الرئيسية / القرآن الكريم / نفحات من القران

نفحات من القران

[363]
إيضاحات:
1 ـ «المستضعفون» و«المستكبرون» في القرآن المجيد:
تحدث القرآن المجيد مرات عديدة عـن المستكبـرين « والمستضعفين » وهو
موضوع مهم وجدير بالانتباه ويمكن ان يشكل احد المباحث المستقلة في التفسير الموضوعي، الا انه ينبغي هنا الاشارة اليه بصورة عابرة مع بيان الآيات التي وردت في هذا البحث.
يقول الراغب في مفرداته: ان الكبر والتكبر والاستكبار لها معان متقاربة، ثم يضيف: ان للاستكبار معنيين احدهما: أن يتحرّى الانسان ويطلب ان يصير كبيراً وذلك متى كان على ما يجب وفي المكان الذي يجب وفي الوقت الذي يجب والثاني ان يتشبّه فيظهر من نفسه ما ليس له وهذا هو المذموم وعلى هذا ما ورد في في القُرآن. وهو ما قال تعالى:
(أبَى وَاسْتَكْبَرَ) (البقرة / 34).
ثم يضيف الراغب: قابلَ المستكبرين بالضعفاء تنبيهاً الى ان استكبارهم كان بما لهم من القوة من البدن والمال.(1)
ان الاستضعاف يقابل الاسكتبار وهو يعني طلب الضعف وقلة الحيلة، لكن بما ان هذه المادة غالباً ما تستعمل في القرآن بصفة (فعل مبني للمجهول) او (اسم مفعول)، فتعني الضعف الذي فرض عليهم من قبل المستكبرين.
وقد استعملت في القرآن بصيغة الفعل المبني للمعلوم كما جاء ذلك في فرعون الذي استضعف بني اسرائيل:
( اِنَّ فِرْعَوْنَ عَـلا فِـي الأرْضِ وَجَعَـلَ أهْـلَهـا شِيَعـاً يَسْتَضْعِفُ طـائِفَـةً مِنْهُـم )
(القصص / 4)
كما ينبغي ذكر هذه النقطة وهي: ان القرآن استعمل مفردة (مُتضعَف) بمعنيين: الاول المظلومون في الارض، وهم المشمولون بألطاف الله. كما جاء ذلك بالنسبة الى مستشعفي بني اسرائيل حيث قال الله فيهم:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مفردات الراغب مادة (كبر).
[364]
( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُـنَّ عَلَـى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُـوا فِـي الأَرْضِ وَنَجْعَـلَهُمْ أَئِمَّـةً وَنَجْعَـلَهُمُ الوارِثِينَ)
(القصص / 5)
والمعنى الثاني وهو المستعمل غالباً في القرآن المجيد: الضعفاء فكرياً بسبب جهلهم وتقليدهم الاعمى وتعصبهم، فيتبعون الظلمة والقادة الضالين عشوائياً. وهؤلاء هم الذين اشارت الآيات لالمذكورة في اول البحث الى شجارهم مع المستكبرين في يوم القيامة وصرحت انهم يستحقثون العذاب المضاعف كالمستكبرين: عذاباً لأجل انهم ضالون وعذاباً لاجل انهم ساهموا في تثبيت اسس حكومة الجبارين.
* * *
2 ـ دور القادة في الروايات الاسلامية:
لقد جاء في حديث للامام أمير المؤمنين(عليه السلام): «الناس بامرائهم أشبه منهم بآبائهم»(1).
إن هذا الشبه يمكن أن يكون من حيث ان فريقاً من الناس يتبعون الامراء ويقتدون بهم جهلا وغفلة ويجعلون قلوبهم ودينهم رهناً لاشارات هؤلاء الامراء وايعازاتهم، ولهذا اشتهر الحديث «الناس على دين ملوكهم».
إن هؤلاء الامراء في رأي بعض الناس أبطال وقدوات نموذجية واُسوات حسنة وأرفع شأناً من أن يُنتقدوا، وقد يقلّد البعض أنفسهم مناصب مقدسة فيغرروا ببعض الجهلة والعوام، ويجعلوا حجاباً أمام أفكارهم وعقولهم.
