الدرس الخامس: تفسير سورة الانشراح
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾
تعريف بالسورة ومحاورها
سُمّيت هذه السورة بالانشراح, لورود ذكرها في مستهلّ السورة ومفتتحها.
وتتضمّن هذه السورة المباركة 8 آيات, تحوي مجموعة من المحاور، هي:
1- من النعم الإلهيّة المعنويّة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذِّكْر.
2- تبشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزوال العقبات أمام دعوته.
3- مداومة حالة الجهد والنشاط في العمل حتى بعد الفراغ منه, استعداداً لمباشرة غيره.
4- الرجوع إلى الله تعالى في كلّ أمر, لأنّه المؤثّر الأوحد في الوجود.
فضيلة السورة
- ما رواه أُبَي بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “مَنْ قرأها, أُعطِيَ من الأجر, كمن لقي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مغتمّاً, ففرّج عنه”[1].
خصائص النزول
هذه السورة مكّيّة باتّفاق أغلب المفسِّرين[2]، وقد ذهب البعض إلى أنّها تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة, مع قربها إلى المدنيّة, لملائمة سياقها لخصائص السور المدنيّة[3].
وواقع الحال أنّ القول بمكّيّتها هو الأوفق, لأنّها نزلت عقيب سورة الضحى, ومحتواها يؤيّد ذلك, لأنّها تُكمل سرد مجموعة من النعم الإلهيّة التي شملت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, والتي
بيّنت سورة الضحى قسماً منها، وجاءت هذه السورة لتكمل القسم الآخر.
وروى ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “لقد سألت ربّي مسألة وددت أنّي لم أساله. قلت: أي ربّ! إنّه قد كان أنبياء قبلي, منهم مَنْ سخّرت له الريح، ومنهم مَنْ كان يُحي الموتى. فقال: ألم أجدك يتيماً, فآويتك، قلت: بلى. قال: ألم أجدك ضالاً, فهديتك، قلت: بلى، أي ربّ. قال: ألم أشرح لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، قلت: بلى أي ربّ”[4].
شرح المفردات
- نَشْرَحْ: “الشين والراء والحاء أصل أصيل, يدلّ على الفتح والبيان“[5]. و”شَرْحُ الصّدر, أي: بسطه بنور إلهيّ، وسكينة من جهة الله ورَوْح منه. قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾[6]، وقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾[7]، ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾[8]“[9].
- وِزْرَكَ: “الواو والزاء والراء أصلان صحيحان, أحدهما: الملجأ، والآخر: الثقل في الشيء“[10]. و”الوَزَرُ: الملجأ الذي يُلتَجأ إليه من الجبل. قال تعالى: ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ﴾[11]. والوِزْرُ: الثّقلُ, تشبيهاً بِوَزْرِ الجبلِ، ويُعبَّر بذلك عن الإثم, كما يُعبَّر عنه بالثقل. قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾[12], كقوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾[13]… وقوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾[14], أي: ما كنت فيه من أمر الجاهليّة،
فأُعفِيت بما خُصِّصت به, عن تعاطي ما كان عليه قومك”[15].
- أَنقَضَ: “النون والقاف والضاد أصل صحيح, يدلّ على نكث شيء، وربّما دلّ على معنى من المعاني على جنس من الصوت”[16]. و”النَّقْضُ: انْتِثَارُ العَقْدِ مِنَ البِنَاءِ والحَبْلِ. والعِقْدِ, وهو ضِدُّ الإِبْرَامِ… وحقيقةُ الانْتِقَاضِ ليس الصَّوَتَ, إنّما هو انْتِقَاضُهَا في نَفْسِهَا لِكَيْ يكونَ منها الصَّوْتُ في ذلك الوَقْتِ، فَعُبِّرَ عن الصَّوْتِ بِه، وقوله: ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾[17], أي: كَسَرَه حتّى صار له نَقِيضٌ”[18]. و”قوله: ﴿أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾[19], أي أثقله حتّى جعله نقضاً”[20].
- انصَبْ: “النون والصاد والباء أصل صحيح, يدلّ على إقامة شيء وإهداف في استواء“[21].
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾:
الاستفهام في الآية, للتقرير, أي: قد فعلنا ذلك، ويدلّ عليه قوله تعالى في مقام العطف عليه: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾, أي: وحططنا عنك وزرك[22].
