الرئيسية / بحوث اسلامية / البعد الروحي للاحرام – الحضور في الميقات 01

البعد الروحي للاحرام – الحضور في الميقات 01

البعد الروحي للاحرام  السيد عبد الستار الجابري
الحضور في الميقات 01

المحطة الاولى من محطات سفر الحج او العمرة هو الاحرام من الميقات لعمرة التمتع او العمرة المفردة.
والميقات هو المحل الذي حددته الشريعة المقدسة على لسان النبي (صلى الله عليه واله) ليكون الموضع الذي يشرع فيه مريد النسك الاتيان باعماله.

تحديد الميقات
لم يترك الشرع المقدس لمريد النسك الحق في اختيار الموضع الذي يشرع فيه في عمله، فليس كل موضع يصح منه الاحرام للحج او للعمرة، بل هناك اماكن خاصة حدها النبي (صلى الله عليه واله) الذي لا ينطق عن الهوى حسب صريح دلالات القران الكريم ، فما يقوله النبي (صلى الله عليه واله) هو مايريده الله تبارك وتعالى، وتحقيق العبودية من العبد فرع امتثاله ما امر به النبي (صلى الله عليه واله) ( وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

البعد التربوي لتحديد الميقات
الله تبارك وتعالى هو الخالق البارئ المصور، وهو الاقرب الى الانسان من حبل الوريد، وهو العالم بكل خفايا النفس الانسانية (ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن اقرب اليه من حبل الوريد) ومن هنا نجد ان التشريعات الالهية قد اخذ فيها الشارع المقدس مختلف الجوانب التي يحتاجها الانسان للوصول الى اكمل المستويات واعلى المراتب التي يمكن ان يصل اليها.

ومن ابرز مظاهر رعاية الله تعالى للواقع الانساني في التشريع، ان الله تعالى عندما خلق ادم (عليه السلام) ونفخ فيه من روحه لم ينزله الى الارض ومصاعب الحياة دفعة واحدة بل انه اسكنه في جنة ولم يكلفه الا بعدم تناول ثمرة شجرة معينة، واما اذا اختار التناول منها فانه سيغادر حياة الرفاهية والاستقرار والدعة والراحة والرخاء الى حياة ملؤها النصب والتعب والارهاق والاذى، فحياة ادم (عليه السلام) في الجنة مفعمة بالرخاء والترف والراحة، حياة منعمة لم يخالطها نصب والم بينما الحياة الدنيا يجتمع فيها الشدة والرخاء، فهي دار الابتلاء والامتحان والتكليف.

والذي يستلهم من هذا الدرس الالهي لبني الانسان يبين ان مسيرة الانسان لابد فيها من مقدمات التهيئة والاعداد ولكل شيء بحسبه.

وبعبارة اخرى ان وجود ادم (عليه السلام) في تلك الجنة ليس لاعداده كماليا وروحيا كيف وهو الذي قال الله تعالى فيه ( ان الله اصطفى ادم ونوحا وال ابراهيم وال عمران على العالمين) بل ان تلك المرحلة بيان لبني الانسان في كونهم بحاجة الى مقدمة اعداد للحصول على افضل ما يمكن، وحيث ان ادم (عليه السلام) قد خلف كاملا من الناحية الروحية فهو ليس بحاجة الى ما يكمل الجانب الروحي فيه فتواجده في جنته تلك كان للاعداد الدنيوي والحياة على الارض – اي الجنبة المادية في حياة الانسان -.

وهكذا الحال في الناسك مع فرق واضح بين الموردين فآدم (عليه السلام) من الكمل في الساحة الروحية ولم يعش الحياة المادية قبل الجنة التي كان فيها، اما الناسك فانه جاء من خضم المادة حيث حياته اليومية الملأى بالصخب والنصب، وحضر الميقات لنيل الفيض والرقي الروحي والحصول على درجات القرب من الذات الالهية المقدسة، فلابد والحال هذه من مرحلة الاعداد الروحي للاستفاضة المثلى من المعنويات التي تحيط بجلال المكان وقدسه.

فتحديد الميقات وتعيينه بموضع خاص يمكن ان يستشف منه ان هذا الموضع هو النقطة الاولى لاعداد الانسان نفسه لتلقي الفيض الالهي، كما انه ينمي في الانسان حالة الانضباط والاتباع لما يأمر الله تعالى به عباده ليحقق بذلك خطوة في دائرة العبودية للرب تبارك وتعالى.

