الرئيسية / بحوث اسلامية / في رحاب الشيعة – الشيخ باقر شريف القرشي 06

في رحاب الشيعة – الشيخ باقر شريف القرشي 06

اتهامات رخيصة
واتهمت الشيعة بغير إنصاف بتهم رخيصة لا قيمة لها في المقاييس والموازين العلمية
وقد ألصقها بهم من لا حريجة لهم في الدين من عملاء السلطة التي جهدت على محاربة
الشيعة وتشويه واقعهم المشرق لأنهم الجبهة المعارضة لسياسة أولئك الحكام الذين
جهدوا على إذلال الناس ن وإرغامهم على ما يكرهون والذين تفجرت سياستهم بكل ما خالف
كتاب الله وسنة نبيه .
لقد قذفوا الشيعة بالغلو والمروق من الدين ذلك لاعتقادهم بما يلي :
1 – عصمة الأئمة :
وآمنت الشيعة منذ فجر تأريخها حتى يوم الناس هذا بعصمة أئمتهم من اقتراف الذنوب
عمدا أو سهوا ، فإن الله تعالى قد طهرهم من الدنس وأذهب عنهم الرجس ن وقد حكى
القرآن الكريم ذلك بقوله : ( إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا ) وقد أقام المتكلمون من الشيعة سيلا
من الأدلة على هذه الظاهرة الكريمة في أئمتهم وقد حفلت بها مصادر علم الكلام .
والمتأمل في سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام يؤمن إيمانا لا يخامره شك في عصمتهم
، وطهارتهم من كل زيغ فهذا سيدهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو القائل :
( والله لو أعطيت الأقاليم السبع بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في جلب شعيرة
أسلبها من فم جرادة ما فعلت ) .
أليست هذه هي العصمة وقد امتنع سلام الله عليه لما ألح عليه عبد الرحمن بن عوف أن
يقلده الخلافة بعد قتل عمر بن الخطاب ، شرط عليه أن يسير في خلافته على سياسة
الشيخين فامتنع عليه السلام من إجابته ، ولو كان يروم الملك والسلطان ومتع الحياة
الدنيا لأجابه إلى ذلك . ثم يعدل إلى ما يرى ، وإذا عارضه ابن عوف فباستطاعة
اعتقاله ، أليست هذه هي العصمة ؟ ! ! .
ولما أحاط به الخوارج بعد التحكيم وطلبوا منه أن يتوب إلى الله عما اقترفوه هم فأبى
عليه السلام من ذلك لأنه لم يقترف أي ذنب طيلة حياته ، وإنما كانت جميع فترات
حياته حافلة بالتقوى والعمل الصالح وهكذا سيرة الأئمة الطاهرين عليهم السلام تجردا
عن الدنيا وزهدا في متعها وملاذها ولم يؤثر على أي أحد منهم أنه ارتكب خطأ وإثما
لا عمدا ولا سهوا ، وإنما كانت حياتهم مثالا لكل ما تسمو به الإنسانية من عمل
الخير والاتجاه الكامل نحو الله تعالى ، وقد أنفقت معظم حياتي ج والحمد لله ج
بالبحث والتنقيب عن سيرتهم فما وجدت لهم زلة في القول ولا في العمل ، ولو كانت لهم
أدنى هفوة أو زلة لحفلت بها مصادر التاريخ وشهر بهم أعداؤهم من ملوك بني أمية وملوك
بني العباس الذين هم ألد أعدائهم .
إن سيرة الأئمة الطاهرين عليهم السلام نقية مشرقة كالشمس تحكي بجميع أبعادها سيرة
جدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، فهم أوصياؤه وخلفاؤه ، ويستحيل أن
يعهد إلى من يمثله وينوب عنه إذا كان ناقصا ومنحرفا عن طريق الحق .
إن العصمة بجميع ما تحمل من معنى هي من ذاتيات أئمة أهل البيت عليهم السلام ومن
عناصرهم وليس في هذه الدعوى أي غلو أو انحراف عن الحق ، وعلى من يذهب إلى خلاف ذلك
فليذكر بادرة واحدة على خلاف الحق قد ارتكبها أحد الأئمة الطاهرين .