والمراد بشرح الصدر, بسطه بنور إلهيّ وسكينة مِن الله ورَوْح منه, قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾[23]، ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾[24]، وفي مقابله ضيق الصدر: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾[25].
وفي ترتّب الآيات الثلاث الأُوَل في مضامينها، ثمّ تعليلها بقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾,
الظاهر في الانطباق على حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل دعوته، وأواسطها، وأواخرها، ثمّ تكرار التعليل: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ثمّ تفريع آيتي آخر السورة, كلّ ذلك يشهد على كون المراد بشرح صدره صلى الله عليه وآله وسلم, بسطه, بحيث يسع ما يُلقَى إليه من الوحي، ويؤمر بتبليغه، وما يُصيبه من المكاره والأذى في جنب الله, أي جعل نفسه المقدّسة صلى الله عليه وآله وسلم مستعدّة استعداداً تامّاً لقَبول ما يُفَاض عليها من الله تعالى[26].
وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: سُئِلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل: يا رسول الله! أينشرح الصدر؟ قال: “نعم”.
قالوا: يا رسول الله! وهل لذلك علامة يُعرَف بها؟ قال: “نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزول الموت”[27].
الآية (2): ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾:
الوزر, الحمل الثقيل. ووضع الوزر, إذهاب ما يحسّ من ثقله.
وقد ذَكَرَ المفسِّرون في معنى وضع وزره صلى الله عليه وآله وسلم أقوالاً، هي:
- إنفاذ دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإمضاء مجاهدته في الله, بتوفيق الأسباب, فإنّ الرسالة والدعوة وما يتفرّع على ذلك, هي الثقل الذي حمله إِثْر شرح صدره.
- أنّ ملكين نزلا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفلقا صدره، وأخرجا قلبه وطهّراه، ثمّ ردّاه إلى محلّه[28].
- ما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة.
- غفلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرائع ونحوها, ممّا يتوقّف على الوحي مع تطلّبه.
- حيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأمور, كأداء حقّ الرسالة.
- ثقل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بادىء نزوله عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
- ما كان يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم, من ضلال قومه وعنادهم، مع عجزه عن إرشادهم.
- ما كان يراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم, من تعدّيهم ومبالغتهم في إيذائه.
- همّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوفاة عمّه أبي طالبعليه السلام وزوجه خديجة عليها السلام.
- الوزر, المعصية، ورفع الوزر, عصمته صلى الله عليه وآله وسلم.
- الوزر, ذنب أمّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووضعه, غفرانه.
وهذه الوجوه, بعضها سخيف، وبعضها ضعيف, لا يلائم السياق، وهي بين ما قيل به، وبين ما احتُمِلَ احتمالاً. والأوفق منها بالسياق, هو القول الأوّل[29].
الآية (3): ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾:
إنقاض الظهر, كسره، بحيث يُسمَع له صوت, والمراد به: ظهور ثقل الوِزْر عليه ظهوراً بالغاً[30].
الآية (4): ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾:
رَفْعُ الذكر, إعلاؤه عن مستوى ذِكْر غيره من الناس. وقد فعل الله سبحانه وتعالى ذلك بنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم, من رفع ذِكْره, أنْ قرن الله اسم نبيّهصلى الله عليه وآله وسلم باسمه في الشهادتين اللتين هما أساس دين الله، وعلى كلّ مسلم أن يذكره مع ربّه كلّ يوم في الصلوات الخمس المفروضة. ومن لطيف تعبير هذه السورة, وقوع الرفع في هذه الآية بعد الوضع في الآية السابقة عليها[31].
الآية (5): ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾:
لا يبعد أن تكون هذه الآية تعليلاً لما تقدّم, مِن وضع الوزر، ورفع الذِّكر, فما حمَّلَه الله تعالى من الرسالة، وأمره بالدعوة, أثقل ما يمكن لبشر أن يحمله، ولا سيّما مع تكذيب قومه لدعوته، واستخفافهم به، وإصرارهم على إمحاء ذكره. فوضع الله وزره الذي حمَّله, بتوفيق الناس لإجابة دعوته، ورفع ذِكْره الذي كانوا يريدون إمحاءه, وكان ذلك جرياً على سنّته الإلهيّة الجارية في عالم الدنيا, من الإتيان باليسر بعد العسر, فعلّل رفع الشدّة عنه صلى الله عليه وآله وسلم, بما أشار إليه من سنّته الإلهيّة.
