الدرس التاسع:
نفخ الصُّور
أهداف الدرس:
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى وحقيقة الصّور والنفخ فيه.
2- يبيّن أنّ النفخ بالصّور حتميّ الوقوع وأنّ الاعتقاد به من الضروريات.
3- يذكر مرحلتي النفخ بالصّور, وهما نفخ الإماتة ونفخ الإحياء، وأنّهما تقعان بغتةً.
تمهيد
لقد طرح القرآن الكريم موضوع “نفخ الصُّور” في العديد من الآيات القرآنيّة[1]، وفي بعضها ورد التعبير عن الصُّور بـ ﴿النَّاقُورِ﴾[2]. وفي بعضها الآخر ورد التعبير بـ ﴿الصَّاخَّةُ﴾[3] أي الصوت الشديد، كما ورد التعبير عنه بـ “الصيحة”[4].
إنّنا وبالالتفات إلى هذه المعاني يمكن أن نوضح نفخ الصُّور الذي هو عبارة عن نفخ إسرافيل في بوقٍ, مصدراً صوتاً موجِلاً وموحشاً ومهيباً يؤدّي إلى موت جميع الخلق في السموات والأرض ثم إحيائهم بالنفخة الثانية.
حقيقة صور إسرافيل
ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان حقيقة صور اسرافيل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “قرنٌ من نور التقمه إسرافيل”[5]. وقال العلامة المجلسي في البحار: “هو قرن ينفخ فيه إسرافيل”[6].
وفي حديث آخر قال عليه السلام: “قرنٌ يُنفخ فيه”[7].
وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: “إنّ الصّور قرنٌ عظيم له رأس واحد وطرفان، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى الذي يلي السماء مثل ما بين تخوم الأرضين السابعة إلى فوق السماء السابعة فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق”[8].
والتشبيه بقرن الثور هو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لأجل تقريب المعنى للذهن وذلك لأنّ الألفاظ التي يمكن للبشر إدراكها لا يمكنها أن تحيط بعالم ما وراء الطبيعة وأن تحكي عنه.
ولذا لا ينبغي حمل ما ورد من ألفاظٍ لشرح وتوضيح عالم الغيب على ما هو موجود عندنا من معانٍ. فنفخُ الصّور له معنىً لا نعلم واقعه ولا يمكن لنا أن نحمله على معناه الظاهري بل لا بدّ وأن نقول: إنّ هذا التعبير هو كناية لطيفة عن حادثتين عظيمتين, في النفخة الأولى يكون موت كل من في السماوات والأرض وفي النفخة الأخرى بعث جديد.
حتميّة وقوع نفخ الصُّور
إنّ الدور الذي يؤدّيه النفخ في الصّور يدلّنا على أنّ وقوعه حتميٌّ، بل هو من المسائل المؤكّدة الوقوع يوم القيامة والحساب. ولذا فهو من ضروريّات الدين ولا بدّ من الاعتقاد به كالاعتقاد بأصل المعاد، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾[9].
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾[10].
روي عن الامام علي عليه السلام: “وينفخ في الصّور فتزهق كل مهجة، وتبكم كل لهجة، وتذل الشمُّ[11] الشوامخ، والصمُّ[12] الرواسخ”[13].
وعن الإمام السجاد عليه السلام في الدعاء الثالث من الصحيفة السجادية يقول: “وإسرافيل صاحب الصّور الشاخص الذي ينتظر منك الإذن وحلول الأمر فينبّه بالنفخة صرعى رهائن القبور”[14].
أقسام النفخ في الصّور
للصّور نفختان: نفخٌ موجبٌ لموت الموجودات الحيّة والمسمى: بـ”نفخ الإماتة”، ونفخٌ موجبٌ لإحيائهم جميعاً وهو “نفخ الإحياء”.
1- نفخ الإماتة:
قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ﴾[15].
روي عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال: “فينفخ (إسرافيل) فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلا صعق ومات، ويخرج الصوت من إسرافيل، قال: فيقول الله لإسرافيل يا إسرافيل مت، فيموت إسرافيل، فيمكثون في ذلك ما شاء الله ثم يأمر الله السموات فتمور ويأمر الجبال فتسير وهو قوله: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا﴾”[16].
وتصرّح الآيات القرآنيّة بهذه النفخة حيث قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾[17].
