الرئيسية / تقاريـــر / إرهاب “القوات”.. الميليشيا لا تستحيل “سفيرة سلام”

إرهاب “القوات”.. الميليشيا لا تستحيل “سفيرة سلام”

لطيفة الحسيني

لا شيء يُنسى في لبنان. الأسى والألم يحفُران عميقًا في الذاكرة والأجساد المُعذّبة، فكيف بالتجارب القاسية التي لم تطُب جراحُها الى اليوم؟ مجزرة الطيونة التي نفّذتها “القوات اللبنانية” في تشرين الأول الماضي وسقط على إثرها 7 شهداء لا تزال هنا. ليس هناك من يغفل عن المُصاب. ولأنّ الأزياء الرسمية لا تُحوِّل السفّاحين الى سفراء سلام، ستُلازم الوحشية ميليشيا سمير جعجع، الى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

قصّة “مجموعة الباخرة” تأخذنا الى عالمٍ كان مليئًا بالظلم والقهر والجوْر. في عزّ حروب لبنان الداخلية في أواخر الثمانينيات، حين كان القتل هو اللغة السائدة دون سواه. لا عدل. لا تسامح. لا رأفة. الميليشيات تفتكُ بالجميع. العودة الى تلك الأيّام مهمّة شاقّة، غير أن “القوات” نفسها تأبى أن تُفارقها. الطيونة اليوم نموذج حيّ، وما سبق يحكي اضطهادها ومذابحها بحقّ الأبرياء والمستضعفين من وادي الرهبان وسجن أدونيس حتى زنازين “اسرائيل”.

قبل أن يأفل عام 1987، في شهر تشرين الثاني تحديدًا، غزت مجموعة من العناصر المسلّحة في “القوات” باخرةً في مرفأ بيروت كان على متنها عددٌ من اللبنانيين الساعين نحو لقمة عيشهم، بينهم طلاب وعمّال. أحمد جلول وحسين رميتي وأحمد طالب وعدنان الديراني ولاحقًا حسين أحمد وحسين طليس، اقتيدوا الى مراكز توقيف مُرعبة واعتُقلوا وأُشبعوا تعذيبًا، وكادوا يُستشهدون، الى أن سُلّموا الى العدو الاسرائيلي، ومعه عانوا الأمرّين حتى استعادوا حريتهم في عام 2000.

المرارة الحاضرة

الوقائع هذه بتفاصيلها لا تُطمس بحسب حسين أحمد. بأساسيّاتها وهوامشها ومرارتها حاضرة في ذاكرته. أكثر من 34 عامًا محفورة بالدم. يقول أحمد لـ”العهد”: “عام 1987 كنتُ أعمل في مجال صناعة الأحذية، وكنتُ أتوجّه الى برج حمود حيث هناك سوق تجاري للأحذية، حينها وبسبب أوضاع الطرقات المحكومة بالمعابر العسكرية اضطررتُ لسلوك طريق عرمون (طريق الكرامة كما كان يُعرف قديمًا) فحمّانا ثمّ عبرتُ حاجزًا للجيش اللبناني (في منطقة اللواء الخامس) حتى وصلتُ لحاجز تابع لـ”القوات”، حيث أوقفتُ والسبب الوحيد الهوية والانتماء الطائفي”.

ويتابع “نُقلتُ بعد ذلك مع عددٍ من المعتقلين للسبب نفسه الى مركز الكرنتينا التابع للميليشيا، أو ما كان يُعرف بالمجلس الحربي الخاصّ بها. هناك عشتُ التعذيب الرئيسي الذي استمرّ لأكثر من شهريْن على يد القواتي غسان توما الذي كان يتولّى مسؤولية الأمن الداخلي في المناطق الشرقية، بينما كان بيار رزق يُشرف على الأمن الخارجي. وعلى إثر هذه المرحلة تقرّر نقلنا كمجموعة الى سجن أدونيس في ذوق مصبح. المنطقة كانت عسكرية بالكامل ومليئة بالثكنات التابعة للقوات”.

أساليب التعذيب وفق أحمد تشهد “على كميّة الإجرام الذي قوبلنا به لأننا مسلمون، ففي الكرنتينا لا شيء ثابتًا”. كلّ معتقل يتفنّن السجانون بالتنكيل به تارةً بالكهرباء وتارة ضربًا بالكرباج، ومرة أخرى ربطًا بالأسلاك المعدنية حتى تسيل الدماء ويعلو الصراخ الحادّ مع تعذيب نفسي يدوم ويدوم. المعتقلون يُعلّقون في الهواء، يُتركون ينزفون دون نوم، لينهاروا كليًا أو يموتوا، وكذلك تتعرّض المعتقلات من النساء: لا خطوط حمراء تمنع المتوحّشين من تنفيذ كلّ تنكيل قبيح ومُميت ومُهين بحقّهن”.

