الرئيسية / القرآن الكريم / هدى القرآن – تفسير قصار السور بأسلوب تعليمي 01

هدى القرآن – تفسير قصار السور بأسلوب تعليمي 01

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى, محمّد وآله الطاهرين عليهم السلام، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

الاستفادة من القرآن
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ .

البيّنات هي خصوص الشواهد والدلائل النيّرة التي ضمّنها الله تعالى في القرآن الكريم, ليستفيد منها طائفة خاصّة من الناس, وهم خاصّة أهل العلم والعمل, المستعدّين في أنفسهم لنيل الهداية الإلهيّة الخاصّة: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ ، بعد أنْ كان القرآن هدى لطائفة أخرى, هي طائفة أدنى من طائفة أهل العلم والعمل, ليس بمقدورها إدراك الحقائق النوارنيّة, بالحجّة والبرهان، بل بالتقليد والاتّباع: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ ، .

وقد حدّد الإمام الخميني قدس سره طريق الاستفادة من القرآن الكريم، حيث قال: لا بدّ لك أن تلفت النظر إلى مطلب مهمّ يُكشَفُ لكَ بالتوجّه إليه طريقُ الاستفادة من الكتاب الشريف، وتنفتح على قلبك أبواب المعارف والحكم, وهو: أن يكون نظرك إلى الكتاب الشريف الإلهيّ نظر التعليم، وتراه كتاب التعليم والإفادة، وترى نفسك موظّفة على التعلّم والاستفادة، وليس مقصودنا من التعليم والتعلّم والإفادة والاستفادة: أن تتعلّم منه الجهات الأدبيّة والنحو والصرف، أو تأخذ منه الفصاحة والبلاغة والنكات البيانيّة والبديعيّة، أو تنظر في قصصه وحكاياته بالنظر التاريخي والاطّلاع على الأمم السالفة، فإنّه ليس شي‏ء من هذه داخلاً في مقاصد القرآن, وهو بعيد عن المنظور الأصلي للكتاب الإلهي بمراحل. وليس مقصودنا من هذا البيان الانتقاد للتفاسير, فإنّ كلّ واحد من المفسِّرين تحمّل المشاق الكثيرة والأتعاب التي لا نهاية لها حتى صنَّف كتاباً شريفاً، فللّه درّهم، وعلى الله أجرهم، بل مقصودنا هو: أنّه لا بدّ وأن يُفتَح للناس طريق الاستفادة من هذا الكتاب الشريف, الذي هو الكتاب الوحيد في السلوك إلى الله، والكتاب الأحدي في تهذيب النفوس والآداب والسنن الإلهيّة، وأعظم وسيلة للربط بين الخالق والمخلوق، والعروة الوثقى، والحبل المتين للتمسّك بعزّ الربوبية. فعلى العلماء والمفسِّرين أن يكتبوا التفاسير، وليكن مقصودهم: بيان التعاليم والمقرّرات العرفانيّة والأخلاقيّة، وبيان كيفيّة ربط المخلوق بالخالق، وبيان الهجرة من دار الغرور إلى دار السرور والخلود, على نحو ما أُودِعَت في هذا الكتاب الشريف، فصاحب هذا الكتاب ليس هو السكّاكي, فيكون مقصده جهات البلاغة والفصاحة، وليس هو سيبويه والخليل, حتى يكون منظوره جهات النحو والصرف، وليس المسعودي وابن خلّكان, حتى يبحث حول تاريخ العالم… هذا الكتاب ليس كعصى موسى عليه السلام ويده البيضاء، أو نفس عيسى عليه السلام الذي يُحيي الموتى, فيكون للإعجاز فقط، وللدّلالة على صدق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بل هذه الصحيفة الإلهيّة كتاب إحياء القلوب بالحياة الأبديّة العلميّة والمعارف الإلهية. هذا كتاب الله يدعو إلى الشؤون الإلهيّة، فالمفسِّر، لا بدّ وأن يعلم الشؤون الإلهيّة، ويُرجِع الناس إلى تفسيره, لتعلُّم الشؤون الإلهيّة, حتى تتحصّل الاستفادة منه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾ . فأيّ خسران أعظم من أن نقرأ الكتاب

الإلهي منذ ثلاثين أو أربعين سنة، ونراجع التفاسير، ونحرم مقاصده: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ” .

ومن هذا المنطلق، سعى مركز نون للتأليف إلى استنفار الجهود والطاقات لإصدار سلسلة دراسات تُعنى بدراسة القرآن الكريم وعلومه، واستكشاف معارفه ومقاصده، وإيصالها إلى أذهان طلّاب العلوم الدينيّة والمثقّفين بأسلوب تعليمي هادف, فكان هذا الكتاب “دروس في تفسير القرآن” أحد الجهود المبذولة على هذا الطريق، بعد صدور الكتاب السابق “دروس في علوم القرآن”.

الأهداف والغايات
يتوخّى هذا الكتاب تحقيق الأهداف الآتية:
– تعزيز الارتباط الروحي والوجداني والفكري بالقرآن الكريم.

– تفسير بعض سور القرآن الكريم وبيان مقاصدها.

– الاطّلاع على خصائص هذه السور وما تحويه من محاور ومواضيع مطروحة وتسييلها في السلوك الفردي والاجتماعي.

– تسهيل عملية تناول تفسير القرآن الكريم, بأسلوب تعليمي هادف.

ولتحقيق هذه الأهداف والغايات، جرى اعتماد تقسيم كلّ درس إلى تسعة أقسام، هي:
• أولاً: آيات السورة: وفيه إيراد لنصّ الآيات التي تتضمّنها السورة.

• ثانياً: تعريف بالسورة ومحاورها: وفيه بيان لأسماء السورة وعدد آياتها ومحاورها المطروحة.

• ثالثاً: فضيلة السورة: وفيه بيان لما ورد في الروايات في فضل السورة وثواب قراءتها وتعلّمها وتعليمها.

• رابعاً: خصائص النزول: وفيه بيان لما احتفّ بنزول السورة من قرائن تتعلّق ببيئة نزولها, من سبب نزولها، أو شأن نزولها، أو مكان نزولها، أو زمان نزولها، أو ثقافة عصر نزولها.