2 – علم الأئمة :
وتذهب الشيعة إلى أن أئمة أهل البيت عليهم السلام قد منحهم الله طاقات من العلم
وأعطاهم المزيد من الفضل ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإمام
أمير المؤمنين عليه السلام : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) وليس من شك أن الإمام
أمير المؤمنين أفضل المسلمين في مواهبه وعبقرياته التي لا تعد ، وهو عملاق هذه
الأمة ورائد نهضتها الفكرية والحضارية ، وقد فتق ما يزيد على ثلاثين علما حسبما
يقول العقاد ، وهو القائل : ( سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعلم
بها من طرق الأرض ) ولم يقل أحد هذه الكلمة إلا أحاط به الفشل حين الامتحان
والاختبار .
أليس الإمام هو صاحب نهج البلاغة الذي هو
من مناجم الفكر ومن خائر ما تملكه الإنسانية من تراث علمي وحضاري .
أليس الإمام هو أول من أسس حقوق الإنسان ، ووضع قواعد الحكم والإدارة في عهده لمالك
الأشتر عامله على مصر .
وهل يوجد في دنيا الإسلام مثل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في فضله وعلمه
وحكمه وآدابه ، وهل تخرج هذا العملاق العظيم من مدرسة ومعهد نعم إنه تخرج من مدرسة
الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي ملأ الدنيا بعلومه وفضائله .
ولو نظرنا إلى بقية الأئمة الطاهرين عليهم السلام لوجدناهم في مواهبهم وعلومهم
كجدهم الإمام أمير المؤمنين ، فهذا الإمام زين العابدين وسيد الساجدين عليه السلام
صاحب الصحيفة السجادية التي هي إنجيل آل محمد ، والتي هي من أروع وأسمى تراث روحي
وتربوي في دنيا الإسلام .
أليس الإمام زين العابدين مؤلف ( رسالة الحقوق ) التي وضعت البرامج العامة للحقوق
على اختلاف أنواعها .
ولو تأملنا الإمام جعفر الصادق عليه السلام لوجدناه كنزا من كنوز الله لا تعد
ذخائره ، ولا تحصى عجائبه أليس هو الذي ملأ الدنيا بعلومه ومعارفه ج على حد تعبير
الجاحظ ج وقد تتلمذ على يده زهاء أربعة آلاف طالب ، كان منهم بعض مؤسسي المذاهب في
الإسلام كأبي حنيفة ( 1 ) وقد تناولت محاضراته جميع أنواع العلوم من الطب والكيمياء
والفيزياء وعلم الفقه والفلسفة وعلم الكلام والحديث وغيرها .
ومن أبرز تلاميذه جابر بن حيان مفخرة الشرق ورائد علم الكيمياء والفيزياء .
من أين جاءت هذه العلوم للإمام ؟
من أي مدرسة تخرج منها ؟
إنه لا جواب لذلك إلا الإذعان لما أعلنته الشيعة في أئمتهم من أن الله تعالى منحهم
العلم والحكمة وفصل الخطاب .
ومما يدلل على إصابة ما تذهب إليه الشيعة في أئمتها العظام حديث المأمون مع الإمام
الرضا عليه
السلام حينما عقد له بولاية العهد فأخذه الحسد للإمام حينما شاعت مواهبه وعلومه بين
الناس ، فجلب إلى خراسان جميع علماء الدنيا ، وأغراهم بالأموال والثراء العريض وطلب
منهم أن يسألوا الإمام عن أصعب المسائل وأكثرها تعقيدا وغموضا لعله يعجز عن
جوابها فيتخذ ذلك وسيلة لإفساد عقيدة الشيعة ، وأقام المأمون مؤتمرا علميا في
بلاطه حضره السادة العلماء وغيرهم من أقطاب الدولة العباسية ويقول المؤرخون : أن
العلماء سألوه في نوب متفرقة عما يزيد على عشرين ألف مسألة فأجاب عنها جواب العالم
الخبير المتخصص فبهر العلماء من سعة علومه ودان الكثيرون منهم بإمامته مما اضطر
المأمون إلى حجب الإمام عن العلماء وغيرهم وفرض الرقابة الشديدة عليه لئلا يفتتن
بين الناس وأخيرا اغتاله بالسم ( 1 ) .