واللام في “العسر“, للجنس وليس للاستغراق, ولعلّ السنّة, هي سنّة تحوّل الحوادث، وتقلّب الأحوال، وعدم دوامها[32].
الآية (6): ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾:
تكرار, للتأكيد والتثبيت. وقيل: استئناف. والتنوين في ﴿يُسْرًا﴾, للتنويع والتعدّد، لا للتفخيم. والمعيّة, معيّة التوالي، دون المعيّة, بمعنى التحقّق في زمان واحد[33].
الآية (7): ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾:
النصب, المشقّة والتعب. والآية خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متفرّع على ما بُيِّن من قَبل, مِن تحميله الرسالة، ومهمّة الدعوة إليها، ومنّ الله تعالى عليه بشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذِّكْر, وكلّ ذلك هو من اليسر بعد العسر.
وقد ذَكَر المفسِّرون في معنى الآية أقوالاً، هي:
– إذا كان العسر يأتي بعده اليسر، والأمر فيه إلى الله تعالى لا غير, فإذا فرغت ممّا فُرِضَ عليك, فأتعب نفسك في الله – بعبادته ودعائه – وارغب فيه, ليمنّ عليك, بما لهذا التعب من الراحة، ولهذا العسر من اليسر.
– إذا فرغت من الفرائض, فانصب في النوافل.
– إذا فرغت من الصلاة, فانصب في الدعاء.
– إذا فرغت من الغزو, فاجتهد في العبادة.
– إذا فرغت من النبوّة, فانصب عليّاً عليه السلام للإمامة[34].
– إذا فرغت من دنياك, فانصب في آخرتك.
وغيرها من الأقوال والوجوه الضعيفة. وأصحّ الأقوال القول الأوّل, لموافقته للسياق، وكذلك الثاني والثالث والرابع والخامس, لكونها من التفسير بالمصداق الذي حدّدته بعض
الروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام[35].
الآية (8): ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾:
أي اعتمد على الله تعالى في كلّ الأحوال، وارغب إليه في المسألة. والآية في مقام الحثّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرغبة في الطلب من الله تعالى دون غيره. وهذا خطاب تشريفيّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, بوصفه المصداق الأكمل من الناس, فيشمل الحثّ جميع الناس[36].
بحث تفسيريّ: التوحيد الأفعاليّ[37]
1- معنى التوحيد الأفعالي:
المُراد به أنّ عالم الخلق منظَّم ومبني على الأسباب والمسبّبات، وأنّها ناشئة من إرادة الخالق ومعتمدة على مشيئته. فالظواهر الوجودية الكلّية والجزئيّة في ذاتها محتاجة لخالقها، متوقّفة عليه، وهو تعالى قائم بذاته: ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[38]. وهذه الظواهر بالتّالي غير مستقلّة في مقام التأثير، وكلّ أثر وعمل يحدث من الوجود الممكن بحول من الله وقوّته، فلا مؤثّر في الوجود إلا الله. فالتوحيد الأفعالي هو الإيمان والإقرار بارتباط الظواهر الوجودية بالله تعالى وفقرها في ذاتها واحتياجها لله تعالى، من دون أن يكون هذا الإيمان في تعارض مع النظام العلّي طارداً له.
2- مراتب التوحيد الأفعاليّ:
- التوحيد في الخالقية: وهو اعتراف الموحّد وإيمانه بأنّ موجودات عالم الوجود كلّها فقيرة ومحتاجة، ووجودها رهن الفيض والتجلّي الإلهي، فالكلّ مخلوقاته، ولا خالق سواه: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾[39].
- التوحيد في الربوبيّة: هو الإيمان بحقيقة أنّ تدبير عالم الوجود – ومنه الإنسان – بيد إله العالم وحده، والخلق كلّهم تحت ربوبيّته وتدبيره. فالإنسان في خلقه وتكوينه لم يفوِّض الله تعالى إليه تدبير نفسه، بل دوماً يعيش بالتدبير الإلهي: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[40].