• خامساً: شرح المفردات: وفيه بيان لمعاني بعض المفردات الواردة في السورة, بالرجوع إلى المعاجم اللغويّة والقرآنيّة.

• سادساً: تفسير الآيات: وفيه بيان للمعنى والمفهوم التفسيريّ الاصطلاحي للآية والمقطع القرآني، مع إيراد التفسير المصداقي والتأويل والتدبّر وأسباب نزول الآيات وشأنه في الحاشية, بهدف تمييزها عن المعنى التفسيري الاصطلاحي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ معظم التدبّرات الموجودة في هامش الكتاب مأخوذة من البحث التفسيري في الكتب الآتية: (تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي/ تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي/ تفسير النور للشيخ محسن قراءتي/ دروس من القرآن للشهيد مطهّري/ دروس في تفسير القرآن الكريم للسيد الفهري).

• سابعاً: بحث تفسيريّ: ويعالج فيه موضوعاً من المواضيع المطروحة في السورة, بمنهج تفسيري موضوعي، مع مراعاة الاختصار وعدم التفصيل فيه, تناسباً مع حجم الدرس.

• ثامناً: الأفكار الرئيسة: ويتضمّن خلاصة الأفكار المطروحة في الدرس.

• تاسعاً: فكّر وأَجِبْ: ويحوي نمطين من الأسئلة الاختبارية (أَجِبْ بصحّ أو خطأ / أَجِبْ باختصار).

السياسات العامّة
حرص الكتاب – قدر الإمكان – على مراعاة مجموعة من السياسات العلميّة والمنهجيّة والفنّيّة، هي:
• الاستفادة قدر الإمكان من فكر علماء الإماميّة، من المتقدّمين والمتأخّرين وتسييله داخل الدروس.

• الحرص على دراسة أبرز الآراء التفسيريّة وأشهرها في تفسير القرآن الكريم.

• إسناد الأقوال والروايات المنقولة في الكتاب إلى مصادرها الأساس على الأعمّ الأغلب.

• تقسيم الكتاب إلى اثنين وعشرين درساً.

• مراعاة التقارب – قدر الإمكان – في عدد صفحات كلّ درس.

مصطلحات مفتاحيّة
يوجد مجموعة من المصطلحات الواردة في الكتاب، هي بمثابة مصطلحات مفتاحيّة للبحث التفسيري، وهي:
1- خصائص النزول: هي مجموعة العوامل ذات الصلة بنزول الوحي القرآني, كسبب النزول، وشأن النزول، ومكان النزول، وزمان النزول، وثقافة عصر النزول.

2- سبب النزول: هو كلّ ما يتّصل بنزول الآيات القرآنيّة من القضايا والحوادث التي صاحبت نزول القرآن الكريم أو أعقبته.

3- شأن النزول: هو حدث نزل فيه شيء من القرآن الكريم. والنسبة بينه وبين سبب النزول هي العموم والخصوص من وجه. ومن وجوه الفرق بينهما: أنّ سبب النزول يُبيّن مشكلة حاضرة في عصر النزول لحادثة عارضة، بينما يُبيّن شأن النزول مشكلة أمر واقع, سواء أكانت حاضرة أم غابرة.

4- زمن النزول ومكانه (المكي والمدني): المكّي, هو كلّ ما نزل من القرآن قبل الهجرة النبويّة المباركة، والمدنّي, هو كلّ ما نزل بعدها.

5- التفسير بالمفهوم: الكشف عن المعاني المستورة والمحتبسة تحت الألفاظ.

6- التفسير بالمصداق: هو تفسير الآية, وفق مورد نزولها, في سبب أو حادثة خاصّة, بحقّ فرد أو أفراد معيّنين. وأمّا التفسير بالجري والانطباق, فيكون بتطبيق حكم الآية على جميع الموارد التي تشترك في خصوصيّاتها مع مورد نزول الآية.

7- التأويل: هو الحقيقة الواقعيّة العينيّة التي تستند عليها البيانات القرآنيّة.

8- التّدَبُّر: هو تأمّل عقليّ ذاتيّ دقيق وعميق في تعابير القرآن الكريم, للحصول على نكات دقيقة, تربويّة وأخلاقيّة وعقديّة وغيرها, وذلك ضمن ضوابط وشروط مرعيّة الإجراء, مع كون هذه النكات احتماليّة تبقى في دائرة الرؤية ووجهة النظر الخاصّة بالمتدبّر، ولا يمكن نسبتها على نحو الجزم إلى المراد الإلهيّ.

9- السياق: هو الإطار العام الذي يكتنف مجموعة من الكلمات والعبارات والجُمَل, بحيث يُشكّل قرينة في تحديد معاني الألفاظ ووجهة العبارات.

10- القرائن التفسيريّة: كلّ ما ارتبط بالكلام ارتباطاً لفظيّاً أو معنويّاً, وكان له أثر فاعل في استيعاب الكلام وفهم مراد المتكلّم, سواء أكان متّصلاً بالكلام (القرينة المتّصلة) أم منقطعاً عنه (القرينة المنفصلة)، وسواء أكان من سنخ الألفاظ (القرينة اللفظيّة) أم من غير سنخ الألفاظ (القرينة اللبّيّة والعقليّة).

وحتى نكون موضع عناية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه” ، نضع بين أيديكم هذا الجهد المتواضع، عسى أن يتقبّله الله – تعالى -، ويكون خطوة في طريق العودة إلى القرآن والاستفادة منه.

والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة

الدرس الأول: تفسير سورة الأعلى

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى * سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾

تعريف بالسورة ومحاورها
سُمّيت هذه السورة بالأعلى, لورود ذكرها في مستهلّ السورة، وقد جرت سيرة المسلمين على تسمية بعض السور باسم مفتتحها. وهذه السورة آخر سور “المسبّحات”.