ومن المتعارف ان هناك فريقاً يعتبر «القدرة» دليلا على «الحقانية»، ويعتبر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – البحار الجزء 75 الصفحة 46، كتاب الروضة كلمات علي(عليه السلام) الحديث 57.
[365]
المنتصر هو الحق فرداً كان او جماعة، وهذا الاسلوب من التفكير جعلهم فريسة للكثير من الاخطاء والانحرافات في حساباتهم الاجتماعية.
إن الملوك والقادة الجبارين أينما دخلوا أفسدوا، وذلك لاستغلال الضعف والعجر الفكري لدى بعض الناس، كما جاء ذلك في القرآن على لسان ملكة سبأ: (قَالَتْ اِنَّ الْمُلُوْكَ اِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ اَهْلِها اَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ)(النمل / 34).
وبالرغم من ان هذا الحديث تفوه به ملك ظالم، إلاّ ان ذكره في القرآن من دون أي نقد من جهة، وصدوره من شخصية ظالمة وخبيرة بما عليه الظّلَمَة من أمثالها من جهة اُخرى دليل على واقعية هذا الحديث الشبيه بالاعتراف.
ولهذا أردت مـلكةُ سبأ أن تختبـر سليمـان هـل هو ملك أو نبـي حقاً؟ فأرسلت اليه هدايا كي تعـرف ردّ فعله تجاهها، وذلك لانها تعرف ان أفـكار الملوك وقلوبهـم رهن الهـدايا والذهب والفضـة والشأن والمقـام، بينما الأنبيـاء لا يهمهم شيءٌ سوى صلاح الاُمم.
* * *
18 ـ حجاب الأصدقاء الضالين
( وَيومَ يَعَضُّ الظّـالِمُ عَلَـى يَدَيْهِ يَقُولُ يـا لَيْتَنِـي اتَّخَـذْتُ مَـعَ الرَّسُـولِ سَبِيـلا * يـا وَيْلَتـى لَيْتَنِـي لَـمْ اَتَّخِـذْ فُلاناً خَلِيـلا * لَقَدْ أَضَلَّنِـي عَـنِ الذِّكْرِ بَعْـدَ اِذْ جائَنِـي وَكـانَ الشَّيْطـانُ لِلإنْسـانِ
خَذُولا)
(الفرقان / 27 ـ 29)
[366]
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
إن هذه الآيات تشرح احدى لقطات يوم القيامة، وهي لحظات تأسف الظالمين وتأثرهم من أعمالهم الى درجة حيث يعضون على أيديه.
إن « يعضّ » من مادة « عضّ » ومعنـاها واضـح، والتعبيـر بـ ( يعضّ ) في العربية وكـذا في الفارسية كناية عن شدة التأسف والانزجار، وقد شوهد أنّ كثيراً من الناس إذا ما واجهوا مصيبة عظيمة ناشئة عن سـوء عمـلهم عضّوا على أيديهم أو أصـابعهم أو أظهر أكفّهم، وكأنهم يريدون عقاب أيديهم لأجل قيامها بهذا العمل.
إلاّ ان المصيبة اذا لم تكن شديدة جداً اكتفوا بعضّ أناملهم كما قال القرآن حاكياً حال الكفار في سورة آل عمران الآية (119): (وَاِذا خَلَوا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ)، أو اكتفوا بعضّ ظهر احدى اليدين، اما ذا كانت المصيبة شديدة جداً فتارة يعضّون أيديهم اليسرى واخرى أيديهم المينى، والذدي جاء في الآية الكريمة هو «يَدَيْه» وهذا يكشف عن ان المصيبة عظيمة للغاية يوم القيامة، وغالباً ما يقترن العضّ بالتفوه بجمل وأقاويل مفهومها التوبيخ للنفس، ويتحد حينها الكلام مع السلوك في ابراز التعصب.
ويقولون عندها: (لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ معَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ اَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ اِذْ جائَنِي) إلاّ ان هذا الخليل ما سمح لهم باليقظة.
وعلى هذا، فهم يعدّون الخليل الضال هو السبب الاساسي لشقاءهم، حيث جعل حجاباً أمام أفكارهم وعقولهم حال دون رؤيتهم لجمال الحق.
وهنا أقوال في المراد من «فلان»:
احتمل البعض انه الشيطان، حيث ينتخبه الانسان ـ أحياناً خليلا، وذلكبقرينة
[367]
قوله في ذيل الآية: (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلإِنْسانِ خَذُولا).