لم يتغيّر الحال بالنسبة لأحمد ورفاقه بعد الانتقال الى سجن أدونيس في جونيه. الأسوأ كان بانتظارهم. يتذكّر أحمد هنا كيف اكتشف مرة أنه كان ينام على “فراش مليء بالدود والعفن”. لم يكن يعرف ذلك، فالزنزانة بلا إضاءة تمامًا. البرد القارس يخيّم عليها والطعام كان من النوادر التي تحصل فيها.

في أدونيس هناك نوع من التعذيب يُسمّى الصلب. يشرحه أحمد فيوضح أن “المعتقل يُرفع وتُربط يداه وتُشدّ الى فوق ويقف على حجر وعلى رؤوس أصابع رجليه لأكثر من يوم، ولكم أن تتخيّلوا حجم الوجع القاتل”. وهنا يتذكّر جيدًا كيف لم يتحمّل معتقل مصري هذا النوع من الصلب، فمات.

على الرغم من كلّ ذلك، لم تملّ “القوات”  من المجموعة المعتقلة لديها. لم تتوقّف عن بَغيِها بل أكمَلته. استمرّ التعذيب بالوتيرة نفسها حتى سنة 1990. بعد انتهاء الحرب في لبنان وتوقيع اتفاق الطائف، قرّرت الميليشيا اللبنانية تسليم هؤلاء الى الحلفاء: “اسرائيل”. نقلتهم من باخرة الى أخرى حتى أصبحوا في أيدي الجنود الصهاينة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عبر مرفأ جونيه.

غياب الانسانية

بغضبٍ وقهرٍ باديَيْن، يستعيد أحمد طالب (رئيس جمعية الأسرى والمحرّرين اليوم في لبنان) ما مرّ به عام  1987. اللحظة التي قلَبت حياته من جامعيّ يسعى للعمل من أجل تأمين مصروفه ومعيشته الى أسير لدى “القوات” ثمّ لدى الاسرائيليين.

من على متن الباخرة التي كان يعمل عليها في المرفأ، والتي نتيجة عطل تقني رسَت في مرفأ جونيه، أوقف طالب على أيدي العناصر المسلّحة من “القوات”. يقول “تعرّضنا لهجوم من قبل الميليشيا. هؤلاء صادروا هويّاتنا بعد ما تبيّن أن دافع الاحتجاز انتماؤنا الطائفي، فكلّنا مسلمون وهذا ما عبّروا عنه بوقاحة أمامنا. شُتمنا وأُهنّا وضُربنا. عشنا عملية اقتحام إرهابية شبيهة بعمليات قوات “كومندوس”. حاصروا الباخرة من كلّ الاتجاهات ونفّذوا مخطّطهم”.

فُرض على طالب ورفاقه اذًا التوقيف التعسّفي. بالمنطق الميليشياوي استُبدلت أسماؤهم بأرقام ورموز. وُضعوا في غرفٍ ضيّقة جدًا ومُظلمة بطول متريْن ونصف لا أكثر وعرض متر ونصف، يُمنع فيها رفع أيّ صوت.

عن ظروف الاعتقال يحكي طالب لـ”العهد”، فيقول “كنا نتحدّث بصوتٍ خافت جدًا حتى لا نتعرّض للضرب المبرّح الذي قد يودي بحياتنا فعلًا لا قولًا. كلّ شيء كان صعبًا من الأكل الى التنفّس الى النظافة. الاستغراب كان كيف ظلّ بعض المعتقلين أحياءً في هذه الأجواء. في الزنزانة لا يُعرف الوقت ولا الساعة، لا الليل ولا النهار، حتى لا وجود لطاقاتٍ خارجية أو نوافذ. أضف الى ذلك، الجدران التي تسبّب الجروح بسبب أطرافها الاسمنتية النافرة. استمرّ الوضع على هذه الحال 5 أشهر في المجلس العسكري من شهر كانون الأول 1987 الى شهر أيار 1988”.

وفق طالب، من الممنوعات المفروضة على المعتقلين استحالة رؤية وجوه السجانين. لكن هذا الأمر كُسر أيضًا، فاستطاع هؤلاء مُشاهدة ملامحهم التي تشبه اليوم الى حدّ كبير صور إرهابيي “داعش”: لحًى طويلة ومُخيفة وهيئات إجرامية.

المعاناة لم تتنهِ بعد. عام 1988 نُقلت المجموعة الى سجن أدونيس، حيث وادي الرهبان الذي شهد عمليات إعدام عديدة. وهناك بقيت حتى عام 1990، بعدما عدل “القواتيون” عن فكرة تصفيتها. وفي هذا السياق، يسترجع طالب حجم العذاب النفسي الذي كان المعتقلون يشعرون به، فيقول “كنا نسمعهم عندما يتشاورون في قرار إعدامنا.. نُدرك أننا في اللحظة المقبلة سنموت ثمّ يغيرون رأيهم.. التصبّر بالله كان سلاحنا، وحتى هنا لم نُرحَم من سماع الكلام النابي الذي لم يغب. جميع السجّانين كانوا غير متّزنين وبينهم سُكارى”. ويتابع “في سجن أدونيس أُعيد التحقيق معنا. ظروفٌ مُسيئة انسانيًا من قضاء الحاجات الى الأكل والشرب والنظافة الغائبة تمامًا، والزنزانة التي تسَع 5 أسرى، كانوا يتعمّدون ضمّ 5 آخرين حتى يصبحوا 10 أشخاص في زنزانة واحدة ضيّقة المساحة”.

