهجمات المسلّحة للمنافقين في شوارع طهران.
يقف أمامنا شابٌّ في الثالثة والعشرين، لا بدّ أنّه ابن الشهيد وأخو الشهيد. يُجيب بدهشةٍ وذهول على سلام السيّد ويُصافحه بشدّة.
ندخل المنزل لنرى سيّدةً في الستينيّات من عمرها، ترتسم على وجهها ابتسامة عريضة لرؤية القائد. تُرحّب زوجة ووالدة الشهيد بالقائد عدّة مرّات وبارتباك: “أهلاً وسهلاً بكم. يا ألف أهلاً وسهلاً”. وتُرشد القائد إلى غرفة الاستقبال.
لا يزال الشاب مذهولاً ووالدته في حبور. وجه الشاب تعلوه الدهشة وعدم التصديق، ووجه الأم تغمره السعادة والرحمة. تُرافق والدة الشهيد السيّد الخامنئي إلى غرفة الاستقبال، لكنّ الشاب لا يزال واقفاً عند مدخل البيت مأخوذاً بمشاهدة القائد. ينظر إليه وكأنّه لا يراه. كأنّما يتأرجح جيئةً وذهاباً. أُمسك بيده فيعود إلى نفسه، أقول: “هيّا لندخل، فالقائد في الانتظار”.
وكأنّه عاد إلى رشده للتوّ.
– أجل، أجل، هيّا. القائد… القائد جاء إلى منزلنا. نعم! لنذهب!
في غرفة الاستقبال، يجلس القائد على إحدى الكنبات وتجلس والدة الشهيد على كنبةٍ إلى يساره، وابن الشهيد على كنبةٍ إلى يمينه، وقد وُضعت أمام الكنبات طاولةٌ رُتِّبَتْ عليها صورتان للشهيدَيْن موسسيان.
115
93
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
من الواضح أنّ الصبي الشاب مضطّربٌ جدًّا. لعلّ السبب هو عمره، أو لعلّها سنوات اليُتم الّتي عاشها. بمجرّد أن يجلس القائد وتقع عيناه على الصور أمامه يقول:
– حسناً. عرّفونا إلى أصحاب هذه الصور.
يهمّ بالقيام لالتقاط الصور، فيُبادر ابن الشهيد بسرعة إلى حمل الصور عن الطاولة وتقديمها إليه.
أوّل صورة هي صورة لأب العائلة، يتأمّل القائد الصورة ويقول لوالدة الشهيد:
– هل استشهد هو أولاً أو ابنكم؟
– ابني أولاً.
يضع “السيّد” صورة الوالد هايقان موسسيان جانباً، ويحمل صورة الابن الشهيد إدموند موسسيان.
في لقاءاته مع عوائل الشهداء، ينظر سماحة القائد إلى صورة الشهيد وكأنّه يعرفه من قبل. هذا العمل البسيط نفسه، أيْ مشاهدة صورة الشهيد، هو بمثابة مواساة لعائلته الّتي تتحسّر لرؤيته، ولا تستطيع النظر إليه إلاّ عبر الصورة.
116
94
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– أين استشهد يا سيّدة؟
لقد استشهد ولدي في الشارع وزوجي في الزقاق الّذي نعيش فيه.
يتكرّر صوت الوالدة المتهدّج في أذني: “ولدي في الشارع وزوجي في الزقاق”.
يضع القائد الصورة على الطاولة ويتناول مجدّداً صورة الأب، وينظر إليها ويقول: “أسأل الله أن يمنّ عليكم بالأجر والصبر. ماذا كان عمله؟”
– كان يعمل في وكالة لتأجير السيّارات.
كانت زوجة الشهيد قد اتّصلت بزوجها لتُخبره أنّهم قد اكتشفوا وكراً للجواسيس1 في الزقاق، وأنّ الزقاق لا أمن فيه، فإمّا أن لا يرجع إلى المنزل، أو فليأتِ من دون السيّارة. لكنّها قد تأخّرت في الاتصال قليلاً، فعندما رنّ جرس الهاتف، كان زوجها قد غادر الوكالة وتوجّه نحو منزله. لقد خرجت مرّات عديدة من شدّة القلق إلى الخارج، ولكنّ الحراس كانوا يُجبرونها على العودة إلى الداخل. فالقرار بمداهمة وكر الجواسيس كان قد اتُّخذ، وقد أخبروها أنّه من الممكن أن تحصل مواجهة في أيّ لحظة. كانت تنتظر زوجها خلف باب
1- اصطلاحًا في الفارسية “خانه تيمي” وهو يطلق على البيوت أو التجمّعات الّتي كانت الحركات المعارضة والمحاربة للثورة كالمنافقين تلتقي فيها كمقرّات آمنة (المترجم).
117
95
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
المنزل حين بدأت المواجهة وعلا صوت الرصاص في المحلّة. بعد عشر أو خمس عشرة دقيقة، وحين سكت صوت الرصاص، خرجت من المنزل، شاهدت سيّارة زوجها وسط الزقاق وزوجها خلف مقود السيّارة غارقًا في دمه.
يُشير القائد برأسه إلى صورة ابنها الشهيد ويسأل:
– هو بالتأكيد كان يُتابع دراسته، أليس كذلك؟
تغلبها الغصّة، فحرارة فقدان الابن بعد مضي سبعة عشر عاماً لا تزال كما كانت عند أوّل فقده. تقول والدة الشهيد المحزونة بصوت مرتجف ينمّ عن الشوق:
– نعم، كان طالباً في السنة الثّانويّة الثّالثة، كان من المقرّر أن ينال شهادة الثّانويّة.
يُهدّئ القائد بطيبةٍ قلب الوالدة الموجع بهذه الكلمات:
– أسأل الله أن يجعل هذه المصائب الّتي نزلت بكم وسيلة للقرب المعنويّ، ويُهدّئ من روع قلوبكم. إن شاء الله تكون سبباً ليمتلئ قلبكم بالنور الإلهي والرحمة الإلهيّة.
تُجيب والدة الشهيد بصوت يعلوه الأسى: صعبٌ جدًّا. صعب جدًّا.
– حسناً. هذه الحوادث تصنع الإنسان. نعم! هي صعبة جدًّا، خاصّة أنّه لا فاصل كبيرًا بين الحادثتَيْن.
– نعم صحيح. ثلاثة شهور. في فترة أقل من ثلاثة شهور استشهد كلاهما.
– صعبٌ جدًّا. يُمكنني أن أشعر أيّ مشقّات قد تحمّلتِ وعانيتِ، وأيّ صعوبات واجهتِ في تربية أولادك.
يُعلم من النظر إلى وجه والدة الشهيد كم أنّها عانت طوال هذه السنوات وكم هرمت. لقد خسرت هذه الأم في أقلّ من ثلاثة أشهر كلّ سند وملجأ ومعين.
شهداء هذا البيت هم شهداء الإرهاب ولهم مظلوميّة خاصّة. فشهيد الإرهاب قد تمّ قتله بأخسّ صورة خالية من المروءة، وحتى إنّه لم يملك فرصة الدفاع عن نفسه.