ويقـول البعض: إن المـراد منـه هو نـفس الشخص الذي نـزلت في شـأنه الآية، أي «عقبة» وهو أحد الكفار المعروفين، أَسْلَمَ وارتد عن الاسلام وتخلى عن الرسول لأجل خليله «أبي»، وقتل في معركة بدر، بينما قُتِل أبي في معركة أُحد(1).
لكن الظاهر أن مفهوم الآيـة ـ كما يقـول البعض ـ كـلّي شامل لـجميع الأصدقاء الضالين والموسوسين، وانّ شـأن النزول لا يُخصّصُ الاية ابداً، خصوصاً وان لمفردة «الشيطان» معنى واسعاً يشمل شياطين الجن والانس، كما ان ذكر كلمة «فلان» وبصيغة النكرة قرينة واضحة على اطلاق المفهوم(2).
وقد قيل في تفسير «شركاء المشركين» الذين ذُكروا في الآية (137) من سورة الانعام: (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِير مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكائُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِيْنَهُمْ)، انهم المتولون لمعابد الأصنام، حيث كانوا يغوون الناس ويغرونهم لتضحية أولادهم للاصنام، وبهذا التبس عليهم الحق، واُلقي حجاب على عقولهم وأفكارهم.
وعلى هذا التفسير، فانّ الآية تُعدُّ شاهداً واضحاً على بحثنا أي ان الأصدقاء المضلين يشكلون حجاباً للعقل يمنعه عن المعرفة.
* * *
إيضاحات:
دور الأصدقاء في طريقة التفكير:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير مجمع البيان (ذيل نفس الآية) ويقول البعض: إن «أبي» الانسان الوحيد الذي قتله الرسول بيده طيلة عمره الشريف (تفسير روح البيان الجزء 6 الصفحة 205).
2 – تفسير في ظلال القرآن الجزء 6 الصفحة 156.
[368]
يشاهد في الروايات الاسـلامية تعـابير كثيـرة في هذا المجـال، تكشف عن ان الاصدقاء المنحرفين والمستشارين الضالين يمكنهم سرقة فكر الانسـان وتغيير موازين عقله وإغلاق طريق الحق عليه، ونذكر هنا نماذج من تلك الروايات:
1 ـ نصح الامام علي(عليه السلام) ابنه الحسن يوماً قائلا له:
« يا بُني إيـاك ومصـادقة الأحمـق فانـه يـريد أن ينفعك فيضـرك … وإيـاك ومصادقة الكذاب فـانه كالسراب يُقرّبُ عليـك البعيد ويُبعِد عليك القريب»(1).
2 ـ وقد جاء في عهد الامام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر حول المستشارين:
«ولا تُـدْخلن في مشورتـك بخيـلاً يعدل بـك عـن الفضل وَيعِدك الفقر ولا جباناً يُضعفك عن المور ولا حريصاً يزين لك الشرَه بالجور»(2).
ويستفاد من التعبير الاخير ان المستشارين المنحرفين يمكنهم التأثير في فكر الانسان ويحولون دون الادراك والمعرفة.
3 ـ وقد جاء في حديث آخر لنفس الامام:
«مجالسة الأشرار تُورَثُ سوء الظن بالأخيار»(3).
4 ـ وقد جاء في حديث للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم):
«المرءُ على دين خليله وقرينه»(4).
وبهذا يتضح تأثير الصديق الصالح أو غير الصالح على كيفية المعرفة واسلوب التفكير.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة (الكلمات القصار) الجملة 38.
2 – نهج البلاغة الرسالة 53.
3 – سفينة البحار الجزء 1 الصفحة 168.
4 – اصول الكافي الجزء 2 الصفحة 375 «باب مجالسة أهل المعاصي» الحديث 3.
