إذا ما أدركنا النقاط المشروحة في مئات من الآيات القرآنية التي تصف عالم
الوجود بكل جزء جزء منه وبمجموعة مجموعة منه وبمختلف أنظمته الكلية والجزئية – لنرى أنه
أحسن دليل على التوحيد وأعظم مرشد إلى معرفة الله تعالى وكمال قدرته .
لو تأملنا في الآيتين المذكورتين سابقا وأمعنا النظر فيما سبق من الكلام ، نعلم أن
هذا الجمال المحير الذي ملأ عالم الوجود كله انما هو لمعة من الجمال الإلهي ندركه
نحن بواسطة الآيات السماوية والأرضية ، وكل جزء من العالم كوة ننظر منها إلى القدرة
اللامتناهية لنعرف أن ليس لهذه الأجزاء شئ من القدرة الا ما أفيض عليها .
ولهذا نرى في آيات قرآنية كثيرة نسبة أنواع الجمال والكمال إلى الله تعالى ، فتقول :
( هو الحي لا اله الا هو ) ( 1 ) .
و ( ان القوة لله جميعا ) ( 2 )
و ( فأن العزة لله جميعا ) ( 3 ) .
و ( هو العليم القدير ) ( 4 ) .
و ( هو السميع البصير ) ( 5 ) .
و ( الله لا اله الا هو له الأسماء الحسنى ) ( 6 ) .
فبمقتضى هذه الآيات كل جمال وكمال نراه في عالم الوجود هو في الحقيقة من الله تعالى
وليس لغيره الا المجاز والعارية .
وتأكيدا لما مضى ذكره يوضح القرآن الكريم بأسلوب آخر أن الجمال والكمال المودع في
مخلوقات العالم انما هو محدود متناهي ، وهو عند الله تعالى غير محدود وليس له نهاية ،
قال عز من قائل ( انا كل شئ خلقناه بقدر ) ( 7 ) .
وقال : ( وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم ) ( 8 ) .
عندما يتقبل الانسان هذه الحقيقة القرآنية يرى نفسه أمام الجمال والكمال اللامتناهي
يحيط به من كل جانب وليس فيه خلا أصلا ، ينسى كل جمال وكمال في العالم ، وحتى نفسه
التي هي من تلك الآيات ينساها وينجذب إلى خالق الجمال والكمال قال تعالى : ( والذين
آمنوا أشد حبا لله ) ( 1 ) .
عند هذا يسلم العبد إراداته واستقلاله إلى الله تعالى كما هو من شؤون الحب
والعبودية الخالصة ، فينضوي تحت لواء الحق ويدخل في ولايته ، كما يقول عز وجل والله
ولي المؤمنين ( 2 ) . الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ( 3 )
فيجد حينئذ روحا أخرى ويحيا حياة جديدة ويشرق في قلبه نور الحقيقة ، فتتفتح له طرق
السعادة ليشق مسيرته الكريمة بين المجتمع ، قال تعالى : ( أو من كان مؤمنا فأحيينا له
نورا يمشي به في الناس ) ( 4 ) وقال ( أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ) ( 5 ) .
وفي آية أخرى يزمع تعالى إلى كيفية حصول هذا النور فيقول ( يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ) ( 6 ) .
وقد فسر الايمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في آية أخرى بالتسليم له واتباعه ،
فقال ( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ( 1 ) .
ووضح الاتباع في آية أخرى ، فقال ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) ( 2 ) .
وأوضح من هذا نجد معنى الاتباع في آية أخرى أيضا حيث يقول : ( فأقم وجهك للدين حنيفا
فطرة الله التي فقطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ( 3 ) .
فبمقتضى هذه الآية الكريمة البرنامج الكامل الاسلامي هو المتطلبات التي يحتاج إليها
من يعيش في الكون ، ونعني بها القوانين والشرائع التي تدل عليها الفطرة الانسانية ،
الحياة غير المعقدة التي يحياها الانسان المستقيم ، كما يقول تعالى في موضع آخر
( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) ( 4 ) .
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يساوي بين الحياة
الانسانية السعيدة والحياة الفطرية النزيهة وهو بعكس جميع الكتب والمناهج الأخرى
يجمع بين البرامج الدينية والبرامج الحياتية ، فله رأيه الخاص في الفرد والمجتمع وله
كلمته في كل الشؤون ، ودستوره ينظر إلى الحقائق الثابتة ( معرفة الله تعالى – النظرة
الشاملة إلى الكون ) بأعمق النظرات .
ان القرآن يصف أولياء الله تعالى وعباده المخلصين بكثير من النعوت والخواص الصورية
والمعنوية التي يحتلون بها نتيجة لايمانهم الخالص ويقينهم الثابت ، ويؤسفنا أن هذا
الفصل القصير لا يسع لسردها بصورة مفصلة .
معنى حجية أقوال النبي والأئمة :
قد ذكرنا فيما سبق أن القرآن نفسه يثبت حجية أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والأئمة عليهم السلام في التفسير .
هذه الحجية واضحة في أقوال النبي والأئمة الصريحة والأحاديث قطعية الصدور ، أما
الأحاديث غير قطعية الصدور ( المسماة بأخبار الآحاد والتي اختلف المسلمون في حجيتها
وعدم حجيتها ) فأمرها يرجع إلى المفسر نفسه .
ان السنة يعملون مطلقا بالخبر الواحد الصحيح ، وأما الشيعة فالذي ثبت تقريبا عندهم
في علم أصول الفقه حجية الخبر الواحد الموثوق الصدور في الأحكام الشرعية ولا يعتبر
في غيرها .