وكم هو باعث على السخرية أن نرى مدّعي حقوق الإنسان الكاذبين في منظمة الأمم المتحدة ينادون من جانب بحرّية الأديان وحقوق الأقليّات، ونراهم من جانب آخر يحتضنون الإرهابيّين الذين يرتكبون هذه الجرائم داخل البلد. حقًّا كم إنّ وقاحة هذه المنظّمات لا حدّ لها ولا مقدار. فلا مظلوميّة شهداء الإرهاب لها حدّ، ولا وقاحة مدّعي حقوق الإنسان لها
118
96
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
حدّ. إنّ عدد سبعة عشر ألف شهيد إرهاب يهزّ كل وجدان حيّ ويُثير فيه الحزن والغضب، لكنّ مدّعي حقوق الإنسان قلقون من أجل حرّية قتلة هؤلاء السبعة عشر ألف شهيد.
وحتى يُبدّل أجواء الجلسة، يفتح “السيّد” حديثًا مع ابن الشهيد.
– حسناً. ماذا تعمل أنت؟
الشابّ الذي لا يزال إلى الآن مدهوشاً ومحتاراً وغارقًا في أفكاره، ينتفض من مكانه: نعم؟
يُعيد السيّد طرح سؤاله بنحو ألطف من قبل:
– أنت ماذا تعمل؟
يحلحل الصبي أصابع يديه ويُحرّك كفَّيْه على بعضيهما لعلّه يُخفّف من اضطرابه قليلاً:
– أنهيتُ المرحلة المتوسّطة ونزلت إلى سوق العمل.
ينظر إليه السيّد القائد نظرة أبويّة ويسأله بشفقة: لماذا لم تُكمل دراستك؟
– كانت هناك مشكلات!
– هل كنتم محتاجين إلى العمل؟
– نعم.
يبدو أنّ اضطراب الشابّ بات أقلّ ممّا كان عليه من قبل. يظهر هذا جليّاً من خلال نظراته
119
97
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
المُحِبّة إلى القائد. فهو الآن يُطيل النظر إليه أكثر من قبل.
والقائد الّذي لم تختفِ البسمة عن وجهه من بداية اللّقاء، يهزّ رأسه ويقول: حسناً. لا إشكال في هذا أيضاً. فالعمل أمر جيّد. الهدف من الدراسة والتعلّم هو أيضاً العمل، ولكن لو كان الإنسان قادراً على الدراسة وتحصيل العلم لكان أفضل بكثير.
ثمّ يميل القائد برأسه نحو الوالدة ويسأل: ألديك هذا الابن فقط سيّدتي؟
– كان لديّ ثلاثة صبية. أحدهم هذا الذي استشهد ولديّ الآن صبيّان. تزوّج ابني الأكبر وانفصل عنّا في مكان سكنه. بقي يسكن معنا حتّى السنة الماضية، ولكنّ حفيدي قد كبر وبات منزلنا ضيّقاً علينا جميعاً. الآن أنا وولدي نعيش في هذا المنزل.
عندما تتحدّث والدة الشهيد عن صغر حجم المنزل، أنظر بشكل تلقائي إلى الأرجاء. البيت صغير ولكنّه شرِحٌ. وحين يصل الكلام إلى ضيق المكان وهذه الأمور يُسارع القائد بالسؤال:
– ألا تتواصل مؤسّسة الشهيد معكم؟
– أجل يفعلون. أنا أتلقّى حقوقي من مؤسّسة الشهيد.
– هل تعملين أيّتها السيّدة؟
– لا. فقط ربّة منزل. أنا مريضة أعصاب ومريضة قلب ولا أستطيع العمل.
– هل تتلقّين العلاج؟
– أجل لديّ طبيب. طبيب أعصاب وطبيب قلب. أتناول هذه الأدوية حتى أتمكّن من إدارة شؤوني.
– شفاكِ الله وعافاكِ.
أجواء المنزل هي أجواء عيد الميلاد. في زاوية غرفة الاستقبال طاولة قد وُضِعَتْ عليها أطباق من المكسّرات والحلوى والشوكولا والفواكه المجفّفة. وخلف الكنبة الّتي جلس عليها السيّد هناك رفٌّ صغير قد زُيّن بمختلف وسائل التزيين، ووضع عليه عدّة صور وبطاقات صغيرة خاصّة بعيد الميلاد. وقد زيّنوا شجيرة سرو صغيرة بالمصابيح.
– أسأل الله أن يكون عيد ميلاد حضرة السيّد المسيح مباركاً عليكم. وكأنّكم تحتفلون بعيد الميلاد في هذه الأيّام من السنة. أنا أعلم أنّ عيد الميلاد عند الأرمن يأتي بعد شهر كانون الثاني بخلاف الكثير من الكاثوليك والمذاهب الأخرى الّذين يحتفلون بعيد الميلاد قبل بدء
120
98
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
شهر كانون الثاني. في تلك السنوات التي أصدرتُ فيها بياناً – لم يكن بيانًا سنويًا بل في بعض السنوات- كنتُ أوقّت إصداره بحيث يكون البيان مناسباً لعيد هؤلاء وعيد أولئك. أريد أن أُراعي مناسبة إخوتنا المواطنين الأرمن في هذه المسألة.
تتعجّب الوالدة من اطّلاع القائد في هذا المجال، وتهزّ رأسها مؤيّدة كلامه. أُدقّق النظر في وجه ابن الشهيد، لقد زال اضطرابه واستُبدل بالهدوء والمحبّة. ينظر القائد إلى أمّ الشهيد ويشير إلى الابن الشابّ ويسأل: كم كان عمره عند استشهاد والده؟
– كان ابن ثلاث سنوات. الآن عمره ثلاث وعشرون سنة.
مزار الشهداء هايقان وادموند موسسيان
في المكان المخصّص للشهداء في مدافن الأرمن
ينظر القائد إلى الشاب ويسأل: هل تذكر؟
يرفع الشاب كتفه عالياً ليشير إلى أنّه لا يذكر من الأمر شيئاً.
– بكم سنة يكبرك أخوك؟
– عمره تسع وثلاثون سنة.
121
99
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– هل تقوم أنت بأعمال فنّية ومن هذا القبيل؟
– أعمل في الميكانيك.
ينظر القائد إلى يديّ الشاب الخشنتَيْن والقاسيتَيْن. يدان تدلّان على أنّ صاحبهما لا بدّ وأن يكون عاملاً مجدّاً.
– أجل. فالأرمن روّاد الأعمال الميكانيكيّة والأمر واضح من يديك أيضاً؛ يديّ عاملٍ فعّال ونشيط!
ترتسم على وجه الشاب ابتسامة الراضي، ويقع كلام القائد موقعه في قلب الوالدة.
– هل أنت ماهر في عملك؟
– نعم.
– هل أنت معلّم في ورشتك أم أنّك متدرّب؟
– أنا عامل متدرّب.
– هل راتبك جيّد؟
– ثمانية آلاف تومان أسبوعياً.
– ثمانية آلاف تومان. قليل! ثمانية آلاف أسبوعيًا يعني: اثنان وثلاثون ألف تومان في الشهر!