[369]
19 ـ حجاب الاعلام والمحيط
في البداية نصغي خاشعين للآيات التالية:
1 ـ ( قـالَ فَـاِنّـا قَـدْ فَتَنّـا قَـومَـكَ مِـنْ بَعْـدِكَ فَأضَلَّهُـمُ السّـامِرىُّ … فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَـداً لَـهُ خُوارٌ فَقَـالُـوا هـذا اِلهُـكُمْ وَاِلـهُ مُوسَي فَنَسِيَ) (طه / 85 ـ 88)
2 ـ (فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِي زِيْنَتِهِ قالَ الَّذِيْنَ يُريدُونَ الحَيـاةَ الدُّنْيـا يـا لَيْتَ لَنـا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ اِنّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم)
(القصص / 79)
3 ـ ( فَـلَمّا اَلْقَـوا سَحَرُوا أَعْيُـنَ النّـاسِ وَاسْتَـرْهَبُـوهُمْ وَجـاؤا بِسِـحْر عَـظِيم)
(الاعراف / 116)
4 ـ ( وَقـالَت طـائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الْكِتـابِ آمِنُوا بِالَّذِي اُنْزِلَ عَلَـى الَّذِينَ آمنـوا وَجْه النَّهـارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)
(آل عمران / 72)
5 ـ (أَمْ اَنـا خَيْـرٌ مِنْ هـذا الَّذِىْ هُوَ مَهِـينٌ وَلا يَكـادُ يُبِينُ * فَلَـوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْـهِ أسورَةٌ مِنْ ذَهَب أَوْ جـاءَ مَعَهُ الْمَـلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَـاسْتَخَفَّ قَومَـهُ فَأَطـاعُوهُ اِنَّهُم كـانُوا قَوْاً فـاسِقِينَ)
(الزخرف / 52 ـ 54)
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
[370]
الإعلام المسموم:
إن الآيـة الاولى أشارت الى قصة السامري طالب الشأن والمقام، الـذي استغل غيبة موسى(عليه السلام) اثناء ذهابه الى طور سيناء (للقاء ربه) لمدة اربعين يوماً، فجمع ذهب وحُلي بني اسرائيل وصنع منهما صنماً في صورة عجل! ويظهر انه وضعه باتجاه الريح بحيث يُخرج صوتاً رُغاءَ البقرة عند هبوب الرياح، وقد عبر القرآن عن هذا الصوت بـ «خوار» أي صوت البقرة البطيء.
إنـه انتهـز الفرصة بأُسلوب خاص، حيث قام بعمله هذا بعد مضي خمس وثلاثين يوماً من غيبة موسى، أي عندما أخذت أنوار التبليغ التـوحيدي تتضاءل في قـلوب بني اسرائيل، حيث كان المفـروض اَنْ يَـرجِعَ موسى من طور سيناء بعد ثلاثين يوماً، إلاّ ان الله اخّر ميعاده لامتحان بني اسرائيل فـاتمهن أربعين ويوماً.
يقول القرآن في هذا المجال: (قـالَ فَاِنّـا قَدْ فَتَنّـا قَومَكَ مِنْ بَعْدِكَ فَأضَلَّهُمُ السّـامِريُّ).
وعلى أيّ حال فان انحراف بنـي اسرائيل ( الـذين ينقل ان عددهم بلغ الستمائة ألف) عن طريق التوحيد الخالص الى الشرك والكفر وعبادة الأصنام ليس بالأمر الهين، إن الآيات التي جاءت في هذا المجال في سورة « طه » وغيرها من السور وكذا التواريخ والتفاسير تكشف عن أن السامري كان يستعين بأسلوب خاص من الاعلام والتبليغ لسرقة أفكار الناس وغسل أدمغتهم، بحيث جعل حجاباً على عقولهم، فظنوا (بسبب ذلك الحجاب) ان هذا العجل هو إله موسى؟!
والعجيب هنا أن الأمر بـلغ ببني اسرائيل الى حَدٍّ حيث رددوا ما قاله السامري: «هذا إله موسى»، والتعبير بـ «قالوا» شاهدٌ على هذا.
والتـعبير الأخير دليل واضح على تأثير إعلام السامري الشديد، إنه كان
[371]
يستثمر إعلامه في الجهات التالية:
1 ـ انتهاز فرصة غيبة موسى.
2 ـ تمديد غيبته الى أربعين يوماً.
3 ـ الاستعانة بالذهب والحلي التي كانت ثمينة بالنسبة لبني اسرائيل.