إنّ المستفاد من هذه الآيات أنّه وعبر النفخة الأولى سوف يتغيّر كل هذا العالم فتتبدّل السموات غير السموات والأرض غير الأرض.
والذي يظهر من الآيات والروايات المذكورة هو أنّ جميع الموجودات الحيّة حتى إسرافيل سوف يموت ولا يبقى إلا الله تعالى. ولكن القرآن في كلتا الآيتين يعبِّر بعد ذلك بقوله: ﴿إِلَّا مَن شَاء﴾ فهناك من هم مستثنون من نفخة الإماتة ومن الفزع، أفلا يقع التناقض مع المفاد السابق؟
والجواب: إنّ الاستثناء هو في مورد نفخ الصّور، أي أنّ جماعةً من المخلوقات ومنهم إسرافيل هم من فزع نفخ الصّور آمنون، ولا يكون هذا النفخ موجباً لموتهم ولكنّ الله عزّ وجلّ يقوم بعد ذلك بقبض أرواحهم فلا يبقى في الوجود إلا الله عزّ وجلّ.
2- نفخ الإحياء:
بعد النفخة الأولى هناك نفخة أخرى تتمّ بأمر الله، وفيها تعود الحياة إلى كل المخلوقات ويأتي الناس للحساب. قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾[18].
روي عن الإمام السجاد عليه السلام بعد بيان نفخة الإماتة يقول: “فنفخ الجبّار نفخةً في الصور يخرج الصوت من أحد الطرفين الذي يلي السموات فلا يبقى في السموات أحدٌ إلا حي وقام كما كان، ويعود حملة العرش، ويُحضَر الجنّة والنار، ويُحشَر الخلائق للحساب. قال الراوي: فرأيت علي بن الحسين عليه السلام يبكي عند ذلك بكاءً شديداً”[19].
إنّ نفخ الإحياء وإن كانت نسبته إلى الله عزّ وجلّ ولكن ما نقلناه سابقاً من الدعاء الثالث من الصحيفة السجاديّة، وما دلّ عليه بعض الروايات أنّ نفخ الإحياء يكون أيضاً من إسرافيل. فالله عزّ وجلّ بعد موت الجميع يحيي إسرافيل وهو يقوم عبر النفخ بالصّور مجدّداً بإحياء الموتى.
وقوع النفختين بغتةً
إنّ المستفاد من الآيات والروايات أنّ كلتا النفختين تقعان فجأة، أما الأولى فتقع والناس في غفلةٍ مشغولون بمشاغلهم الدنيوية من عملٍ وجدالٍ وبيعٍ وشراء، قال تعالى: ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾[20].
وعن الصيحة الثانية قال تعالى: ﴿فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾[21].
وتدلّنا الآية على أنّ النفخة الثانية أيضاً تكون فجأة. وبعد النفخة الثانية ترد الخلائق كلها ساحة المحشر وينتظر كلٌّ مصيره فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى جهنّم، ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾[22].
المفاهيم الرئيسة
1- نفخ الصّور هو قيام إسرافيل بالنفخ في الصّور لتموت كل الموجودات الحيّة.
2- ما ورد في الروايات الشريفة في حقيقة صور إسرافيل وأنه قرنٌ من نور هو من باب التشبيه بما نألفه، لأنّه لا اطّلاع لدينا ولا معرفة بحقائق ذلك العالم.
3- إن الوارد في الآيات والروايات من وقوع النفخ في الصّور أمر حتمي وقطعي، وهو من معتقدات الدين الضرورية.
4- إن للصّور نفختين:
أ – نفخ إماتة.
ب – نفخ إحياء.
5- في نفخ الإماتة تموت جميع المخلوقات الحيّة، وفي نفخ الإحياء تُبعث من جديد.
6- إنّ النفخ في الصّور يقع بشكلٍ مفاجىءٍ غير متوقّع.
للمطالعة
الإنسان وعالم البرزخ[23]
لا بد أن تعرف أن عالم برزخ كل شخص، أنموذج من نشأته يوم القيامة، والبرزخ عالم يتوسّط بين هذا العالم وعالم القيامة، وتنفتح على هذا العالم كوَّة من الجنة أو النار. كما أشير إليه في نهاية هذا الحديث الشريف، وفي الحديث النبوي المعروف “الْقَبْرُ إمّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أوْ حٌفْرَةٌ مِنْ حٌفَرِ النِّيرانِ”[24].