ولمزيد من التحقيق في الموضوع لا بد من الرجوع إلى أصول الفقه .
تنبيه :
على فرض أن يكون التفسير بيان محصل مدلول الآية تدخل في علم التفسير البحوث التي
لها تأثير في تفسير الآية . أما البحوث التي لا يكون لها تأثير في معرفة محصل مدلول
الآية – كبعض البحوث اللغوية والقراءة والبديع وما أشبهها لا تكون هذه البحوث من
تفسير القرآن في شئ .
الفصل الثالث وحي القرآن الكريم
المسلمون ووحي القرآن :
تحدث القرآن الكريم عن الوحي ومنزل الوحي أكثر من غيره من الكتب السماوية المقدسة
كالتوراة والإنجيل ، وحتى نجد فيه آيات تتحدث عن كيفية الوحي نفسه .
ويعتقد عامة المسلمين ( 1 ) في وحي القرآن : أن القرآن بلفظه كلام الله تعالى أنزله على
النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة أحد الملائكة المقربين .
هذا الملك الوسيط يسمى بجبرائيل والروح الأمين جاء بكلام الله تعالى إلى
الرسول في فترات مختلفة بلغت ثلاثا وعشرين سنة . وكان على الرسول أن يتلو الآيات على
الناس ويوقفهم على معانيها ويدعوهم إلى ما فيها من المعارف الاعتقادية والآداب
الاجتماعية والقوانين المدنية والوظائف الفردية .
وقام الرسول بأداء ما كان عليه نصا بدون أن يتصرف في مواد الدعوة الإلهية أو يضيف
عليها أو ينقص منها أو يقدم أو يؤخر شيئا من موضعه
كتاب العصر والوحي والنبوة :
أما الباحثون وكتاب العصر الذين لهم بحوث حديثة في الأديان والمذاهب ، فيعتقدون في
وحي القرآن والنبوة أنه :
كان نبي الاسلام نابغة عارفا بالأوضاع الاجتماعية ، وسعى في خلاص البشرية من مهوى
الوحشية والانحطاط الخلقي ورفعها إلى أوج المدنية والحرية ، فدعى الناس إلى اعتناق
آرائه الطاهرة التي تجلت بشكل دين جامع كامل .
يقولون : كان النبي يحمل روحا نزيهة وهمة عالية ، عاش في بيئة يسودها الظلام وتتحكم
فيها القوة والأراجيف والهرج الاجتماعي وتتسم بحب الذات والسيطرة غير المشروعة على
الأموال وتتجلى فيها كل مظاهر الوحشية المقيتة .
كان النبي في ألم نفسي دائم من هذه البيئة الفاسدة ، فكان كلما بلغت الآلام في نفسه
الكريمة مبلغها يأوي إلى غار في احدى جبال تهامة ، فيبقى فيه أياما ليخلو إلى نفسه ،
وكان يتوجه بكل حواسه إلى السماء والأرض والجبال والبحار والأودية والآجام وما وضعته
الطبيعة تحت تصرف البشرية من سائر النعم ، وكان يأسف على الانسان المنهمك في الغفلة
والجهل
وقد أبدل حياته السعيدة الهانئة بحياة نكدة تضاهي حياة الحيوانات الوحشية .
كان النبي إلى حوالي أربعين سنة من عمره يدرك تلك المفاسد الاجتماعية ويتألم من
جرائها بالآلام النفسية ، ولما بلغ الأربعين من عمره وفق إلى كشف طريق للاصلاح يمكن
بواسطته ابدال تلك الحياة الفاسدة بحياة سعيدة فيها كل معاني الخير ، وذلك الطريق هو
الاسلام الذي كان يتضمن أرقى الدساتير التي كانت تناسب مزاج ذلك العصر .
كان النبي يفرض ان أفكاره الطاهرة هي كلام إلهي ووحي سماوي يلقيها الله تعالى في
روعه ويتكلم بها معه . كما كان يفرض روحه الخيرة التي تترشح منها هذه الأفكار لتستقر
في قلبه هي الروح الأمين وجبرئيل والملك الذي ينزل الوحي بواسطته .
وسمى النبي بشكل عام القوى التي تسوق إلى الخير وتدل على السعادة بالملائكة ، كما
سمى القوى التي تسوق إلى الشر بالشياطين والجن . وقد سمى أيضا واجبه الذي أملاه
عليه وجدانه بالنبوة والرسالة .
* * *
الرأي الذي ذكرناه باختصار هو للباحثين المعتقدين بالله تعالى وينظرون إلى الدين
الاسلامي بنظرة فيها شئ من الانصاف والتقييم . أما الملحدون الذين لا يعتقدون بالله
تعالى فإنهم
يعتبرون النبوة والوحي والتكاليف الإلهية والثواب والعقاب والجنة والنار سياسات
دينية بحتة ، وهم يذهبون إلى أن هذه كلها أكاذيب قيلت لمصالح خاصة ضرورية في حينها .
يقولون : ان الأنبياء كانوا مصلحين جاؤوا ببرامج اصلاحية في اطار ديني . ونظرا إلى أن
الناس كانوا في العصور السالفة منهمكين في الجهل والظلمة والخرافات وضع لهم
الأنبياء النظم الدينية في ظل سلسلة من العقائد الخرافية تتمثل في مسائل المبدأ
والمعاد .