4 ـ استثمار الأرضية المساعدة والنمحرفة مثل طلبهم من موسى جعل صنم إلهاً عندما نجوا من الغرق في النيل، ومرّو بقوم يعبدون الأصنام: (قالُوا يا مُوسى إجْعَلْ لَنـا إلهاً كَمـا لَهُمْ آلِهَةٌ) (الاعراف / 138).
5 ـ مكانته الاجتماعية عند بني اسرائيل واعتمادهم عليه الى حد حيث كانوا يولون له قدسية خاصة ويعدونه ربيب جبرئيل(1)!
6 ـ حب ضعفاء الفكر لأله محسوس، وعدم التفاتهم الى أن الله بعيد عن التجسيم والصفات الجسمانيه، حيث بلغ بهم الأمر أن طلبوا من موسى رؤية الله جهرة كما عكس القرآن ذلك في الآية الخامسة والخمسين من سورة البقرة.
إن هـذه الامور واموراً اخـرى سببت انحراف بنـي اسرائيل عن جادة التوحيد بالكامل، واغوائهم بتبليغ السامري واعلامه وفي النهاية عبادتهم للأصنام.
ولهذا، عندما رجـع مـوسى وعلم بهم، وبيّن القبح الشديد لعملهم هذا، استيقظوا من غفوتهم وصرخوا قائلين: ندمنا! ندمنا! واستعدوا لأجل قبـول توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً كفارة لذنبهم العظيم (البقرة / 54).
وعلى أيّ حـال، فان الآية دليل واضح على حجاب الاعلام المضلل.
* * *
وتحدثت الآية الثانية عن «قارون» الغني والمعروف في بني اسرائيل الذي قام
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير أبو الفتوح الرازي الجزء 7 الصفحة 482، وتفسير روح البيان الجزء 5 الصفحة 414، ودائرة المعارف ـ دهخدا ـ مادة «ساري»، (بالفارسية).
[372]
يوماً باستعراض لثروته أمام بني اسرائيل.
لقد نُقِل في التواريخ قصص كثيرة في هذا المجال، فكتب بعض في هذا المجال: ظهر قارون مع فريق يُعدّ بأربعة آلاف رجل وامرأة من الخدم والحشم والجاريات، فالرجال على خيول أَصيلة، بألبسة حمراء، والجاريات على بغال بيض سروجها من ذهب، والجميع مزينون بالحلي والحلى والذهب والمجوهرات(1).
وقد قدر البعض عدد أفراد قارون بسبعين ألف، وإذا لم نعتبر هذه الارقام واقعية، فان تعبير القرآن: (فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِي زِيْنَتِهِ) يكشف عن عظمة تلك اللقطة، وقد يكون عمله هذا لأجل جعل شوكة في عين موسى(عليه السلام)، أو تثبيتاً لقدرته في بني اسرائيل، أو انه جنون عرض القدرة والثروة الذي يُبتَلى به كثير من الـمتمولين والاغنياء، وعلـى أيّ حال، فان تلك اللـقطات والاعلام المتـزامن معها كان بـدرجة من الـعظمة سـلبت عقـول الكثير من بني اسـرائيل وَأَلْقَتْ بستار على أرواحهم حتى جعلتهم يتمنون اقتناء ثروتـهُ وقـدرته، ويعدونه سعيـداً و«ذو حظ عظيم».
وبعد ما جاء ذلك اليـوم الذي خسف الله الارض بقارون وثروته بسبب جرائمه وأعماله المشينة، وعلم الجميع بما حَلَّ بِهِ استيقظوا من غفلتهم وأبدوا سرورهم من حيث أنهم لم يكونوا قاروناً.
إن تأثير الاعـلام لا ينحصـر فـي ذلك الزمـان فحسب، بـل في كل عصـر وهذا أمرٌ لا يُنـكر، وان كثيراً من جبابرة الماضي والحاضر يستعينون باستعراضات كاستعراض قارون لأجل تخدير أفكار الناس، وتسخيفها، وسحر أعينهم، وقد جَنَوا ثمار مثل هذه الاستعراضات ولا يزالون، وإنَّ العلماء والمفكرين الراسخين هم فقط القادرون على رفع هذه الحجب عن أفكارهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – راجع تفسير الرازي والقرطبي وروح المعاني ذيل الآيات في سورة القصص.
[373]
وأفكار غيرهم، وعلى مشاهدة وجوه الجبابرة على حقيقتها.