يهزّ السيّد رأسه وكأنّه يزن أمراً في ذهنه، ثمّ يسأل: وهل أجرة أمثالك حالياً هي نفس أجرتك أنت؟
– أنا متمرّن منذ أربع سنوات.
– بالتأكيد لم يكن بهذا القدر في البداية، لا بدّ أنّ أجرتك ازدادت؟
– نعم، صحيح. كانت ألفَيْن وخمسمائة تومان أسبوعياً.
– وهل تُحسب الأجرة أسبوعياً؟
يهزّ الشاب رأسه إيجاباً، تأكيداً منه على كلام القائد.
ينظر القائد إلينا ويسألنا باستغراب: لم تكن العادة هكذا. لماذا بشكل أسبوعيّ؟! عادة تُحسب الأجرة بشكل شهري، أو كلّ أسبوعَيْن. ربّ عملكم أرمني أيضاً؟
– نعم.
122
100
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– حسناً. جيّد جدًّا. أسأل الله أن تتمكّن من أن تتطوّر وتُتقن حرفتك وتتحسّن أوضاعك نحو الأفضل.
حين تشعر الأم أنّ كلمات القائد تصل إلى ختامها تقول: “هل أصبّ لكم الشاي؟”
يقبل السيّد عرض الضيافة: لا مشكلة. اجلبوا الشاي.
ثمّ يُكمل مجدّداً حديثه مع ابن الشهيد: وكأنّك لم تتزوّج إلى الآن.
– ما زال الوقت باكراً.
– باكراً أو أنّك غير قادر؟
– غير قادر وأيضاً باكراً.
– في أيّ عمر يتقدّم الأرمن عادة للزواج؟
يُجيب الشاب بداية: “ثلاثة وعشرين، أربعة وعشرين”، ثمّ يكمل كلامه ممازحاً: “إذا استطاعوا”.
يُحدّق القائد في وجه الشاب ويبتسم.
123
101
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
في العادة، القائد حسّاس بشأن كيفية تمضية أبناء الشهداء لمرحلة الشباب ومتابعتهم للدراسة. ويجد لزاماً عليه أن يوصي هذا الشاب بروح أبويّة بضرورة استثمار أهم رأسمال بين يدَيْه وهو نعمة شبابه:
– لم يتأخّر الوقت بعد على دراستك. فبمجرّد أن تسنح الفرصة تابع. ينبغي أن تعرفوا أهميّة عمر الشباب. البعض يُضيّعون سنوات شبابهم في اللّذائذ الآنيّة وهي ليست شيئاً حتّى يُصرف لأجلها عمر الشباب الثمين. ينبغي أن يصرف الإنسان سنوات شبابه فيما له قيمة ويبقى.
أثناء حديث السيّد مع الشابّ، تُحضّر الأمّ الشاي والحلوى بطعم الزعفران. يتناول منها السيّد ويشكرها.
– هل تذهب إلى الكنيسة؟
– أيّام الأحد.
– هل تذهب باستمرار؟
– كلا.
فيتوجّه القائد بالسؤال إلى أم الشهيد: “وأنتم؟”
– بلى.
– إلى أيّ كنيسة تذهبين؟
– الكنيسة نفسها الموجودة في شارع فيلا.
يهزّ القائد رأسه ويسأل الشاب عن أحوال السيّد مانوكيان الأسقف الأكبر للأرمن. فالكنيسة الّتي ذكرتها الوالدة هي الكنيسة المركزية، ولا بدّ أنّ جناب الأسقف موجود في هذه الكنيسة.
إنّها ليلة سعيدة بالنسبة إلى هذه العائلة، فالقائد مسرور والوالدة والابن يبتسمان له بحياء ومحبّة. أنظر إلى الساعة، لقد طالت مدّة هذا اللّقاء قليلاً عمّا هي العادة في لقاءات مماثلة.
124
102
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
تُحضر والدة الشهيد لقائد الثورة الشاي والحلوى، وتُخبره قليلاً عن مشاكلها، عن قلّة الحقوق الشهريّة التي تصلها من مؤسّسة الشهيد، عن قِدم المنزل وصغر حجمه. عندما تتحدّث عن المنزل، يجول القائد بنظره في أرجاء البيت، ويتفحّص بدقّةٍ كلّ زاوية فيه، ثمّ بابتسامة وشيء من الممازحة يقول: ليس سيّئاً. موقعه أيضاً جيّد. مناسب أيضاً لشخصَيْن، وهو بيت قديم غير سيّئ بالنسبة إليكما.
وبلا فاصلة، ينظر إلينا ويقول: أنتم تابعوا المسألة وابحثوا. كلّ ما يُمكن تقديمه من مساعدة قدّموه.
أُسجّل توصية القائد كي لا أنساها.
يتوقّف الكلام، وينشغل القائد بشرب الشاي والسؤال عن الحلوى الموضوعة على الطاولة:
– هذه الحلوى من صنع يدَيْك أم أنّكِ اشتريتها.
تُطأطئ الوالدة رأسها وبابتسامة خجولة تقول: اشتريتها من الخارج. طعمها لذيذ.
يتناول السيّد قطعة ويأكلها مع الشاي.
في ختام الزيارة يرجع القائد إلى ابن الشهيد حتّى يلتصق به تقريبًا ويسأله عن اسمه الأول. وبعد أن يسمع الجواب، يهزّ برأسه ويُكرّر اسم الشاب مرّات عدّة وكأنّه يقول ما أجمل
125
103
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
هذا الاسم: السيّد آرمن موسسيان.
ثمّ وبوقفة منحنية، وبكلتا يديه يُقدّم لابن وأخي الشهيد، ولأمّه هدية ويقول:
– تفضّلا، هذه بعنوان عيديّة.
تشكر الأم والابن السيّد القائد على الهديّة، وعلى تشريفه منزلهما وإدخال السرور إلى قلبَيْهما.
* * *
من شارع الشهيد نجاة الله، نتوجّه إلى شارع خرّمشهر. في المنزل الثاني تأتي لاستقبال السيّد القائد والترحيب به سيّدتان، تقريباً في الستين وفي الأربعين من العمر؛ أمّ الشهيد وأخته. وكما اللقاء السابق، يوجد في هذا المنزل كذلك غرفة استقبال وطقم من الكنبات. يدخل السيّد القائد غرفة الاستقبال، وتتبعه والدة الشهيد وأخته. لا يجلس السيّد حتّى يعلم أولاً أين ستجلس والدة الشهيد: “أنت أين ستجلسين؟”
تقول والدة الشهيد الّتي تكبر القائد بسنوات عدّة: “أريد أن أجلس إلى جانبك”.
يبتسم القائد ويُرحّب بكلام الأم: “نعم. اجلسي. اجلسي ها هنا”.
لعلّ جلوس القائد بجانب والدة الشهيد المسيحيّ من أجمل لحظات هذه الأم المحزونة.
يجلس الثلاثة على كنبة هلاليّة الشكل، تسع لخمسة أو ستّة أشخاص. يجلس القائد على زاوية منها، وتجلس الأم وأخت الشهيد على الزاوية الأخرى.
مباشرةً بعد الجلوس، تقوم أخت الشهيد وتُحضر صورة أخيها الشهيد وتُقدّمها للقائد قائلة: “هذا أخي”.