3- أدلّة التوحيد الأفعالي:
– الدليل العقلي:
تقضي البراهين اليقينيّة بسريان الفقر والحاجة إلى الموجودات الممكنة كافّة, في ذواتها، وآثار ذواتها، وإذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات, استحال الاستقلال عنه والانعزال منه على الإطلاق, إذ لو فُرِضَ استقلال لشيء منه تعالى في وجوده أو شيء من آثار وجوده – بأيّ وجه فُرِضَ في حدوث أو بقاء -, استغنى عنه من تلك الجهة, وهو محال. فكلّ ممكن غير مستقلّ في شيء من ذاته وآثار ذاته, والله سبحانه هو الذي يستقلّ في ذاته, وهو الغني الذي لا يفتقر في شيء، ولا يفقد شيئاً من الوجود وكمال الوجود, كالحياة، والقدرة، والعلم، فلا حدّ له يتحدّد به.
وعليه، فإنّ كلّ ما كان للممكن, من الوجود، أو الحياة، أو القدرة، أو العلم, متعلّق الوجود به تعالى، غير مستقلّ عنه بوجه، ولا فرق في ذلك بين القليل والكثير, ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه, فلا مانع من فرض ممكن له علم بكلّ شيء، أو قدرة على كلّ شيء، أو حياة دائمة, ما دام غير مستقلّ الوجود عن الله سبحانه، ولا منعزل الكون عنه، كما لا مانع
من تحقّق الممكن مع وجود مؤقّت, ذي أمد، أو علم، أو قدرة, متعلّقين ببعض الأشياء دون بعض. نعم فرض الاستقلال يُبطِلَ الحاجة الإمكانيّة، ولا فرق فيه بين الكثير والقليل.
– الدليل القرآني:
إنّ القرآن الكريم, وإنْ كان ناطقاً باختصاص بعض الصفات والأفعال به تعالى, كالعلم بالمغيّبات، والإحياء، والإماتة، والخلق, كما في قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾[41]، ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾[42]، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾[43]، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[44]، إلى غير ذلك من الآيات, لكنّها جميعاً مفسّرة بآيات أُخَر, كقوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾[45]، ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ﴾[46]، ﴿وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ﴾[47]، ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾[48], إلى غير ذلك من الآيات. وانضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكّاً في أنّ المراد بالآيات النافية, اختصاص هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة والاستقلال، والمراد بالآيات المثبتة, إمكان تحقّقها في غيره تعالى, بنحو التبعية وعدم الاستقلال. فمن أثبت شيئاً من العلم المكنون، أو القدرة الغيبيّة, أي العلم من غير طريق الفكر، والقدرة من غير مجراها العاديّ الطبيعيّ، لغيره تعالى من أنبيائه وأوليائه, كما وقع كثيراً في الأخبار والآثار، ونفى معه الأصالة والاستقلال, بأن يكون العلم والقدرة مثلاً له تعالى، وإنّما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط، ووقع ما وقع منه بإفاضته وجوده, فلا حجر عليه. ومن أثبت شيئاً من ذلك على نحو الأصالة والاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامّي، وإنْ أسنده إلى الله سبحانه، وفيض رحمته, لم يخل من غلوّ، وكان مشمولاً لمثل قوله تعالى: ﴿لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ﴾[49].
الأفكار الرئيسة
1- هذه السورة مكّيّة, تتضمّن 8 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: نِعَم شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذِّكْر/ تبشير النبيصلى الله عليه وآله وسلم بزوال العقبات أمام دعوته/ المداومة على الاجتهاد والنشاط في العمل/ الرجوع إلى الله تعالى في كلّ أمر.
2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.
3- في تفسير السورة: ألم نشرح صدرك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ببسطه بنور إلهيّ وسكينة مِن الله ورَوْح منه، ووضعنا عنك وزرك, بإنفاذ دعوتك، وإمضاء مجاهدتك في الله, بتوفيق الأسباب لنشر الرسالة والدعوة. ورفعنا لك ذكرك عن مستوى ذِكر غيرك من الناس, فاعلم أنّ سنّة الله تعالى الجارية في خلقه قائمة على مجيء اليسر والفرج بعد العسر والكرب، وأنّه لا بدّ من متابعة الجهد والعمل بعد الفراغ من غيره، والتوجّه دوماً إلى الله تعالى بالدعاء والعبادة, لأنّ نجاح الإنسان وفلاحه منوط بارتباطه بالله تعالى, المؤثّر الأوحد في الوجود.