هل تغيّرت الظروف يومًا؟ يُجيب طالب “مع وصول الصليب الأحمر الدولي الى السجن بموازاة انتهاء الحرب في لبنان والتوصّل الى اتفاق الطائف تبدّل المشهد.. في شهر أيار 1990، تسلمنا أغراضًا من الأهل، والصليب الأحمر عمل على إيصالنا بهم عبر رسائل مكتوبة سُمح لنا بها. كان هذا اعترافا رسميا بوجودنا. على الرغم من ذلك لم ننل حريّتنا. على إثر هذا التطوّر، قرر مسؤول داخل السجن يُعرف بـ”الأشقر” نقلنا مُجدّدًا الى الباخرة بعد إجبارنا على تناول حبوب تبيّن لاحقًا أنها مخصّصة لدوار البحر، ووجدنا أنفسنا مُكبّلين وأعيننا مُغطاة على بارجة وصوت الأمواج في آذاننا. وخلال ساعات اكتشفنا أننا داخل فلسطين وحولنا جنود يلبسون زيًا عسكريًا عليه عبارات باللغة العبرية”.

تسليم الأسرى الى الصهاينة شكّل صدمة بالنسبة لهم. معاناة جديدة أضيفت الى كلّ ما عاشوه سابقًا. المِحنة هي هي. تحقيق عسكري مكثّف واحتجاز لـ10 سنوات جديدة في سجن “أيالوت” الاسرائيلي الى أن نالوا حريّتهم عام 2000 في صفقة تبادل أسرى بين المقاومة والعدو.

من وجهة نظر طالب، لا فرق بين أسلوبي التعذيب القواتي والاسرائيلي. غير أن الصهاينة بعد التجربة يعتمدون أكثر على فنون التعذيب النفسي (أصوات صاخبة جدًا، التعريض للمياه الساخنة أو الباردة جدًا)”.

وحشية مفرطة

الموظّف السابق في الأمن العام اللبناني حسين طليس انضمّ الى مجموعة المعتقلين لدى “القوات” بعد نحو سنة على احتجاز السابقين. من منطقة جونيه، اختطف على أيدي عناصر “القوات” بينما كان ينوي السفر الى ألمانيا عن طريق المرفأ هناك.

طليس يروي ما حصل معه: “كانت القوات تفرض “كونتوار” لعناصرها قرب مركز الأمن العام هناك، فيسجّلون كلّ الأسماء التي تمرّ عبره. بمجرّد تسجيل اسمي، وُضع رمز أسود عليه. وفي وقت قصير وأنا على متن الباخرة أوقفت. نُقلتُ بعدها الى مركز توقيف في جونيه ثمّ الى سجن أدونيس. لا تفسير لسبب الاحتجاز. سريعًا أُخذتُ الى التحقيق المكثّف والمستمرّ طيلة الوقت وبعدها الى مرحلة التعذيب”.

يُبيّن طليس لـ”العهد” أن “التعذيب تنوّعَ بين ضرب وصعق بالكهرباء ووحشية مفرطة، إضافة الى التعرّض للهواء البارد جدًا في فصل الشتاء وسكب الثلج على الرأس. وقد علمنا في تلك المرحلة أن القواتي غسان توما كان يُشرف على هذه العمليات”.

لشهرٍ ونصف ظلّ التعذيب “قدر” طليس على أيدي القواتيين. ثمّ، استمرّ أسيرًا لسنة ونصف الى أن سلّم وباقي المعتقلين للعدو. عن هذه الجزئية، يعبّر قائلًا “”القوات” لا تعترف بالدولة اللبنانية ولو كانت كذلك ولديها نيّة سليمة كانت سلّمتنا لها، إلّا أنها سلّمتنا للعدو الاسرائيلي و”دولة” الصهاينة التي تمثلّها”.

بقدر ما توصف تجربة أحمد وطالب وطليس ورفاقهم بالمؤلمة، بقدر ما تُثبت أن إبادة “القوات” للعشرات بل المئات لا تُكتم. الناجون من بطشها يعرّون كلّ ادّعاء “يُسوّق ” له زعيمها. ميليشيا لا تُتقن سوى القتل والإلغاء. والحقّ يقتضي أن تفرض العدالة حكمها ويُساق كلّ قاتل مسؤول الى الإعدام.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...