يسند القائد عصاه على الكنبة ويحمل الصورة، ثمّ يشير إلى الوالدة ويقول للسيّدة الأخرى:
– أنت ابنة السيّدة؟
– نعم.
126
104
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
يتأمّل القائد في الصورة بدقّة وتوضّح أخت الشهيد: استشهد في الخامس عشر من شهر آب سنة سبع وثمانين في مريوان1.
– مريوان؟ كان جنديّاً؟
– نعم.
– أسأل الله أن يوفّيكَم أجوركم ويُسعد قلوبكم. وإن شاء الله يمنّ عليكم بدل المشقّات التي تحمّلتموها في هذه الحادثة بأفضل أجر.
على طاولة صغيرة مقابل القائد توجد صورة أخرى. تقوم أخت الشهيد وتُشير إليها، ثمّ تخنقها العبرة وهي تُعرّف صاحبها:
– هذا أيضاً أخي الآخر الّذي توفّي بالضبط بعد سنة من شهادة أخي الأول. كان قد ذهب في مَهمّة إلى مشهد من قِبَل الشركة الّتي يعمل فيها، وفي طريق عودته كان مسرعاً للمشاركة في
1- مدينة يقطنها الأكراد في محافظة كردستان في غرب البلاد، تقع في شمالها وغربها على الحدود مع العراق. قبل أن تبدأ الحرب هاجم أعداء الثورة هذه المدينة ولم يُفَكّ الحصار عن معسکر مريوان إلا بحضور الشهيد شمران والشهيد فلاحي. ومع بداية الحرب واتحاد القوى البعثية مع أعداء الثورة، كانت مريوان مسرحاً لمواجهات القوى الإيرانيّة مع العدوّ. كان رئيس الأركان الخالد الحاج أحمد متوسّليان أول قائد للحرس في مريوان يستطيع بمساعدة القوى الثورية الكردية أن يرفع خطر أعداء الثورة.
127
105
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
مراسم عزاء الذكرى السنوية الأولى لأخيه الشهيد، فتوفّي في حادث تصادم سيارته.
يُعطي القائد صورة الشهيد إلى أخته ويتناول صورة أخيه:
– يا لها من حادثة مؤلمة! هل كان أكبر سنّاً من الشهيد؟
بهذا السؤال تغلبها العبرة، وتنهمر دموعها بصمت على وجهها المتعب وتجلس: “نعم، كان أكبر سنّاً”.
والدة الشهيد جالسة كمن يحمل على كاهله آلاف جبال الغمّ والهمّ، تستمع إلى كلام ابنتها بهدوء وانكسار وحزن، وتهزّ رأسها مؤيّدةً. ومع كلّ ذلك كانت باسمة الثغر، فمن الواضح أنّ هذا اللقاء قد أدخل السرور على قلبها.
– نعم، فعلاً حادثة مؤلمة جدًّا. والوالد؟
تُجيب الابنة بصوت مرتجف: والدي قد توفّي أيضاً.
فيسأل القائد بتأسّف: “متى؟”
– قبل خمس سنين.
– هل كان الوالد حيّاً عندما توفّي أخوك بحادث السيّارة؟
– نعم نعم، كان حيّاً. بعد موت ابنه الثاني ساءت حالته وأصابه المرض في قلبه، ورقد في المستشفى مرّات عدّة ومن بعدها توفّي.
– أسأل الله أن يُعطيَكما ويُعطي المرحوم وهذا الشهيد أعظم الأجور بأفضل وجه. هذه الحوادث الحياتيّة المؤلمة لها آثار معنوية، وهي تستنزل الرحمة الإلهيّة. ليس هناك مرارة في الحياة الدنيا إلا ويُعطي الله مقابلها حلاوةً وسرورًا. هذا مقتضى العدل الإلهي، أن يكون مقابل كلّ مشقّة يُعانيها الإنسان في الدنيا أجر وعوض. إن لم يكن الإنسان قد أوجدها بنفسه على نفسه، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيُعطيه عليها الأجر. وفي بعض الموارد، حتى تلك الصعوبات التي يكون الإنسان قد جلبها على نفسه، فإنّ الله سبحانه وتعالى وبمقتضى كرمه ورحمته يُعطي الأجر عليها أيضاً. هذه سُنّة إلهية. آمل أن تكونا أنتما مشمولتَيْن بهذا اللّطف الإلهي إن شاء الله.
ينظر القائد إلى أمّ الشهيد ويقول: “حسناً، أولادك الآخرون؟”
– ليس لديّ ولد آخر. ما عدا هذه البنت.
128
106
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– إذاً، كانا فقط هذَيْن الابنَيْن اللّذَيْن قد رحلا؟
– نعم.
ترتسم معالم الحزن في عينيّ السيّد النافذتَيْن. يرمي بنظره إلى الصورتَيْن أمامه ويأخذ نفساً عميقاً، ثمّ يرفع رأسه ويتطلّع إلى الجدار. يسود الصمت للحظة وأنا أُفكّر في كلام القائد: “الله سبحانه وتعالى سيوفّيكم أجركم بكرمه”.
في هذا اللّقاء، كان ممثّل الأرمن في مجلس الشورى الإسلاميّ حاضراً أيضًا، السيّد وارطان وارطانيان. لا أدري إن كان قد صادف حضوره اللّيلة هنا أم أنّ أحداً أطلعه قبل موعد الزيارة عليها. والظاهر أنّه منذ أن سمع بزيارات قائد الثورة لعوائل الشهداء الأرمن بات يسعى إلى عدم تفويت هذا الأمر المُهمّ. كنتُ قد سمعتُ أنّ السيّد وارطانيان، من تلك النخبة المحبوبة والمعروفة بين مسيحيّي إيران.
يبدأ وارطانيان الّذي كان يجلس إلى يسار القائد بالحديث عن الأنشطة الثقافيّة لأخت الشهيد في نادي آرارات.
إنّها فعّالة ونشيطة جدًّا في الخدمات العامّة وفي نادي آرارات، وهي تمضي وقتاً هناك.
يهزّ القائد رأسه تأييداً ويقول: “إذاً أنتم ناشطون في آرارات أيضاً”.
ثم ينظر إلى أخت الشهيد ويسأل: أنتم ما هي وظيفتكم؟ ماذا تعملون؟
129
107
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– أعمل في شركة، أنا مسؤولة قسم الكمبيوتر. لكنّ شركتنا الآن قد سرّحت عددًا من الأيدي العاملة ولقد أبقوني بالطبع.
– لماذا؟
– إنّهم لا يعملون في الواقع.
– لماذا تُقلّل شركتك من عدد العاملين فيها؟ بسبب الوضع الاقتصادي؟
– نعم. لمدّة خمس أو ست سنوات كانت تصنع شركتنا الثلج. ثمّ ظهرت صعوبات ومشاكل في تأمين المواد الأوّلية فأُغلق هذا القسم. الآن، قلّلوا من عدد العاملين حتى يتمكّنوا إن شاء الله من أن ينطلقوا انطلاقة فعّالة مجدّداً.