أما الإمام الجواد عليه السلام فقد كان من أروع
صور الفكر والعلم في الإسلام ، فقد تقلد الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الرضا عليه
السلام وكان عمره الشريف لا يتجاوز السبع سنين أو التسع وهو دور لا يسمح لصاحبه ج
حسب سيكلوجية هذا السن ج أن يخوض في أي ميدان من ميادين العلوم العقلية وغيرها ، أو
يدخل في عالم المناظرات والبحوث الجدلية مع كبار العلماء والمتخصصين فإن ذلك غير
ممكن لمن كان في سن الطفولة إلا أن الإمام الجواد عليه السلام قد خرق هذه العادة
حينما عهد العباسيون إلى كبار العلماء بسؤاله عن أعقد المسائل الفلسفية والكلامية
لعله يعجز عن أجوبتها فيتخذون من ذلك وسيلة للتشهير بأئمة الشيعة وبطلان عقيدتهم
لقد عملوا كما عمل المأمون مع الإمام الرضا عليه السلام .
وتقدم العلماء إلى الإمام الجواد عليه السلام فسألوه عن مختلف المسائل المشكلة
فأجابهم عنها ، وكان ممن سأله يحيى بن أكثم قاضي قضاة بغداد الذي انتخبه العباسيون
لامتحان الإمام عليه السلام فسأله عن مسألة فقهية ، ففرع الإمام عليها عدة فروع ثم
سأله عن أي فرع أراد منها ، فلم يهتد يحيى لذلك وبان العجز ، وطلب من الإمام أن
يتفضل بالإجابة عنها واعترف بعجزه عن مجاراته ، وشاعت في الأوساط العلمية في بغداد
هذه الظاهرة العلمية الهائلة وتحدث عنها الناس ، ولا زالوا يتحدثون .
وكان الإمام عليه السلام في يثرب بعد وفاة أبيه الإمام الرضا فخف إليها فقهاء
الشيعة للتعرف على إمامته فسألوه عن أعمق المسائل الفقهية وغيرها ، ويقول الرواة
أنه سئل في نوب متفرقة عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب عنها بدقة وشمول ( 1 ) ومن الطبيعي
أنه لا تعليل لهذه الظاهرة المحيرة إلا بالاعتراف بما تدين به الشيعة الإمامية في
أئمتهم من أن الله تعالى قد منحهم العلم وآتاهم من الفضل كما وهب ذلك لرسله وليس في
ذلك أي غلو أو إفراط في الحب بعد ما توفرت الأدلة العلمية على ذلك .
3 – زيارة مراقد الأئمة :
واتهمت الشيعة بالغلو لزيارتهم مراقد أئمة
الهدى ، ومصابيح الإسلام الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وقد أعلن ذلك
القصيمي تبعا لسيده ابن تيمية ، قال :
( وبهذا الغلو الذي رأيت من طائفة الشيعة في أئمتهم وبهذا التأليه الذي سمعت منهم
لعلي وولده عبدوا القبور وأصحاب القبور ، وأشادوا المشاهد وأتوها من كل فج عميق ،
وقدموا لها النذور والهدايا والقرابين ، وأراقوا الدماء والدموع ورفعوا لها خالص
الحب والخشوع ، وأخلصوا لها بذلك وخصوها به من دون الله رب الموحدين ) ( 1 ) .
وهذا النقد تافه كصاحبه الذي أترع فكره بالعصبية والبغض لآل النبي صلى الله عليه
وآله وسلم الذين هم سفن نجاة هذه الأمة ، ومصدر هدايتها وسعادتها .