4- التوحيد الأفعالي هو الإيمان والإقرار بارتباط الظواهر الوجودية بالله تعالى وفقرها في ذاتها واحتياجها لله تعالى، من دون أن يكون هذا الإيمان في تعارض مع النظام العلّي طارداً له. ولهذا التوحيد مرتبتان، هما: التوحيد في الخالقيّة، والتوحيد في الربوبيّة والتدبير.
فكّر وأجب
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
– هذه السورة تحتمل كلّاً من المكّيّة والمدنيّة، ولكنّها أوفق بالمدنيّة.
– معنى “أنقض”: أي هدم.
– المراد بـ “فارغب”: اعتمد.
2- أَجِبْ باختصار:
– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾؟
—————————————————————-
– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾؟
—————————————————————-
– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾؟
—————————————————————-
[1] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص387.
[2] انظر: م.ن, السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص363.
[3] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص313.
[4] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388.
[5] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج3، مادّة “شَرَحَ”، ص269.
[6] سورة طه، الآية 25.
[7] سورة الشرح، الآية 1.
[8] سورة الزمر، الآية 22.
[9] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “شَرَحَ”، ص449.
[10] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج6، مادّة “وَزَرَ”، ص108.
[11] سورة القيامة، الآيتان 11- 21.
[12] سورة النحل، الآية 25.
[13] سورة العنكبوت، الآية 13.
[14] سورة الشرح، الآيتان 2 – 3.
[15] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “وَزَرَ”، ص867-868.
[16] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة “نَقَضَ”، ص470-471.
[17] سورة الشرح، الآية 3.
[18] الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “نَقَضَ”، ص821-822.
[19] سورة الشرح، الآية 3.
[20] الطريحي، مجمع البحرين، م.س، ج4، مادّة “نَقَضَ”، ص232.
[21] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة “نَصَبَ”، ص434. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “نَصَبَ”، ص807-808.
[22] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388.
[23] سورة طه، الآية 25.
[24] سورة الزمر، الآية 22.
[25] سورة الحجر، الآية 97.
[26] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص314.
تفسير بالمصداق: ما رواه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾, بعلي, فجعلناه وصيّك. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص428).
تَدَبُّر: سعة الصدر عامل مهمّ مهيّىء للقيام بأعباء الرسالة الثقيلة.
[27] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388.
[28] انظر: السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص363.
[29] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص388-389, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص314-315.
[30] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص315.
[31] م.ن. تَدَبُّر: السمعة الحسنة والمقام الرفيع من لوازم النجاح في قيادة المجتمع.
[32] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص315-316.
[33] م.ن، ج20، ص316.
تّدَبُّر: السنّة الإلهيّة قائمة على أساس أنّه بعد كلّ عسر يأتي اليسر, فالمشاكل والمصاعب قابلة للزوال وتحتاج إلى صبر وتحمّل وثبات وعزيمة, حتى يأتي اليسر.
[34] انظر: القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص428-429.
[35] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص391, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص316-317.
تّدَبُّر: الفراغ من أداء مسؤوليّة ما ليس مبرّراً للقعود والخمول، بل يجب متابعة بذل الوسع والجهد في أداء مسؤوليّات أخرى, فنيل مقام القرب من الله تعالى يحتاج لأن يقضي الإنسان حياته بأكملها في السعي نحو هذا الهدف السامي والعالي, قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (سورة الانشقاق، الآية 6).
[36] انظر: الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص391, الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص316-317.
تّدَبُّر:
– يلزم أن تكون وجهة السعي في الأمور كلّها وجهة إلهيّة.
– بذل أقصى الجهد من أجل الوصول إلى مرضاة الله تعالى.
– ينبغي أن يكون السعي عن رغبة وشوق.
[37] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج10، ص211-213, ج13، ص270-273.
[38] سورة البقرة، الآية 255.
[39] سورة الرعد، الآية 16.
[40] سورة طه، الآية 50.
[41] سورة الأنعام، الآية 59.
[42] سورة النجم، الآية 44.
[43] سورة الزمر، الآية 42.
[44] سورة الزمر، الآية 62.
[45] سورة الجن، الآيتان 26 – 27.
[46] سورة السجدة، الآية 11.
[47] سورة آل عمران، الآية 49.
[48] سورة المائدة، الآية 110.
[49] سورة النساء، الآية 171.