يرفع السيّد رأسه إلى سقف الغرفة، ويتأمّل قليلاً. تستغلّ أخت الشهيد هذا الصمت، وتُقدّم توضيحات حول المنزل:
– هذا المنزل الّذي نسكن نحن فيه، قدّمه لنا مجلس الكنيسة الأرمني، وهم يأخذون منّا إيجاراً جزئياً. حالياً نحن موجودون، ولدينا عمل، وهذا المنزل موجود إلى أن يشاء الله ونرى ماذا يحصل.
يدعو السيّد القائد لأجل أسرة الشهيد هذه الّتي تتميّز بهذا القدر من عزّة النفس: “إن شاء الله تؤول أموركم إلى أحسن وجه وأيسر سبيل وتزول كلّ هواجسكم ومشكلاتكم”.
ومع تأمّلٍ يقول لنا، نحن الفريق المرافق له: “حسنٌ جداً، حسنٌ جداً. كم هو جميل أنّنا أتَيْنا الليلة إلى هذه السيّدة وسألناها عن أحوالها وأحوال هذه العائلة”.
للحظةٍ أعود بفكري إلى ما كنتُ عليه قبل ساعتَيْن وإلى خصوصيّة هذه اللّيلة؛ ليلة القدر، أفضل ليالي السنة، والّتي ينبغي أن تُحيا بأفضل الأعمال. والقائد يقول كم هو جميل أنّنا أتيَنْا في هذه اللّيلة نسأل عن أحوال هذه الأسرة.
تنبري والدة الشهيد وأخته بمنتهى العاطفة والوجد والشغف لتشكرا ضيفهما:
– يا حاج آقا، لقد أدخلتم السرور على قلوبنا كثيراً، وأتعبتم أنفسكم كثيرًا.
– لا. هذا واجبي. في النهاية، فأيّام عيد الميلاد هذه هي فرصة مناسبة ليلتقي المرء بإخوته المسيحيّين في المدينة وفي الوطن في أجواء حلوة.
عندما يصل الكلام إلى ذكر عيد الميلاد، تقول والدة الشهيد كلاماً يحرق قلبي:
130
108
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– من شعائر عيد الميلاد عندنا شراء شجرة سروٍ وتزيينها في المنزل، ولكن بعد وفاة ولديّ لم أضع شجرة الميلاد منذ عشرة أو أحد عشر عاماً.
أتطلّعُ حولي في الغرفة. صحيح، لا يوجد شجرة ميلاد. أُفكّر في نفسي، لقد قامت هذه الوالدة بما قامت به والدة الشهيد الّتي ما عادت تمدّ بعد شهادة ابنها سفرة الـ “هفت سين” في عيد النيروز، ولا تشتري السمك الأحمر1.
يتوقّف السيّد عن الكلام قليلاً ثمّ يقول مع ابتسامة ملؤها الرّحمة: دعي الأمور تمضي. وأريحي نفسك فهم الآن مشمولون بالرحمة الإلهيّة، خاصّة الابن الذي توفّي في الجبهة لأجل الدفاع عن وطنه وعن مقدّساته. ليس أمراً عاديّاً، نحن نُعبّر عن ذلك بالشهادة، وبالطبع فهذا التعبير موجود أيضاً في الأديان الأخرى.
بعد هذه الكلمات، يُسلّي القائد القلب الموجع لهذه الأم والأخت بهذا الكلام الدافئ:
1- من مراسم الاحتفال في عيد النوروز، عيد رأس السنة الهجريّة الشمسيّة (والذي يصادف يوم 21 آذار من كل عام)، أن تمدّ كلّ أسرة “سفره هفت سين” أي مائدة السينات السبع، وهي عبارة عن سبعة أصناف من الطعام تبدأ جميعها بحرف السين، ويكون إلى جانبها سمكة حمراء اللون في حوض ماء صغير للبركة. (المترجم).
131
109
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
“إنّني أُعبّر عن شعوري بالارتباط والعلاقة العاطفيّة والقلبية معكم”. فيُداخلهما السرور بصورة فائقة.
ثمّ يبدأ بالسؤال عن أحوال السيّد ورطانيان.
– حسناً. أنتم الآن في المجلس. صحيح؟
– في خدمتكم. جنابكم قد قُلتم إنّكم تتعرّفون عن قرب إلى عوائل الشهداء الأرمن.
– نعم. منذ سنوات. لعلّه منذ خمس عشرة أو ستّ عشرة سنة. وفي أغلب السنوات في أيّام عيد الميلاد هذه. أحياناً أذهب إلى بيت أرمني وأحياناً إلى بيت آشوري، هذه العلاقات صارت جزءًا من برنامج مكتبنا. نزور في بعض السنوات المسيحيّين الأرمن ونزور في بعض السنوات المسيحيّين الآشوريّين. هؤلاء الأصدقاء المسيحيّون الّذين التقيتُ بهم عن قرب ودخلت منازلهم، لم يتعدّوا هاتين الطائفتَيْن.
بعد هذا الكلام، يسأل عن أحوال أسقف الأرمن في إيران: كيف حال السيّد آرداك مانوكيان؟
تكرار اسم أسقف الأرمن في كلا اللقاءَيْن، علامة على الاحترام الذي يقرّه الإسلام لكبار شخصيات الأديان الأخرى، ونماذجه كثيرةٌ عبر التاريخ.
يُخبر وارطانيان القائد عن إخلاص وتفاني مانوكيان، وأنّه في المراسم المختلفة التي يُقيمونها يدعو للقائد دومًا. ثم يستجيز وارطانيان القائد أن ينشر خبر تشريفه لهذا البيت الأرمني في الجريدة الّتي ينشرونها باللّغة الأرمنيّة:
إذا أحببتم ذلك، فنحن هنا ضيوفكم ومجلسنا هو مجلسكم.
تقول أخت الشهيد بشكل متردّد، بعد ذكر موضوع الضيافة: “إلى الآن لم نُضيّفكم، هل تشربون الشاي؟”
يوافق السيّد، فتنسحب هي وتدخل إلى المطبخ.
وبذهاب أخت الشهيد، ينظر القائد بدقّة لثوانٍ عدّة، إلى الجدار المقابل. فعلى الجدار صورة كبيرة معلّقة في آخر غرفة الاستقبال. تجذب انتباهه فيسأل: صورة من هذه؟
– صورة الشهيد.
– عجيب! ما أجمل هذه الصورة. صورة أم رسمة؟
– رسمة.
132
110
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– ما أجمل هذا الرسم.
ينظر جيّداً إلى اللّوحة. وهي فعلاً رسم جميل جدًّا. لقد رسموا الشهيد وكأنّه يُحدّق في المكان الذي يجلس فيه القائد تمامًا. ويتأمّل الجميع رسمة الشهيد، حتّى والدته.
يقول وارطانيان إنّ رسّام هذه اللوحة هو من فنّاني نادي آرارات، ثم يوضّح أمورًا عدّة حول النادي. وأثناء الحديث، تُحضر أخت الشهيد الشاي في فناجين جميلة. وتقوم أمّ الشهيد لتضع الشاي على الطاولة أمام القائد بنفسها. يشكرها وينظر إلى فنجان الشاي:
– فناجينكم جميلة، لافتة للنظر. يُحبّ المرء أن يشرب الشاي فيها.