فتبيّن أن الإنسان لدى سكرات الموت والاحتضار يشاهد صور أعماله وآثارها، ويسمع من ملك الموت بشارة الجنة أو الوعيد بالنار. وكما أن هذه الأمور تنكشف عليه قليلاً، كذلك تنكشف عليه الآثار التي تركتها أعماله وأفعاله في قلبه، من النورانية وشرح الصدر ورحابته أو أضدادها أيضاً من الظلام والكدُورة والضغط وضيق في الصدر، فإن كان من أهل الإيمان والسعادة، يستعد قلبه عند معاينه البرزخ لمشاهده النفحات اللطيفة اللُطفيّة والجمال، وتظهر فيه آثار تجلّيات اللطف والجمال، فيأخذ القلب في الحب للقاء الله، وتشتعل في قلبه، جذوة الاشتياق إلى جمال المحبوب، إن كان من أهل الحسنى وحبّ الله والجاذبة الربوبية، ولا يعرف أحد إلاّ الله، مقدار اللّذات والكرامات الموجودة في هذا التجلّي والاشتياق!
وإن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، أغدقت عليه من كرامات الحق المتعالي بقدر إيمانه وأعماله، ويراها لدى الاحتضار، فيتوق إلى الموت ولقاء كرامات الحق ويرتحل من هذا العالم مع البهجة والسرور والروح والريحان، ولا تطيق الأعين المُلكية والذائقة المادية، لرؤية هذه الكرامات ومشاهدة هذه البهجة والفرح.
وإن كان من أهل الشقاء والجحود والكفر والنفاق والأعمال القبيحة والأفعال السيئة،
انكشف عليه بقدر نصيبه من دار الدنيا وما وفّره واكتسبه لنفسه منها، من آثار السخط الإلهي والقهر، ونموذجاً من دار الأشقياء، فيدخل الذعر والهلع في نفسه بدرجة لا يكون عنده شيء أبغض من التجليات الجلالية والقاهرة للحق المتعالي ويستولي عليه من جرّاء هذا البغض والعداوة الشديدين، الضغوظ والظلام والصعاب والعذاب. لا يعرف حجمها أحد إلاّ الذات الحق المقدس، وهذه المحن تكون لمن كان من الجاحدين والمنافقين ومن أعداء الله وأعداء أوليائه في هذه الدنيا. وينكشف على أهل المعاصي والكبائر، بقدر اجتراحهم للسيئات، نوذجاً من جهنمهم، فلا يكون شيء عندهم أبغض من الرحيل من هذا العالم، فيُرحلون بكل عنف وقسوة وعذاب، وفي نفوسهم حسرات لم تتحقق في هذه الأحوال.
الإمام الخميني قدس سره
[1] راجع: الكهف، 99. المؤمن، 101. يس، 51. الزمر، 68. ق، 20. الحاقة، 13.
[2] سورة المدثر، الآية 8.
[3] سورة عبس، الآية 33.
[4] سورة يس، الآية 49.
[5] علم اليقين، الكاشاني، ج 2، ص 892.
[6] بحار الأنوار، ج6، ص 312.
[7] الترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية 1983 هـ. ق، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ج 4، ص 41.
[8] لآلئ الأخبار، ج 5، ص 53.
[9] سورة النمل، الآية 87.
[10] سورة ق، الآية 20.
[11] الشم، من الأشم، أي العالي والمرتفع، أي الجبال العالية.
[12] الصمّ، أي الصلب والشديد الصلابة.
[13] نهج البلاغة، خطبة 186.
[14] الصحيفة السجادية، الدعاء الثالث.
[15] سورة الزمر، الآية: 68.
[16] سورة الطور، الآيتان: 9 ـ 10. بحار الأنوار، ج 6، ص 324.
[17] سورة الحاقة، الآيات: 13 ـ 16.
[18] سورة الزمر، الآية 68.
[19] بحار الأنوار، ج 6، ص 325.
[20] سورة يس، الآيتان: 49 ـ 50.
[21] سورة الزمر، الآية 68.
[22] سورة الكهف، الآية 99.
[23] الإمام الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث الثامن والعشرون.
[24] بحار الأنوار، ج6، ص275.