وتتضمّن هذه السورة المباركة 19 آية, تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- تسبيح الربّ من لوازم محض ربوبيّة الربّ وعبوديّة العبد.
2- ترتّب الهداية التشريعيّة على الهداية التكوينيّة.
3- إيجاد بيئة قَبول الهداية التشريعيّة.
4- حفظ الأنبياء والرسل عليهم السلام وصيانتهم عن الخطأ في إيصال الهداية إلى الناس.
5- حقيقة تزكية النفس وعواملها وآثارها الوجوديّة.
6- حقيقة تدسية النفس وعواملها وآثارها الوجوديّة.
7- فناء الدنيا وزوالها، وبقاء الآخرة ودوامها.
8- وحدة الدين، على اختلاف شرائعه، في هداية الإنسان إلى الله تعالى.

فضيلة السورة
• ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “مَنْ قرأها, أعطاه الله من الأجر عشر حسنات, بعدد كلّ حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم” .

• ما روي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُحبّ هذه السورة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، وأوّل من قال: سبحان ربّي الأعلى: ميكائيل”.

• ما رواه أبو بصير، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: “من قرأ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: ادخل من أيّ أبواب الجنّة شئت” .

• ما رواه أبو حميصة، عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: “صلّيت خلفه عشرين ليلة. فليس يقرأ إلا ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾. وقال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة. إنّ مَنْ قرأها فكأنّما قرَأ صحف موسى وإبراهيم الذي وفّى” .

• ما رواه عقبة بن عامر الجهنيّ أنّه: لمّا نزلت: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “اجعلوها في ركوعكم”. ولمّا نزلت: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ، قال: “اجعلوها في سجودكم” .

خصائص النزول
اختلف المفسّرون في مكان نزول هذه السورة وزمانه، على ثلاثة أقوال ، هي:
1- مكّيّة السورة, وهو قول مشهور المفسّرين. ويؤيّده: انطباق خصائص السور المكّيّة عليها, بلحاظ قصر مقاطع آياتها، وطبيعة أسلوبها وخطابها ولحنها ومحاورها المطروحة.

2- مدنيّة السورة, حيث ورد فيها ذِكْر زكاة الفطرة وصلاة العيد, بدلالة بعض الروايات التفسيريّة، وهما لم يُشرَّعان إلا بعد الهجرة النبويّة, أي في المرحلة المدنيّة.

3- مكّيّة أولها ومدنيّة آخرها, حيث إنّ سياق الآيات في صدر السورة سياق مكّيّ وأمّا ذيلها, وهو قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾, بقرينة الروايات التفسيريّة, فهو مدنيّ.

وواقع الحال أنّ الوجه الأوّل هو الأوفق من بين الأقوال المطروحة, لما تقدّم ذِكره من مؤيّدات، أضف إلى ذلك:
• أنّ الأمر بالزكاة والصلاة عامّان، فيمكن حمل الروايات الواردة في زكاة الفطرة وصلاة العيد على التطبيق.

• أنّ مدار الاعتبار بمكّيّة السورة أو مدنيّتها, يكمن في بداية نزولها, وهو بلا أدنى شكّ حصل في المرحلة المكّيّة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم, باتّفاق المفسّرين.

شرح المفردات
• سَبِّحِ: السين والباء والحاء أصلان, أحدهما: جنس من العبادة، والآخر: جنس من السعي. فالأوّل: السبحة, وهي الصلاة، ويختصّ بذلك ما كان نفلاً غير فرض… ومن الباب التسبيح, وهو تنزيه الله جلّ ثناؤه من كلّ سوء. والتنزيه, التبعيد” . وجُعِل التسبيح في فعل الخير, كما جُعِل الإبعاد في الشّرّ، فقيل: أبعده اللَّه. وجُعِلَ التَّسْبِيحُ عامّاً في العبادات, قولاً كان، أم فعلاً، أم نيّة، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ﴾ ، ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ ، ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ ، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ … والأشياء كلُّها تُسبّح له وتسجد, بعضها بالتّسخير وبعضها بالاختيار” .

• قَدَّرَ: “القاف والدال والراء أصل صحيح, يدلّ على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته. فالقدر مبلغ كلّ شيء” . و”القَدْرُ والتَّقْدِيرُ: تبيين كمّيّة الشيء… وتَقْدِيرُ الله على وجهين:

أحدهما: بالحكم منه, أن يكون كذا أو لا يكون كذا، إمّا على سبيل الوجوب، وإمّا على سبيل الإمكان. وعلى ذلك قوله: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ . والثاني: بإعطاء الْقُدْرَةِ عليه… وقوله: ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ , أي: أعطى كلّ شيء ما فيه مصلحته، وهداه لما فيه خلاصه, إمّا بالتّسخير، وإمّا بالتّعليم, كما قال: ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ ” . والثاني يرجع إلى الأوّل. فتدبَّر.

• غُثَاءً: “الغين والثاء أصل صحيح يدلّ على فساد في الشيء” . و”قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء﴾ , أي أهلكناهم، فذهبنا بهم, كما يذهب السيل الغثاء، والغثاء بالضم والمد: ما يجيء فوق السيل ممّا يحمل من الزبد والوسخ وغيره. قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء﴾, أي يابساً” .

• أَحْوَى: “الحاء والواو وما بعده معتلّ أصل واحد, وهو الجمع” . و “قيل: الحوّة: شدّة الخضرة التي تميل إلى السواد, فقوله تعالى: ﴿غُثَاء أَحْوَى﴾, أي أسود ليس بشديد السواد” .

• يَصْلَى: “الصاد واللام والحرف المعتلّ أصلان, أحدهما: النار وما أشبهها, من الحمى، والآخر: جنس من العبادة” . و”أصل الصَّلْي الإيقادُ بالنار، ويقال: صَلِيَ بالنار وبكذا، أي: بلي بها، واصْطَلَى بها، وصَلَيْتُ الشاةَ: شويتها, وهي مَصْلِيَّةٌ. قال تعالى: ﴿اصْلَوْهَا

الْيَوْمَ﴾ ، وقال: ﴿يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾ ، ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ ، ﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾ ، ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ ” .