133
111
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
أنظر إلى أخت الشهيد، لقد أزهرت وجنتاها وغمرتها فرحة عارمة من كلام القائد. لا بدّ أنّها هي الّتي اشترت تلك الفناجين حتّى فرحت إلى هذه الدرجة. وتقول أمّ الشهيد: سأُحضرُ الحلوى.
يقول لها القائد: لا تُتعبي نفسك. أشرب الشاي مع السكر.
لكنّ أمّ الشهيد تذهب وتُحضر الحلوى، فيشرب القائد الشاي مع الحلوى.
كان القائد يشرب الشاي عندما تجدّد شعور السعادة العارمة في قلب أمّ الشهيد فقالت مرّة ثانية: أنا سعيدة جدًّا بتشريفكم. أشعر بسعادة لا توصف.
– إن شاء الله تكونين دوماً في سعادة.
يبدأ السيّد وارطانيان بالحديث عن جريدة آليك، ويُقدّم للقائد آخر عدد صادر منها.
ثمّ يوضح له أنّ آليك هي الجريدة الوحيدة الّتي تصدر باللّغة الأرمنيّة في إيران وهي ثاني أقدم جريدة في إيران بعد جريدة اطّلاعات. يقول وارطانيان إنّ عمر الجريدة قد ناهز السبعين عاماً، وهي تُصدَّر من إيران إلى أربعين دولة في العالم. آليك تعني “الموج”
134
112
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
في اللّغة الفارسيّة. ثمّ يُعطي نسخة من الجريدة للسيّد. يحملها السيّد ويتصفّحها بشكل تفصيلي ودقيق، ثمّ يسأل: ألا يوجد فيها قسم فارسي؟
– نحن نفتخر أنّ كثيرًا من كتبنا باللغة الفارسية. حتى معظم أخبار الجريدة هي من مصادر فارسية. لكن لأنّ معظم مطالبها لا تتعلّق بغير الأرمن لا يوجد قسم فارسي فيها1
يضحك القائد ويقول ممازحاً: قلتُ هذا كي لا ينسى الأرمن اللّغة الفارسيّة!
يضحك الجميع، ويغمر النشاط والبهجة فضاء المنزل.
ويبدأ السيّد وارطانيان بشرح عن اللّغة الأرمنيّة، فيردف السيّد القائد قائلاً:
– الحروف الأرمنيّة في الأصل هي حروف آرامية، وهي تتشابه كثيراً مع الحروف الآراميّة والسريانيّة. اللغة الآرامية هي نفسها اللّغة التي كانت رائجة بمنطقة آشور وكلده، أي في الجنوب والشمال.
وتظهر علامات التعجّب على وارطانيان من سعة اطلاع القائد. فأن يكون لديه معلومات عن الحروف الآراميّة والسريانية ليس أمراً عادياً، ولا شكّ أنّ قسماً من خبراء الأدب وأساتذة الشعر ليس لديهم هذا الكم من المعلومات حول اللّغة، فكيف بغيرهم.
يقول وارطانيان: من المعلوم أنّ السيّد المسيح كان يتحدّث باللّغة الآراميّة.
ولدى سماع القائد لهذه الجملة، يمسح على محاسنه ويُفكّر.
– صحيح، بلى. لو فرضنا أنّه لم يكن يتحدّث اللّغة الآراميّة، فأيّ لغة كان سيتكلّم. اللّغة في ذلك الوقت كانت آرامية، فلا بدّ أن يكون الأمر كذلك. في تلك المنطقة، منطقة بيت المقدس وأورشليم، من الطبيعي أن يتحدّثوا بتلك اللّغة.
ما إن يصل الكلام إلى هذه النقطة يُشير السيّد وارطانيان إلى صورة معلّقة على الحائط على يسار القائد. والصورة هي عبارة عن رسم لكنيسة كبيرة.
– اثنان من الحواريّين أتوا إلى إيران، ومزار أحدهم في كنيسة “دير تداوس” هذه.
1- في الوقت الحالي تحوي جريدة آليك أربع صفحات باللّغة الفارسيّة.
135
113
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– حقّاً! كنيسة “قره كليسا”1 المعروفة؟!
يقف وارطانيان وابتسامته تحكي عن غاية سروره، ينتزع الصورة عن الحائط ويضعها بين يدي القائد:
– هذه الكنيسة هي بمنزلة الفاتيكان بالنسبة للأرمن في كلّ أنحاء العالم. في الحقيقة، فإن الفاتيكان أيضاً هو مزار لحواريّ آخر من الحواريّين.
يسأل القائد عن اسم الحواريّ المدفون في كنيسة “قره كنيسه”.
1- “قره کليسا” كما هي معروفة باللغة الفارسيّة، اسم قرية في منطقة تشالدران الريفيّة بالقرب من مدينة ماكو في محافظة آذربيجان الغربية في إيران. ويبدو أنّ اسم القرية ناشئ من قربها من كنيسة “قره كليسا” أو دير القدّيس تداوس، وهو دير أرمني قديم يقع في المنطقة هناك. والقدّيس تداوس هو أحد حواريي السيّد المسيح. قام بالتبشير في أرمينيا ولوحق حتى استشهد في إيران عام 65 ميلاديًّا بحسب بعض المؤرّخين. ويُقال إنّ الدير المكرّس له بُني عام 68 ميلاديًّا. ولم يبق من البناء الأصلي للدير إلا القليل اليوم، فقد تعرّض عبر الأزمنة لعمليات تخريب وتدمير من قِبَل الأعداء السياسيّين تارة وجرّاء العوامل الطبيعية تارة أخرى. تمّ تجديد الدير وترميمه أول مرّة في زمن حكومة هولاكو بهمّة الخواجة نصير الدين الطوسي، ثم خضع لعملية ترميم شاملة وإضافات جديدة عام 1319 ميلاديًا، ساهم فيها الأمير القاجاري عباس ميرزا. و”كليسا”بالفارسية تعني الكنيسة، و”قره” أو “كارا” -كما هي معروفة عند البعض “كارا كليسا”- فارسية أصلها آذري وتعني بأحد معانيها الكبير أو النفيس وكذلك تعني السواد. ويُقال إنّ الكنيسة باتت معروفة بهذا الاسم، إمّا لأنّها كبيرة جدًّا بحيث يُمكن رؤيتها من مسافة بعيدة، لضخامة المبنى الذي يتميّز بقبّتين مضلّعتين تتوّجان بسقف مخروطي الشكل، وإمّا لأنّها عند الترميم أُعيد بناؤها بالحجارة البركانية السوداء. وهي مهجورة من الرهبان اليوم، وإن كانت تُعتبر مزاراً دينياً وسياحياً مهمّاً يزوره الآلاف سنوياً وخصوصاً الأرمن الإيرانيّين. (المترجم).
136
114
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– تداوس. من الحواريّين الأحد عشر للسيّد المسيح، اثنان منهم استشهدا في إيران. نراهما أيضاً في الرسم المعروف بالعشاء الأخير لدافنشي.
– هل يوجد ذكر في الإنجيل عن هذَيْن الحواريَّيْن؟
– بلى، بلى، لدينا ذكر لهما في الإنجيل.