إن زيارة مراقد أئمة الهدى عليهم السلام كزيارة مرقد جدهم الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم ليس فيها غلو ، ولا خروج عن موازين الدين وأحكام الإسلام وإنما فيها
اعتراف بالفضل لما أسداه الأئمة الطاهرون من
الخدمات العظمى للإسلام فلولا تضحياتهم الجبارة ووقوفهم أمام التيارات الجاهلية
التي أججها أسياد القصيمي من الأمويين لما بقي للإسلام اسم ولا رسم ، ألم يعلن يزيد
بن معاوية الكفر والإلحاد ، ويقتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسبي
عياله ، كما استباح مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحرق الكعبة المقدسة وكل
هذه الجرائم والموبقات سائغة وجائزة في شريعة القصيمي وابن تيمية .
إن الشيعة في زيارتهم لمراقد أهل البيت عليهم السلام يتقربون بذلك إلى الله تعالى
الذي أوجب على المسلمين مودتهم . والولاء لهم أحياء وأمواتا ، ومضافا لذلك فإن
هناك فوائد عظيمة تعود على المسلمين والتي منها تعارف بعضهم ببعضهم ، وتآلفهم كما
في الحج إلى بيت الله الحرام .
أما زيارة القبور بوجه عام فهي مشروعة وجائزة فقد روت عائشة أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كان يخرج إلى البقيع ويسلم على الأموات ويقول :
( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وآتاكم ما توعدون غدا مؤجلون ، وأنا بكم غدا إن
شاء الله
لاحقون ، اللهم اغفر لأهل البقيع ) ( 1 ) .
وكانت سيدة ناء العالمين زهراء الرسول عليها السلام تزور قبر عمها سيد الشهداء حمزة
عليه السلام في كل جمعة ، فتصلي ، وتبكي عنده ( 2 ) . وبعد وفاة أبيها خاتم الأنبياء
صلى الله عليه وآله وسلم كانت تزور مرقده الطاهر ، وتأخذ حفنة من ترابه فتشمها ،
وتبكي أمر البكاء وتقول بصوت حزين النبرات :
ماذا على من شم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام صرن لياليا
قل للمغيب تحت أطباق الثرى * إن كنت تسمع صرختي وندائيا
قد كنت ذا حمى بظل محمد * لا أخشى ضيما وكان جماليا
فاليوم أخضع للذيل وأتقي * ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا
فإذا بكت قمرية في ليلها * شجنا على غصن بكيت صباحيا
فلأجعلن الحزن بعدك مؤتسي * ولأجعلن الدمع فيك وشاجيا ( 1 )
وكان سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام يزور مقابر الشهداء بالبقيع ويقول :
ناديت سكان القبور فاسكتوا * فأجابني عن صمتهم ترب الحشا
قالت : أتدري ما صنعت بساكني * مزقت لحمهم وخرقت الكسا
وحشوت أعينهم ترابا بعد ما * كانت تأذى باليسير من القذا
أما العظام فإنني مزقتها * حتى تباينت المفاصل والشوى
قطعت ذا من ذا ومن هذا كذا * فتركتها مما يطول بها البلى ( 1 )
إن زيارة القبور مشروعة ، والذي ينفي ذلك لا دليل له من علم ، ولا برهان ، وقد عرض
سماحة شيخ المحققين الشيخ الأميني نضر الله مثواه في موسوعته الخالدة ( الغدير )
( 2 ) إلى الاستدلال على مشروعية زيارة القبور مستدلا على ذلك بأوثق الأدلة ومضافا
لذلك السيرة التي استقر عليها المسلمون في زيارة قبور موتاهم منذ فجر تأريخهم حتى
يوم الناس هذا .
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن هذا العرض عن الغلو والغلاة . ونؤكد ما ذكرناه في بحوث
هذا الكتاب من أن عقيدة الشيعة مشرقة كالشمس لا غلو فيها ولا غموض ، وأنها بجميع
فصولها مستمدة من صميم كتاب الله ، وسنة نبيه ، ويكفيها شموخا وفخرا وأصالة أن
أئمتهم العظام هم ذخائر الإسلام ومن سادات المتقين الذين أذهب الله عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا .
وقبل أن أطوي هذه الكلمات أتقدم بالشكر الجزيل إلى سماحة الأستاذ حجة الإسلام
والمسلمين الشيخ حسن خليفة الإحسائي دامت بركاته على ما أولاني من الرعاية واللطف ،
كما آمل أن يجد القارئ في هذه البحوث المتعة والفائدة وهو ما أتمناه ، والتوفيق
بيده تعالى يهبه للصالحين من عباده .