• تَزَكَّى: “الزاء والكاف والحرف المعتلّ أصل, يدلّ على نماء وزيادة” . و”أصل الزَّكَاةِ: النّموّ الحاصل عن بركة الله تعالى، ويعتبر ذلك بالأمور الدّنيويّة والأخرويّة… وتَزْكِيَةُ الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل, وهو محمود وإليه قصد بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ ، وقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ . والثاني: بالقول, كتزكية العدل غيره, وذلك مذموم أنْ يفعل الإنسان بنفسه، وقد نهى الله تعالى عنه, فقال: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾ ، ونهيه عن ذلك, تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً وشرعاً” .

تفسير الآيات
الآية (1): ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾:
المُرَاد بالأعلى, الذي يعلو كلّ عال، ويقهر كلّ شيء, وهو واقع موقع صفة “ربّك” دون الاسم.

وذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• أي قل: “سبحان ربّي الأعلى”.

• صلِّ باسم ربّك الأعلى.

• تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق به تعالى, من الصفات المذمومة والأفعال القبيحة, لأنّ التسبيح هو التنزيه لله عمّا لا يليق به.

• تنزيه أسمائه تعالى عمّا لا يليق به تعالى, بأن لا يؤوَّل ما ورد منها من غير مقتضٍ، ولا يبقى على ظاهره إذا كان ما وُضِعَ له لا يصحّ له تعالى، ولا يطلقه على غيره تعالى, إذا كان مختصّاً به تعالى, كاسم الجلالة، ولا يتلفّظ به في محلّ لا يُناسبه, كبيت الخلاء، وعلى هذا القياس.

• أمرٌ, بتنزيه اسمه تعالى وتقديسه، وبلحاظ تعليق التنزيه على الاسم – وظاهر اللفظ دالّ على المسمّى – والاسم إنّما يقع في القول, فيكون تنزيهه تعالى, بأنْ لا يُذْكَر معه ما هو تعالى منزّه عنه, كذِكْر الآلهة والشركاء والشفعاء ونسبة الربوبيّة إليهم، وكذِكْر بعض ما يختصّ به تعالى, كالخلق والإيجاد والرزق والإحياء والإماتة ونحوها، ونسبته إلى غيره تعالى، أو كذِكْر بعض ما لا يليق بساحة قدسه تعالى, من الأفعال, كالعجز والجهل والظلم والغفلة، وما يُشبهها, من صفات النقص والشين ونسبته إليه تعالى.

وغيرها من الأقوال .

والقول الأخير هو الأوسع والأشمل والأنسب لسياق قوله تعالى الآتي: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾, فإنّ السياق سياق البعث إلى التذكرة والتبليغ, فبُدِئ أولاً بإصلاح كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وتجريده عن كلّ ما يُشعر بجليّ الشرك وخفيّة أمره, بتنزيه اسم ربّه، ووعد ثانياً بإقرائه, بحيث لا ينسى شيئاً ممّا أوحي إليه، وتسهيل طريقة التبليغ عليه، ثمّ أُمِرَ بالتذكير والتبليغ.

وبناءً عليه، فالمراد بتنزيه اسمه تعالى, تجريد القول فيه عن ذِكْر ما لا يُناسب ذِكْره ذكرَ اسمه تعالى, وهو تنزيهه تعالى في مرحلة القول الموافق لتنزيهه في مرحلة الفعل. وهو يلازم التوحيد الكامل, بنفي الشرك الجلي, كما في قوله: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿… وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ . وفي إضافة الاسم إلى الربّ، والربّ إلى ضمير الخطاب, تأييد لما قدّمناه,

فإنّ المعنى سبّح اسم ربّك الذي اتّخذته ربّاً وأنت تدعو إلى أنّه الربّ الإله, فلا يقعنّ في كلامك مع ذكر اسمه بالربوبيّة ذِكر من غيره, بحيث ينافي وصف الربوبيّة المقصور في الله تعالى، على ما عرَّف نفسه لك، وينافي وصف العبوديّة المقصور في العبد المستلزم لتسبيح الربّ وتنزيهه عن الشريك وكلّ نقص واحتياج .

الآية (2): ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى﴾:
خَلْق الشيء, جَمع أجزائه. وتسويته, جعلها متساوية, بحيث يُوضع كلّ في موضعه الذي يليق به، ويُعطى حقّه, كوضع كلّ عضو من أعضاء الإنسان في ما يناسبه من الموضع. والخَلْق والتسوية, وإنْ كانا مطلقين، لكنّهما إنّما يشملان ما فيه تركيب أو شائبة تركيب من المخلوقات.

وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
– خلق وسوّى بينهم في باب الإحكام والإتقان.
– خلق كلّ ذي روح, فسوّى يديه وعينيه ورجليه.
– خلق الإنسان فعدّل قامته, أي لم يجعله منكوساً, كالبهائم والدوابّ.
– خلق الأشياء على موجب إرادته وحكمته, فسوّى صنعها, لتشهد على وحدانيّته.

وغيرها من الأقوال .

والآية إلى تمام أربع آيات لاحقة لها, تصف التدبير الإلهيّ في التكوين والتشريع, وهي برهان على ربوبيّته تعالى المطلقة في التكوين والتشريع، وأنّ الهداية التشريعيّة مترتّبة على الهداية التكوينيّة, وممهّد لها بإيجاد الاستعداد والقابليّة للهداية, وهذا ما يُفيده الترتيب والتفريع الوارد في سياق هذه الآية مع الآية اللاحقة: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ .

الآية (3): ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾:
التقدير, هو مبلغ الشيء وكنهه ونهايته.

ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• قدّر الخَلْق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات، وأجرى لهم أسباب معايشهم من الأرزاق والأقوات، ثمّ هداهم إلى دينه, بمعرفة توحيده, بإظهار الدلالات والبيّنات.

• قدّر أقواتهم، وهداهم لطلبها.

• قدّر المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لاستخراجها منه.

• جعل الأشياء التي خلقها على مقادير مخصوصة، وحدود معيّنة في ذواتها وصفاتها وأفعالها، لا تتعدّاها، وجهّزها بما يُناسب ما قُدِّر لها, فهداها إلى ما قُدِّر، فكلّ يسلك نحو ما قُدِّرَ له, بهداية ربّانيّة تكوينيّة, كالطفل يهتدي إلى ثدي أمّه، والفرخ إلى زق أمّه وأبيه، والذكر إلى الأنثى، وذي النفع إلى نفعه، وعلى هذا القياس. قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ ، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾ ، وقال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ .

وغيرها من الأقوال.

والقول الأخير من هذه الأقوال, هو الأوسع والأشمل والأوفق بظاهر السياق وبإطلاق معنى التقدير .

الآية (4): ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾:
المرعى, ما ترعاه الدوابّ من نبات الأرض، فالله تعالى هو الذي أخرجها, أي أنبتها, لمنافع جميع الحيوان وأقواتهم .

الآية (5): ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى﴾:
الغثاء, ما يقذفه السيل على جانب الوادي, من الحشيش والنبات اليابس الجاف بعدما كان رطباً, لتأكله البهائم. والأحوى, شديد الخضرة الذي يضرب إلى السواد, من شدّة خضرته والمجتَمِع على جانبي الوادي. وإخراج المرعى, لتغذّي الحيوان، ثمّ جعله غثاء أحوى, من مصاديق التدبير الربوبيّ ودلائله, كما أنّ الخلق والتسوية والتقدير والهداية, كذلك .

الآية (6): ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾:
القراءة, ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعضها الآخر في الترتيل. وليس إقراؤه تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم القرآن, مثل إقراء بعضنا بعضنا الآخر, باستماع المقرىء, لما يقرؤه القارىء، وإصلاح ما لا يُحسنه، أو يغلط فيه, فلم يعهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرء شيئاً من القرآن, فلا يُحسنه، أو يغلط فيه, عن نسيان للوحي، ثم يُقرَء, فيصلح، بل المراد: تمكينه من قراءة القرآن, كما أُنزِلَ، من غير أن يُغيّره بزيادة أو نقص أو تحريف, بسبب النسيان. فقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾, وعد منه تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يُمكّنه من العلم بالقرآن وحفظه, على ما أُنزِلَ, بحيث يرتفع عنه النسيان، فيقرؤه كما أُنزِلَ, وهو الملاك في تبليغ الوحي, كما أُوحِيَ إليه .

وروي عن ابن عباس أنّه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبرائيل عليه السلام بالوحي، يقرأه, مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبرائيل عليه السلام من آخر الوحي, حتّى يتكلّم هو بأوّله. فلمّا نزلت هذه الآية, لم ينسَ بعد ذلك شيئاً .

الآية (7): ﴿إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾:
استثناء, مفيد لبقاء القدرة الإلهيّة على إطلاقها, وأنّ هذه العطيّة, وهي الإقراء, بحيث لا ينسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدها، لا تنقطع عنه سبحانه, بالإعطاء, بحيث لا يقدر بعد على إنسائه صلى الله عليه وآله وسلم، بل هو باق على إطلاق قدرته, له أن يشاء إنساءه متى شاء، وإنْ كان لا

يشاء ذلك, فهو نظير الاستثناء الذي في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ . وليس المراد بالاستثناء, إخراج بعض أفراد النسيان من عموم النفي, والمعنى: سنُقرئك فلا تنسى شيئاً, إلا ما شاء الله أن تنساه, وذلك أنّ كلّ إنسان على هذه الحال يحفظ أشياء وينسى أشياء, فلا معنى لاختصاصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم, بلحن الامتنان، مع كونه مشتركاً بينه وبين غيره, فالوجه ما تقدّم. والآية بسياقها لا تخلو من تأييد لما قيل: إنّه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي, يُقرؤه مخافة أن ينساه، فكان لا يفرغ جبريل من آخر الوحي, حتّى يتكلّم هو بأوّله, فلمّا نزلت هذه الآية لم ينسَ بعده شيئاً. ويقرب من الاعتبار أن تكون هذه الآية: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾, نازلة أولاً، ثمّ قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ، ثمّ قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ .

والجهر, كمال ظهور الشيء لحاسّة البصر, كقوله تعالى: ﴿فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً﴾ ، أو لحاسّة السمع, كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ﴾ , والمراد بالجهر, الظاهر للإدراك, بقرينة مقابلته لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَخْفَى﴾، من غير تقييده بسمع أو بصر. والجملة في مقام التعليل, لقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾, والمعنى: سنصلح لك بالك في تلقّي الوحي وحفظه, لأنّا نعلم ظاهر الأشياء وباطنها، فنعلم ظاهر حالك وباطنها، وما أنت عليه من الاهتمام بأمر الوحي، والحرص على طاعته في ما أمر به .

الآية (8): ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾:
اليسرى – مؤنّث أيسر -, على وزن فُعلَى, من اليسر, بمعنى سهولة عمل الخير, وهي وصف قائم مقام موصوفه المحذوف, والمراد: الطريقة اليسرى. والتيسير, هو التسهيل.

ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• نوفّقك للشريعة اليسرى, وهي الحنيفيّة، ونهوّن عليك الوحي، ونُسهّله حتّى تحفظه ولا تنساه، وتعمل به ولا تُخالفه.

• نُسهِّل لك من الألطاف والتأييد, ما يُثبِّتك على أمرك، ويُسهِّل عليك المستصعَب من تبليغ الرسالة، والصبر عليه.

وهذا القول يُناسبه قوله تعالى قبل ذلك: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾, فكأنّه سبحانه أمره بالتبليغ والصبر، ووعده بالتأييد والنصر.

• اليسرى, هي الجنّة, والمراد: نُيسّر لك دخول الجنّة.

• نجعلك, بحيث تتّخذ دائماً أسهل الطرق للدعوة والتبليغ, قولاً وفعلاً, فتهدي قوماً، وتُتِمّ الحجّة على آخرين، وتصبر على أذاهم. فالمراد جعله صلى الله عليه وآله وسلم صافي الفطرة حقيقاً على اختيار الطريقة اليسرى التي هي طريقة الفطرة, فالآية في معنى قوله حكاية عن لسان النبي موسى عليه السلام: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾ ، .

والقول الثاني هو الأوفق بالسياق، وإنْ كانت الأقوال الأخرى محتملة أيضاً، ولا سيما القول الأخير.