فالميقات لغير الناسك من اهل تلك البلاد موضع من المواضع التي خلقها الله على الارض اما الميقات بالنسبة للناسك فهو موضع للاستفاضة المعنوية من منبع الخير المطلق الذي لا يشوبه شر ومن مصدر الكمال المطلق الذي لا يعرضه نقص.

الابعاد الروحية والتربوية للحضور في الميقات
ومما تقدم يمكن ان يستشف ان للحضور في الميقات عدة ابعاد روحية وتربوية منها:
الاول: اظهار الانقياد لامر الله تعالى.

الثاني: تنمية روح الالتزام بأحكام الشريعة عند الناسك والابتعاد عن هوى النفس في التعاطي مع الشرع المقدس.

الثالث: اشعار الناسك بأهمية ما هو مقدِم عليه والابتداء في اعداده اعداداً روحياً يتناسب مع خصوصية ذلك النسك واهميته.
الرابع: تنبيه الناسك انه في مرحلة من مراحل تجديد العهد والميثاق مع الله تبارك وتعالى.

الخامس: اظهار خصوصية ان بقاعاً معينة لها اثار تكوينية واعتبارات تشريعية وان الميقات هو احد هذه الاماكن التي اختصها الله تبارك وتعالى دون غيرها من المواضع.

السادس: الاعداد النفسي والروحي للمرحلة اللاحقة من مراحل النسك والتي من شأنها تهيئة ساحة القلب لتلقي الفيض الالهي بالابتداء بالحضور في الموضع الخاص الذي تجري فيه بدايات السير والسلوك الى الله تبارك وتعالى.

السابع: استذكار الآخرة والرجوع الى الله، فالميقات برزخ مادي بين حياة الانسان اليومية وخصوصيات اعمال النسك التي تقتضي سلوكاً خاصاً وافعالاً معينة، تحد من حرية العبد الذي منحتها اياه الشريعة قبل الاحرام.

الثامن: قراءة مسيرة حياة الانسان وسيره الى الله من خلال هذه السفرة الطويلة فالإنسان يسير مدة حياته الى اليوم الذي يستعد فيه الى مغادرة الدنيا ولقاء الله فرداً، فكذلك يغادر الانسان حياته المعتادة للتوجه الى مرحلة ما قبل الدخول في النسك والحد من حريته وصلاحياته وخصوصياته، فالحضور في الميقات له بعد روحي عظيم في قراءة واقع الكدح الى الله (يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه).

التاسع: الترقي في المثول بين يدي الله تعالى واستشعار حضور الانسان في المحضر الالهي فالإنسان يقف بين يدي الله في كل صلاة يصليها لدقائق معدودة في نظم تشريعي يحد حريته لوقت محدد، كما يستحضر الانسان وجوده في بين يدي الرب في صيامه الذي يجتنب فيه ما احل الله له من طعام وشراب واشياء اخر من طلوع الفجر الى الليل، كما يستشعر العبد نسمات الرحمة الالهية وهو يؤدي الحق الشرعي من ماله متقرباً به الى الله حيث يخلع من قلبه التعلق بالمال وهو يقدمه مستحضراً في قلبه ان هذا القدر من المال ليس له ولا يعود اليه وانما هو مستأمن عليه لإيصاله لمستحقه، كل هذه المعاني ومعان اخر يستحضرها الإنسان في مناسك حجه، ويكون الميقات هو المنطلق الأول للولوج في هذا البعد الروحي الكبير فمن الميقات يحرم ومنه ينطلق نحو ادراك الحضور بين يدي الله في سفر يطول لساعات وايام.

العاشر: ما بين الميقات حتى وصول مكة مسافة طويلة كانت تقطعها القوافل في ليال وايام، وفي عصرنا الحاضر يستغرق الناسك في الطريق عدة ساعات يمضيها في ترديد التلبية والذكر والابتهال الى الله تعالى وقراءة القران، فهي ساعات من الطاعة والإنابة الى الله تبارك وتعالى تسهم في اعداد ساحة القلب وتؤثر في صفاء النفس وسمو الروح.

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...