– ما الاسم الأرمني لهذه الكنيسة؟
– القدّيس تداوس.
يُكرّر القائد الاسم الأرمني مرّات عدّة:
– تداوس، القدّيس تداوس؛ سمعتُ أنه يُزار كلّ عام.
– صحيح. وإن شاء الله إذا افتتح مطار مدينة مرند، يزداد عدد الزوّار.
يحمل القائد الجريدة مرّة ثانية:
– هذه جريدة مميّزة وإن كُنّا لا نفهم لغتها.
يطوي القائد الصحيفة، فتأخذها والدة الشهيد منه. يسأل القائد وارطانيان إذا كان للأرمن شاعرٌ معروف أم لا، فيتحدّث عن شاعر اسمه “رافي” مولود في سلماس يُعدّ أفضل كاتب أرمني خلال المئة عام الأخيرة. وأثناء الجواب عن هذا السؤال يعود الكلام إلى الكنيسة، فيحكي وارطانيان عن احترام الشيعة للمسيحيّين ويقول:
137
115
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
– هذه الكنيسة أكبر شاهد على احترام الشيعة للمسيحيّين. فالّذي حرس دير تداوس وحافظ عليه هو مسلمو إيران. نحن نذهب إلى هناك مرّة واحدة في السنة لا أكثر من أجل الزيارة. ولكنّ الإيرانيّين على طوال القرون المتمادية قد حفظوا هذه الكنيسة، ومن المُهمّ واللّافت أن تعرفوا أنّه بامتداد شعاع عدّة مئات من الكيلومترات حول هذه الكنيسة، لا يعيش حتى أرمني واحد.
أنظرُ مرّة أخرى بسعادة إلى رسم الدير، ويُعجبني مدى معرفة وارطانيان بنحو تعامل المسلمين مع الكنيسة، كنيستهم الأرمنيّة.
يوجد في إيران بإزاء كلّ خمسمائة أرمني كنيسة واحدة، وفي هذه النسبة دلالة على احترامنا لهم. والسيّد القائد يُبيّن منشأ احترام المسلمين للمسيحيّين ببيان جميل، يقول بكلام هو في عين اختصاره مفعم بالمعاني والعمق حول علاقة الإسلام بالمسيحيّة:
– وفق عقيدة المسلمين، فالسيّد المسيح والسيّدة مريم والحواريّون والمؤمنون الّذين قد جاهدوا في ذلك الزمان، هم في مقام عالٍ جدًّا جدًّا. انظروا بأيّ كلام يتحدّث القرآن الكريم عن السيّد المسيح والسيّدة مريم1. وأولئك الّذين آمنوا بدين الحقّ الوحيد في ذلك الزمان، وضحّوا في سبيله واستشهدوا، هم جميعاً جزء من الشهداء العظام الّذين هم وفق عقيدة المسلمين في أعلى عليّين من درجات الجنّة. أي إنّ الأشخاص من قبيل شهيد هذه العائلة والشهداء العظام المسيحيّين المعروفين، هؤلاء هم قدّيسونا نحن أيضاً، وفق العقيدة الإسلاميّة هم واقعاً قدّيسون. أحياناً يكون هناك دينان يريدان أن يتعايشا ويبنيا علاقة مع بعضهما، فيُقال أن احترموا معتقداتنا فنحترم معتقداتكم. مرّة يكون الأمر هكذا، ومرّة أخرى لا. أحد هذَيْن الدينَيْن يكون جزءًا من الدين الآخر. وفيما يتعلّق بالمسيحيّة هكذا هي المسألة، فالاعتقاد بالسيّد المسيح والاعتقاد بالسيّدة مريم عليهما السلام، والاعتقاد بالمؤمنين بهما، وعلى رأسهم الحواريّون، الّذين ورد ذكرهم في القرآن مرّات عديدة، طبعاً لم يرد ذكرهم بالأسماء، لكن بعنوان الحواريّين أكثر من مرّة. هذه المعتقدات هي جزء من ديننا. ليست إضافة على ديننا، هي جزء من هذا الدين. ولذلك هم مورد تكريم وتجليل
1- جاءت تتمة هذه الإشارة وبالاستفادة من خطابات الإمام القائد في الملحق الثالث للكتاب تحت عنوان “السيّدة مريم المقدّسة في القرآن”.
138
116
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
واحترام المسلمين جميعاً1.
ثمّ يذكر القائد ملاحظة تاريخية حول سبب اختلاف الأناجيل الأربعة وهي معلومة تبدو أنّها جديدة حتى على وارطانيان:
– الآن يعرضون في التلفاز مسلسلاً اسمه أصحاب الكهف، يحكي هذا المسلسل عن عذابات وآلام وشهادات المسيحيّين الّتي مرّت بها المسيحيّة في القرنَيْن الثاني والثالث. وهذه الحادثة “حادثة أصحاب الكهف”، هي الّتي جعلت امبراطور الروم يختار المسيحيّة دينًا بعد أن كان اليهود، ولسنوات متمادية، قد مارسوا أقصى المواجهات والمجابهات مع المسيحيّة. كانت المسيحيّة ديناً مغموراً، ديناً سريّاً لعشرات السنين، ولعلّه يقرب من مئة عام ونيّف، ظلّت المسيحية ديناً مخفيّاً، لم يكن أحد يمتلك الجرأة أن يقيم محفلاً علنيّاً أو أن يظهر المراسم المسيحيّة، أو أن يُمارس الشعائر الدينيّة المسيحيّة بشكل علنيّ، كلّ شيء كان يجري في الخفاء. وهذا قد أدّى بنحو ما إلى اختلاف نسخ الإنجيل. في الواقع، هناك نسخ من الإنجيل، إنجيل يوحنا، إنجيل متى، إنجيل لوقا، هذه نسخ مختلفة والرّوايات في هذه الأناجيل مختلفة، والسبب هو هذا، أنّ المسيحية كانت ديناً سرّياً، لم يكن المسيحيّون قادرين على التواصل مع بعضهم، لم يكن هناك من مجال لتطبيق مرويّات كل منهم مع الآخر، ولذلك كانوا يستفيدون ممّا حفظوه كلٌّ على حدة.
لقد هزّت حادثة أصحاب الكهف هذه إمبراطور الروم من الأعماق، وأدّت إلى أن يصير إمبراطور قسطنطين نفسه مسيحيّاً، لقد رأى كيف أنّ الحجّة تمّت عليه. بالطبع، الأشخاص الذين قاموا بأبحاثٍ تفصيليّة وجزئيّة حول تاريخ المسيحيّة يقولون إنّ إيمانه لم يكن إيماناً عميقاً ومخلصاً، كان من مصلحته أن يتحوّل إلى مسيحيّ، رأى أنّ المسيحية قد راجت ونمت في داخل البلاد إلى الحدّ الذي لو أراد أن يواجهها سيُقضى على الامبراطوريّة. ولذلك قرّر أن يصير هو مسيحيّاً. وفي الحقيقة، من هناك انطلقت المسيحيّة من الشرق إلى الغرب، في حين أنّ ولادة المسيحيّة كانت في الشرق، في منطقتنا هذه نفسها، بيت المقدس نفسه الذي كان مكان ولادة السيّد المسيح والسيّدة
1- جاءت تتمة هذه الإشارة وبالاستفادة من كتابات الإمام القائد في الملحق الثاني للكتاب تحت عنوان “الأديان الإلهية”.