الآية (9): ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾:
ذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
• الآية إخبار عن أنّ تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينفع لا محالة في زيادة الطاعة، والانتهاء عن المعصية, كما يُقال: سله إنْ نفع السؤال. ومعنى “إنْ” في الآية, هو بمعنى “قد” أو “إذ”.

ويُضعِف هذا القول: أنّ كون الذكرى نافعة مفيدة دائماً, حتّى في من يُعاند الحقّ بعد أن تمّت عليه الحجّة, ممنوع! كيف؟ وقد قال الله تعالى فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ .

• إنّ في الكلام إيجازاً بالحذف, والتقدير: فذكّر, إنْ نفعت الذكرى، وإنْ لم تنفع, وذلك لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بُعِثَ للتذكرة والإعذار, فعليه أن يُذكِّر, نفع أم لم ينفع, فالآية من قبيل قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ , أي والبرد. وفيه: أنّ وجوب التذكرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم, حتّى في مَن لا يترتّب عليه أثر, هو أصل ممنوع عقلاً, لأنّه يستلزم اللغو في الفعل, للجزم بعدم التأثير وترتّب الأثر، وشرعاً, لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ .

• إنّ الشرط مسوق للإشارة إلى استبعاد النفع في تذكرة هؤلاء المذكورين, والمعنى: افعل ما أُمِرْت به, لتوجر، وإنْ لم ينتفعوا به. وفيه: أنّه لا يناسب السياق، ولا سيما قوله تعالى بعده بلا فصل: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾.

• الآية تفريع على ما تقدّم من أمره صلى الله عليه وآله وسلم, بتنزيه اسم ربّه ووعده إقراء الوحي, بحيث لا ينسى، وتيسيره لليسرى, وهي الشرائط الضروريّة التي يتوقّف عليها نجاح الدعوة الدينيّة. والمعنى: إذا تمّ لك الأمر, بامتثال ما أمرناك به، وإقرائك فلا تنسى وتيسيرك لليسرى, فذكّر إن نفعت الذكرى. وقد اشترط في الأمر بالتذكرة, أن تكون نافعة, وهو شرط على حقيقته, فإنّها إذا لم تنفع كانت لغواً, وهو تعالى يجلّ عن أن يأمر باللغو, فالتذكرة لمن يخشى لأوّل مرّة, تُفيد ميلاً من نفسه إلى الحقّ, وهو نفعها، وكذا التذكرة بعد التذكرة, كما قال تعالى: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾. والتذكرة للأشقى الذي لا خشية في قلبه لأوّل مرّة تُفيد تمام الحجّة عليه, وهو نفعها، ويُلازمها

تجنّبه وتولّيه عن الحقّ, كما قال تعالى: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾. والتذكرة بعد التذكرة له لا تنفع شيئاً، ولذا أمر بالإعراض عن ذلك, قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ .

والقول الأخير هو الأصحّ بين الأقوال المتقدّمة, لأنّه الأوفق بالسياق .

الآية (10): ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾:
أي سيتذكّر ويتّعظ بالقرآن من في قلبه شيء من خشية الله وخوف عقابه .

الآية (11): ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾:
الضمير راجع إلى الذكرى, والمراد بالأشقى, بقرينة المقابلة, أي مَنْ ليس في قلبه شيء من خشية الله تعالى. وقيل: أشقى من الاثنين, أي ممّن يتجنّب وممّن يخشى. وقيل: أشقى العصاة. وظاهر السياق لا يُساعد عليهما. وتجنّب الشيء, التباعد عنه, والمعنى: وسيتباعد عن الذكرى مَنْ لا يخشى الله .

الآية (12): ﴿الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾:
الظاهر أنّ المراد بالنار الكبرى, نار جهنّم, وهي نار كبرى, بالقياس إلى نار الدنيا. وقيل: المراد بها أسفل دركات جهنّم, وهي أشدّها عذاباً .

الآية (13): ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾:

ثمّ للتراخي, بحسب رتبة الكلام. والمراد من نفي الموت والحياة عنه معاً, نفي النجاة نفياً مؤبّداً, فإنّ النجاة, بمعنى انقطاع العذاب بأحد أمرين: إمّا بالموت حتّى ينقطع عنه العذاب, بانقطاع وجوده، وإمّا بتبدّل صفة الحياة من الشقاء إلى السعادة ومن العذاب إلى الراحة, فالمراد بالحياة في الآية: الحياة الطيّبة التي قال عنها الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ . وقيل: أي لا يجد روح الحياة .

الآية (14): ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾:
التزكّي, هو التطهّر.

وذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• فاز من تطهّر من الشرك، وقال: لا إله إلا الله.

• ظفر بالبغية, مَنْ صار زاكياً, بالأعمال الصالحة والورع.

• زكى, أي: أعطى زكاة ماله.

• التطهّر من ألواث التعلّقات الدنيويّة الصارفة عن الآخرة, بدليل قوله تعالى بعد ذلك: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾، والرجوع إلى الله بالتوجّه إليه تطهُّر من الإخلاد إلى الأرض، والإنفاق في سبيل الله تطهّر من لوث التعلّق المالي, حتّى أنّ وضوء الصلاة تمثيل للتطهّر عمّا كسبته الوجوه والأيدي والأقدام.

وغيرها من الأقوال. والقول الأخير هو الأوسع والأوفق بالسياق، وبعموم معنى التزكية في القرآن, وكونه حقيقة شرعيّة في خصوص التطهّر عن الموبقات والموانع الدنيوية الصارفة للإنسان عن لقاء الله تعالى والقرب منه .

الآية (15): ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾:
ذَكَرَ المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً عدّة، هي:
• ذِكْر الله تعالى بوحدانيّته.

• ذِكْر الله بالقلب, عند الصلاة, رجاء ثوابه، وخوفاً من عقابه، فإنّ الخشوع في الصلاة بحسب الخوف والرجاء.

• المراد بالذكْر, الذكْر اللفظيّ، وبالصلاة, التوجّه الخاصّ المشروع في الإسلام.

والقول الأخير, هو الأوفق بالسياق، ولكن بضميمة تعميم معنى الصلاة لمطلق الذكْر والتوجّه إلى الله تعالى, لما ورد في الروايات المأثورة عن الأئمّة عليهم السلام .