السجود على التربة الحسينية عند الشيعة
( 1 )
وسلكت الشيعة في إطارها العقائدي مسلكا مشرقا اتسم بأنه من أوضح المناهج ، ومن
أكثرها واقعية ومن أشدها التصاقا بسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ،
والتزاما بحرفية ما جاء من عنده ولم تلغ الشيعة نصا من شريعة الله ، ولم تبدل
أو تغير حكما من أحكام الله كما لم تبتدع حكما قبال أحكامه تعالى ، وقد واكبت
سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، واتبعت سنته وتمسكت بجميع ما أثر عنه وهي ج
من دون مغالاة ج من أظهر الفرق الإسلامية تمسكا بكتاب الله وولاءا لعترة رسوله ،
لم تشذ عن هذين المنهجين ، ولم تنحرف عنهما ، وإنما سايرتهما لا عن هوى أو تقليد ،
وإنما اتباعا للأدلة القطعية التي فرضت على كل مسلم التمسك بالثقلين كما أمر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ، وجعله ضمانا لأمته ووقاية لها من الانحراف ،
والتردي في مجاهل هذه الحياة .
( 2 )
وتبنت الشيعة بصورة إيجابية ومتميزة الولاء لأهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ،
ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل ، وولاؤهم قائم في أعماق قلوبهم ودخائل
نفوسهم ، سرى فيهم كما يسري الدم في عروقهم ، ولم يكن ذلك ج يعلم الله ج عن غلو أو
إفراط في الولاء والحب وإنما كان منبعثا عن وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فيهم وإلزامه بمودتهم ، فقد أثرت عنه في ذلك كوكبة من النصوص المتواترة التي لا
يخالجها شك ، ولا يسع المسلم أن يتغاضى عنها أو يتجاهلها ، ومن أبرزها حديث الثقلين
، فقد قرنهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمحكم التنزيل الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه ، كما جعلهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى
، وأنهم باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له ، وإنهم من الأمة بمنزلة الرأس من
الجسد ، وبمنزلة العينين من الرأس إلى غير ذلك من الأحاديث التي تلزم المسلمين
بمودتهم والولاء لهم .
( 3 )
الإمام الحسين عليه السلام هو أحد الكواكب المشرقة من أهل بيت النبوة الذين فرض
الله مودتهم في كتابه العظيم ، قال تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة
في القربى } وهو ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيد شباب أهل الجنة
، وهو وأخوه إمامان إن قاما وإن قعدا ، وقد قلده بهذه الأوسمة جده الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم وأحاطه بهالة من التكريم والتعظيم ، وقال فيه : ( حسين مني
وأنا من حسين ) . . . لقد استشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وراء الغيب ما
يقدمه سبطه من التضحيات الهائلة ، في مقاومة المد الجاهلي الذي يستهدف قلع جذور
الإسلام ، ولف لواء القرآن بقيادة حفيد أبي سفيان يزيد بن معاوية ، فلذا منح النبي
صلى الله عليه وآله وسلم سبطه جميع أنواع الحفاوة والتكريم ، وأخلص له في الحب
كأعظم ما يكون الإخلاص .
( 4 )
وحينما استولى فاجر قريش ، وخليع بني أمية يزيد بن معاوية على مقدرات الدولة
الإسلامية أعلن بلا خجل ولا حياء الكفر والإلحاد والمروق عن
الدين ، والاستهزاء والسخرية بقيمه ومبادئه ، قائلا :
لعبت هاشم بالملك . . . فلا خبر جاء ولا وحي نزل
وانبرى حفيد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا الطاغية الفاجر ، فأعلن ثورته
الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب ، وجعلها عبرة لأولي الألباب ، وقد سجلت وسام شرف
وفخر للإسلام وللإنسانية في جميع الأحقاب والأباد .
لقد ترجل أبو الأحرار في ساحة الجهاد المقدس وقد أعلن كلمته الخالدة التي دارت مع
الفلك وارتسمت فيه قائلا :
( لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما ) .