139
117
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
مريم والنبيّ زكريا ويحيى عليهم السلام. ففي النهاية، المنطقة، منطقة الشرق الأوسط لا علاقة لها بأوروبا ومنطقة الغرب، لكن في الواقع عندما تحوّل الروم إلى المسيحيّة، قاموا بنوع من الاحتكار وادّعوا أنّ المسيحيّة ترتبط بهم. اليوم في العالم، كل من هو مسيحي يظن أن مسيحيّته قد أتت من أوروبا، في حين أنّ أوروبا نفسها قد أخذت المسيحية منّا، من الشرقيّين أخذوا المسيحية.
يُتابع القائد بيان العلاقة الجيّدة بين الإسلام والمسيحيّة من خلال العلاقة الحميمة بين المسلمين والأرمن في إيران:
– اليوم نحن موجودون وأنتم موجودون ونعيش حياة ودودة ومتراحمة.
وفي الواقع، لطالما كانت العلاقة بين الشيعة والأرمن في إيران علاقة محبّة وصداقة وحميميّة. الأرمن هم الأقلّية المحبوبة في مجتمعنا، المعروفون بالصدق والأمانة واللطف والنشاط.
هذا اللّقاء كما اللّقاء الذي سبقه، طال أكثر من اللّقاءات المعتادة، ولا نرى ذرّة من المجافاة أو التّعب على وجه القائد، ولو كان الأمر لي لما أحببت أن تبلغ ليلة القدر هذه سَحَرها.
يجلس القائد متوجّهاً إلى أمّ الشهيد وأخته ويدعو لهما:
– أسأل الله أن يُسعد قلبَيْكما. وأن يكون أثر هذه الهموم الكبيرة الّتي عانيتما منها هو إيجاد النورانيّة فيكما، لأنّ هذه الأحزان والضغوط المعنويّة توجِد في الإنسان النورانيّة وتستجلب الرحمة الإلهيّة، ونحن ينبغي أن نكون من الّذين يقبلون رحمة الله.
بعد هذه الكلمات، يُقدّم السيّد القائد هديّتَيْن إلى والدة وأخت الشهيد. ويقول:
– وهذا أيضاً تذكار منّا لكما.
– ممنونين، شكراً جزيلاً.
– من الناحية المادّية، هي ليست من مقامكم، لكنّ المسألة رمزيّة، بعنوان تذكار، هدية معنويّة.
– أتعبتم أنفسكم كثيراً، ممنونين لكم بوسع الدنيا.
– موفقين إن شاء الله.
140
118
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
تقول أخت الشهيد:
– سررنا كثيراً بتشريفكم. أصلاً، ما زلنا غير مصدّقين.
وتقول أمّ الشهيد:
– أنا في غاية السرور للقائي بكم. أنا كلّما ذهبت إلى الكنيسة أدعو لك، بالسلامة والعمر الطويل.
– شكراً جزيلاً. أنا سعيد أنّني استطعت أن أُدخل السرور على قلبيكما. لهذا جئت.
– في الحقيقة، لقد قرّت أعيننا وسعد قلبنا بتشريفكم.
– الشكر لله.
يختتم السيّد وارطانيان الكلام بقوله: عندما سألت والدة الشهيد قبل تشريفكم، عمّا تريد أن تطلبه من حضرة القائد المعظّم، فقالت طلبي الوحيد هو هذا….
ويسكت السيّد وارطانيان ويشير إلى أمّ الشهيد ويقول لها: قولي بنفسك!
تضع والدة الشهيد بكلّ أدب يدها على صدرها، وباليد الثانية تمسح دموعها:
– نحن لا نريد شيئاً، أنا وابنتي ليس لدينا طفلٌ صغير. إذا كان لا بدّ من مساعدة تُقدّمونها نتمنّى عليكم أن تُقدّموها للشهداء الّذين عندهم أولاد. أنا أكون في غاية الرضى لو تُقدّمون
141
119
الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر
مساعدتكم لأولئك الشهداء.
يتملّكني واقعاً شعور بالخضوع لا يوصف أمام والدة الشهيد هذه. أمّهات الشهداء هنَّ من أكثر نعم الله المستورة مجهولية.
– أسأل الله أن يمنّ عليكم بالتوفيق، ويوفّقنا لأن نعرف تكليفنا ونعمل به.
وبقوله: “إن شاء الله موفقون”، يقف القائد ويودّع عائلة الشهيد جاجيك طومانيان.
* * *
حيثما نمرّ، بجوار كلّ مسجد وحسينيّة، تتعالى الأصوات بدعاء الجوشن: “سبحانك يا لا إله إلاّ أنت الغوث الغوث خلّصنا من النار يا رب”. وأنطلق الآن مرّة أخرى من المكتب باتجاه البيت لأُتابع أعمال ليلة القدر، لكنّي الآن في وضع مختلف كلّياً عن الساعات التي سبقت. لقد تبدّل الشعور بتضييع الفرصة في ليلة القدر إلى شعور بالخفّة والحلاوة بعد عمل أتصوّر أنّني لم أقم بأفضل منه في جميع ليالي القدر طوال عمري.
حقيقةً، أيّ عمل يفوق هذا العمل فضيلة وقيمة؟! في وقت جيّش العدوّ فيه كلّ قواه لأجل القضاء على الإسلام الأصيل، تُشكّل كلّ عائلة من عوائل الشهداء جبهة فولاذيّة في وجه جميع هجمات العدوّ. لقد ربّوا شباباً وضعوا أرواحهم على الأكفّ وصمدوا وثبتوا وآثروا بأنفسهم من أجل الدفاع عن إيران العزيزة. هؤلاء الذين لا تقلّ قيمة صبرهم ومقاومتهم عن الشهادة، هؤلاء الذين تعبوا وتحمّلوا الملامة لكنّهم لم ينكسروا ولم ينهزموا. يريد العدوّ أن يهدم هذا السدّ القيّم ليتمكّن فيما بعد من السيطرة على هذه الخنادق واحداً تلو الآخر.
في هذه الأوضاع، وجد قائدنا الحكيم وبالإلهام الإلهي، وبالاستمداد من التعاليم العلويّة وبفراسته، أنّ أفضل أعمال ليلة القدر لسنته هذه هو إدخال السرور على قلوب أولئك الّذين وإن لم يكونوا أتباعاً لديننا، ولكنّ الدم الطاهر لأبنائهم، وصبر أمّهاتهم، قد ساهم في رفعة وعزّة وحرّية هذا الشعب.
لطالما كنت أفكّر في ليالي القدر في نوع العمل والعبادة الّتي يكون لها الأثر الأكبر في رسم مصير أمّتنا وثورتنا في العام المقبل. أعتقد الآن أنّ ابتسامة الرضى على وجه والدة الشهيد طومانيان ودعاءها هو أحد أكثر أعمال ليلة القدر تأثيراً.