الآية (16): ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾:
إضراب بالخطاب لعامّة الناس على ما يدعو إليه طبعهم البشري, من التعلّق التامّ بالدنيا، والاشتغال بتعميرها. والإيثار, الاختيار، وقيل: الخطاب للكفار، والكلام على أيّ حال مسوق للعتاب. والالتفات, لتأكيده .

الآية (17): ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾:
عدّ الآخرة أبقى بالنسبة إلى الدنيا، مع أنّها باقية أبديّة في نفسها, لأنّ المقام مقام الترجيح بين الدنيا والآخرة، ويكفي في الترجيح مجرّد كون الآخرة خيراً وأبقى, بالنسبة إلى الدنيا، وإنْ قطع النظر عن كونها باقية أبديّة .

الآية (18): ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾:
الإشارة بهذا إلى ما بُيِّن في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ إلى تمام أربع آيات, وأنّه مكتوب في الصحف الأولى, كما هو مكتوب في القرآن. وقيل: هذا إشارة إلى مضمون قوله تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ .

ويؤيّد القول الأوّل ما ورد في الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، منها:
• ما رواه أبو ذر الغفاري، أنّه قال: قلت: يا رسول الله فما في الدنيا ممّا أنزل الله عليك شيء ممّا كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: “يا أبا ذر! اقرأ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾” .

الآية (19): ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾:
الصحف, هي ما نزل على المرسلين من أنبياء الله تعالى عليهم السلام, والمراد بصحف إبراهيم عليه السلام, عشرة صحائف (وفي رواية أخرى: عشرين صحيفة) نزلت على إبراهيم عليه السلام من دون غيره من المرسلين عليهم السلام. وبصحف موسى عليه السلام, الألواح, وهي التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام من دون غيره من المرسلين عليهم السلام, وهو ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ﴾ وقوله تعالى: ﴿خُذِ الْكِتَابَ﴾ ، .

وهذا ما تشير إليه الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، ومنها:

• ما رواه أبو بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: “عندنا الصحف التي قال الله: ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾”، قلت: الصحف, هي الألواح؟ قال: “نعم” .

• ما رواه أبو ذر الغفاري، أنّه قال: “قلت: يا رسول الله كم النبيّون؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، قلت: كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جماء غفيراء (مجتمعون لم يتفرّق منهم أحد)، قلت: مَن كان أوّل الأنبياء؟ قال: آدم، قلت: وكان من الأنبياء مرسلاً، قال: نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه. ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا ذر أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم، وشيث، وأخنوخ, وهو إدريس عليهم السلام, وهو أوّل من خَطّ بالقلم ونوح عليه السلام. وأربعة من الأنبياء من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك محمّد. وأوّل نبي من بني إسرائيل, موسى، وآخرهم عيسى، وستمائة نبي، قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب, أنزل الله على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة، وأنزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلّها، وكان فيها: أيها الملك المبتلى المغرور! إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم، فإنّي لا أردّها, وإنْ كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه عزّ وجلّ، وساعة يُحاسب نفسه، وساعة يتفكّر في ما صنع الله عزّ وجلّ إليه، وساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال، فإنّ هذه الساعة عون لتلك الساعات، واستجمام للقلوب، وتوزيع لها، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه, فإنّ مَنْ حسب كلامه من عمله, قلّ كلامه, إلا في ما يعنيه، وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث: مرمة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو تلذّذ في غير محرم. قلت: يا رسول الله! فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرانية كلّها، وفيها: عجبت لمن أيقن بالموت, كيف يفرح؟! ولمن أيقن بالنار, لِمَ يضحك؟! ولمن يرى الدنيا وتقلّبها بأهلها, لِمَ يطمئنّ إليها؟! ولمن يؤمن بالقدر, كيف ينصب (يتعب نفسه بالجدّ والجهد)؟! ولمن أيقن بالحساب, لِمَ لا يعمل؟!” .

بحث تفسيريّ: التسبيح
1- حقيقة التسبيح:
التسبيح, تنزيه الشيء ونسبته إلى الطهارة والنزاهة من العيوب والنقائص.
والله تعالى تُسبِّحه وتُنزِّهه الموجودات السماويّة والأرضيّة, بما عندها من النقص, الذي هو متمِّمه، والحاجة التي هو قاضيها، حيث إنّها قائمة الذات به, لو انقطعت أو حُجِبَت عنه طرفة عين, لفنت ولانعدمت. فما من نقيصة أو حاجة, إلا وهو تعالى المرجوّ في تمامها وقضائها, فهو المُسبَّح المُنزَّه عن كلّ نقص وحاجة. وقوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ , يثبت لأجزاء العالم المشهود التسبيح, وأنّها تُسبّح الله وتُنزّهه, عمّا يقولون وينسبون إليه تعالى من الشركاء.

والمراد بتسبيحها, حقيقة معنى التسبيح، دون المعنى المجازي, فالمجاز لا يُصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة.

2- التسبيح بالتنزيه:
بدلالة كلّ موجود على تنزّهه تعالى, إمّا بلسان القال, كالعقلاء، وإمّا بلسان الحال, كغير العقلاء من الموجودات, وذلك لقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ﴾, حيث استدرك أنّهم لا يفقهون تسبيحهم, ولو كان المراد بتسبيحهم دلالة وجودهم على وجوده, وهي قيام الحجّة على الناس بوجودهم، أو كان المراد تسبيحهم وتحميدهم بلسان الحال, وذلك ممّا يفقهه الناس, لم يكن للاستدراك معنى.

فتسبيح ما في السماوات والأرض, تسبيح ونطق بالتنزيه, بحقيقة معنى الكلمة، وإنْ كنّا لا نفقهه, قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ .

فالتسبيح, تنزيه قوليّ كلاميّ, يكشف عمّا في الضمير بنوع من الإشارة إليه، والدلالة عليه، غير أنّ الانسان لمّا لم يجد إلى إرادة كلّ ما يريد، الإشارة إليه من طريق التكوين، طريقاً, التجأ إلى استعمال الألفاظ, وهي الأصوات الموضوعة للمعاني، ودلّ بها على ما في ضميره، وجرت على ذلك سنّة التفهيم والتفاهم، وربّما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده، أو رأسه، أو غيرهما، وربّما استعان على ذلك بكتابة، أو نصب علامة.