ووقف سلام الله عليه بصلابة وعزيمة غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة من عبيد ابن
مرجانة ، وراح أبو الشهداء يملي على صفحات التاريخ البطولات النادرة التي استوعبت
جميع لغات الأرض ، وهي تنادي بفجر جديد لجميع شعوب العالم أن لا حياة ولا كرامة لها
في ظل العبودية والاستبداد .
( 5 )
على صعيد كربلاء التي هي ترعة من ترع الجنة ج كما في الحديث ج وقف حفيد الرسول
الإمام الحسين عليه السلام مدافعا عن الكرامة الإنسانية وعن المبادئ والمثل
العليا التي أعلنها الإسلام .
على ثرى تلك التربة الطاهرة سفك دم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودماء
البررة الممجدين من أهل بيته وأصحابه ، ومثل البغاة المجرمون كأفظع ما يكون
التمثيل بأجسامهم الطاهرة ، وأحرقوا أخبيتهم وخيامهم وسلبوا ما على بنات رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم من حلي وأقنعة وحملوهن سبايا هدية لابن مرجانة وسيده يزيد
حفيد أبي سفيان .
لقد حظيت تربة كربلاء بتلك الأجسام المقدسة فما أطيبها ، وأطيب من دفن فيها وفي
الزيارة للإمام وأصحابه : ( لقد طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ) لقد أصبحت
تلك القبور الزكية رمزا للقيم الإنسانية ، ورمزا لكل تضحية تقوم على الشرف والعدل
، يقول العقاد : فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متفقين ومختلفين ، ومن حقه أن
يطيف به كل إنسان لأنه
عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي من بين سائر الأحياء فما أظلت قبة
السماء مكانا لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معنى الشهادة وذكرى
الشهداء ( 1 ) .
لقد ضمت تلك البقعة المباركة خلاصة الإباء والشرف والدين ، وأصبحت من أقدس مراكز
العبادة وأفضلها في الإسلام ، ففي كل وقت يطيف بها المسلمون متبركين ومتقربين إلى
الله تعالى .
( 6 )
وحظيت أرض كربلاء باهتمام بالغ عند الشيعة فهي عندهم كالحرمين في قداستها ، وسمو
مكانتها ، ومن مظاهر تقديسها عندهم السجود على تربتها في الصلاة المفروضة والمندوبة
واتخاذ أقراص منها في الجوامع والتكايا والسجود عليها .
واتهم بعض من لا حريجة له في الدين الشيعة بأنهم اتخذوا التربة الحسينية صنما
يسجدون لها ويعبدونها من دون الله ، وهذا من سخف القول
وضحالة الفكر ، والتردي في الجهل ، فالشيعة تعبد الله تعالى وحده لا تشرك به شيئا
، وإنما يسجدون على التربة الحسينية لقداستها وطهارتها ، وتوضح هذه الدراسة ذلك
بمزيد من البيان والتفصيل .
( 7 )
عرضة مسألة السجود على التربة الحسينية قبل حفنة من السنين على الإمام الخوئي نضر
الله مثواه ، ونظرا لكثرة أشغاله وشؤونه فقد أحالها علي ، فأجبت عنها بدقة وشمول ،
ومن المؤسف أني لم أحتفظ بنسخة منها .
وفي كتاب ( هذه هي الشيعة ) بحثت هذه المسألة بحثا مفصلا ومستوعبا ، وقد طلب
بعض الأخوان المؤمنين من أهالي كربلاء المقدسة أن أضيف إلى هذا الموضوع بعض البحوث
التي ترتبط به وأجعله كتابا مستقلا ، فاستجبت لهم وأضفت إلى ما كتبته هذه المقدمة
، وبعض الأمور الأخرى التي تتصل بهذا الموضوع آملا من الله تعالى التوفيق والسداد
إنه ولي ذلك والقادر عليه .

 

https://wilayah.info/ar/

 

https://wilayah.info/en/

 

https://www.ommahwahda.com/

شاهد أيضاً

الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي وهو لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، يبعد عنها العاشق بعتاب ...