وبالجملة, فالذي يُكشَف به عن معنى مقصود الشيء, هو قول منه وتكليم، وإنْ لم يكن بصوت مقروع، ولفظ موضوع, ومن الدليل عليه: ما ينسبه القرآن إليه تعالى, من الكلام، والقول, كما في قوله تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ ، والأمر, كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ ، والوحي, كما في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ ، ونحو ذلك, ممّا فيه معنى الكشف عن المقاصد، وليس من قبيل القول والكلام المعهود عندنا معشر المتلسّنين باللغات، وقد سمّاه الله سبحانه قولاً وكلاماً.

وعند هذه الموجودات المشهودة من السماء والأرض ومن فيهما, ما يكشف كشفاً صريحاً عن وحدانيّة ربّها في ربوبيّته وينزّهه تعالى عن كلّ نقص وشين, فهى تُسبّح الله سبحانه, وذلك أنّها ليست لها في أنفسها, إلا محض الحاجة، وصرف الفاقة إليه في ذاتها وصفاتها وأحوالها, والحاجة أقوى كاشف عمّا إليه الحاجة، لا يستقلّ المحتاج دونه، ولا ينفك عنه. فكلٌّ مِنْ هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده ونقصه في ذاته عن مُوجده الغنيّ في وجوده، التامّ الكامل في ذاته، وبارتباطه بسائر الموجودات التي يستعين بها على تكميل وجوده، ورفع نقائصه في ذاته, أنّ مُوجِده هو ربّه المتصرّف في كلّ شيء المدبّر لأمره.

3- التسبيح بالتحميد:
كما أنّ الأشياء كلّها تُسبّح ربّها بالتنزيه, فكذلك هي تُسبّحه بالتحميد, قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾, وذلك أنّه كما أنّ عند كلّ من هذه

الأشياء شيئاً من الحاجة والنقص, عائداً إلى نفسه, كذلك عندها من جميل صنعه ونعمته تعالى شيء راجع إليه تعالى, موهوب من لدنه، وكما أنّ إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها ونقصها وكشف عن تنزّه ربّها عن الحاجة والنقص, وهو تسبيحها بالتنزيه, كذلك إبرازها لنفسها إبراز لما عندها من جميل فعل ربّها الذي وراءه جميل صفاته تعالى, فهو تسبيحها بالتحميد, فليس الحمد إلا الثناء على الجميل الاختياري, وليس غير الله تعالى واجداً بالذات للجميل الاختياريّ، وكلّ ما دونه ينتسب إليه تعالى في اكتساب الجمال الاختياري المستوجب للحمد والثناء, فكلّ الأشياء – إذن – تُسبّح بحمد ربّها, كما تُسبّحه بالتنزيه.

الأفكار الرئيسة
1- هذه السورة مكّيّة، وهي آخر سور “المسبّحات”, تتضمّن 19 آية، وتحوي مجموعة من المحاور، هي: التسبيح/ الهداية الإلهيّة التكوينية والتشريعيّة/ إيصال الهداية عبر الأنبياءعليهم السلام والرسل عليهم السلام/ تزكية النفس/ تدسية النفس/ زوال الدنيا وبقاء الآخرة/ وحدة الدين/ …

2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.

3- في تفسير السورة: نزّه الله ربّك عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه, من ذِكْر الآلهة والشركاء معه، وغير ذلك, فهو الأعلى الذي يعلو ويقهر كلّ شيء. وهو الذي خلق الأشياء وقدّرها على مقادير مخصوصة في صفاتها وأفعالها, ومنها: جعل المرعى بعد إخراجه شديد الخضرة مائلاً إلى السواد يابساً بعد أن كان جافّاً, لترعى الدواب منه, وهذه من دلائل التدبير الربوبيّ ومصاديقه. فسنمكّنك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العلم بالقرآن وحفظه لتقرأه على الناس, كما أنزلناه عليك, فإنّنا قادرون على ذلك، ونعلم كلّ ما جُهِرَ به وما خَفِيَ عن السمع والبصر, لأنّنا عالمون بالغيب فضلاً عن الشهادة, ولذا سنُيسّرك للطريقة السهلة في تبليغ دعوتك, فبلِّغ الدعوة, فإنّه سيأخذ بها كلّ مَنْ كان له خشية وزكت نفسه وتطهّرت عن كلّ التعلّقات الدنيوية بالعبوديّة لله تعالى، وسيعرض عنها كلّ مَنْ كان قلبه غافلاً عن الله مشتغلاً بالدنيا عن الآخرة, الذي سوف يَرِدْ نار جهنّم خالداً فيها, لأنّه فضّل الدنيا على الآخرة، مع أنّ الدنيا فانية زائلة والآخرة دائمة باقية, وهذا مكتوب في الأديان والرسالات الإلهية السابقة, لا خلاف فيه بين الشرائع.

4- الأشياء كلّها تُسبّح ربّها بالتنزيه, بما عندها من النقص, الذي هو متمِّمه، والحاجة التي هو قاضيها، حيث إنّها قائمة الذات به, لو انقطعت أو حُجِبَت عنه طرفة عين, لفنت ولانعدمت. فما من نقيصة أو حاجة, إلا وهو تعالى المرجوّ في تمامها وقضائها, فهو المُسبَّح المُنزَّه عن كلّ نقص وحاجة. وكذلك تُسبِّح ربّها بالتحميد, بما عندها من جميل صنعه ونعمته تعالى من شيء راجع إليه تعالى, موهوب من لدنه.

فكّر وأجب
1- أَجِبْ بـ  أو :
– هذه السورة مدنيّة على قول مشهور المفسِّرين.
– معنى “غثاءً أحوى”: النبات اليابس المائل إلى السواد.
– المراد بالأشقى: هو من ليس في قلبه خشية لله تعالى.

2- أَجِبْ باختصار:
– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾?
—————————————————————-
– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾?
—————————————————————-
– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾?
—————————————————————-

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...