* * *
وقد بينت الآية الثـالثة جانبـاً مـن جـوانب مقارعة موسـى ضد السحرة، الذين دعاهم فرعون من جميع أرجاء مصر واغراهم بالكثير من الوعود، والذين يقدر عددم بعشرات الآلاف من السحرة طبقاً لبعض الروايات، وبخمسة عشر ساحراً طبقاً لبعض آخر (يحتمل ان يكون هذا العـدد متعلا بنفس السحرة وأعوانهم وعمالهم، كما ينبغي الالتفات الى ان السحرة كان دراجاً في ذلك العصر بكثرة).
وقد اجتمع لأجل ذلك جمعٌ غفير من الناس عند الضحى في وم كان عندهم عيداً (كما عبّر عنهُ القرآن «يوم الزينة» و«ضحى» في الآية (59) من سورة طه. وقد كشفت القرائن عن ان فرعون كان واثقاً من انتصار السحرة على موسى(عليه السلام)، وذلك لانه كان قد سخر جميع وسائل الاعلام لخدمة هذه القضية.
تقول الآية: (فَلَمّا اَلْقَوا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّـاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤا بِسِحْر عَظِيم).
وينبغ هنا معرفة مفردتي «الاسترهاب» و«السحر» جيداً لفهم الآية.
جاء « السحر » ـ لغـة ـ بمعنيين، الاول هـو الخـدعة، والثـاني هـو الشيء الذي غمضت عوامله وكانت غير مرئية، وقـد أرجع البعض كـلا المعنيين. الى معنى واحد وقالوا: إن حـقيقة السحـر هي قلب الشيء من حقيقته الى شكل آخر(1).
كما قلنا في المجلد الاول من التفسير الأمثل عند تـفسير الآية (102) من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – راجع قاموس اللغة، ومفردات الراغب، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم، وتاج العروس.
[374]
سورة البقرة: ان السحر غالباً ما يعتمد على الخواص الكيمياوية والفيزياوية للمواد التي لم يعرفها الناس إلاّ ان السحرة يعرفونها جيداً وقـد اعتمدوا عليها كلياً، كما انـه جاء في التفاسير حول قصة مقارعة موسى(عليه السلام) للسحرة، اذ يحتمل ان ما جاء به السحرة هو مجموعة من العصي والحبال الجلدية الجوفاء والمليئة بمادة الزئبق الفرّار، وبما ان الحركة والتمدد الشديد من خواصه عند ارتفاع درجة حرارته، فعندما ألقوا هذه العصي والحبال بدأت بالحركة والقفز والتقلص والنبساط بفعل حرارة الشمس أو الحرارة المنبعثة من المكان الذي يحتمل وجود مصدر حرارتي تحته(1).
وقد يستعين السحرة في عـروضهم ـ احياناً ـ بالشعوذة وخفة اليد، فيرى الناسُ أشيـاءً لا واقع لها، وقد شاهد كثير من الناس نماذج من هذه العروض، وقد ينشرون مواد كيميائية خاصة عن طريق العطور وتبخير اعشاب معينة بحيث تؤثر على الحاسة الباصرة وأسماع بل وحتى على اعصاب الحضور لتمثيل صور غير واقعية أمامهم.
كما يحتمل انهم يستعينون بالتنويم المغناطيسي والتلقين بحيث تتمثل صور غير واقعية امام الناس.
بالـطبع هناك قسم آخر من السحـر يحتمل استعانة السحرةُ به وهو تسخير الجن أو بعض الأرواح (وهذه خمسة طريق رئيسية للسحر).
وقد يطلق السحـر على معنـى أوسع من المعاني السابقة، فيقال لمن حسن بيانه « له بيان ساحر » كما جاء في الحديث: إن الفتنة سحر، لانها تفرق بين الاحبّة، إلاَّ أن الذي چاء في الآية هو « سحروا أعين الناس » وهـو التـلاعب بباصرة الحضور بحيث يجعلهم يرون اموراً لا واقع لها، فيرون حية تسعى وإن لم يكن هناك حية أبداً. والشـاهد على هذا الحديث هو الآية (66) من سورة طه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – راجع روح المعاني الجزء 9 الصفحة 22، والفخر الرازي 14 الصفحة 203، وروح البيان الجزء 3 الصفحة 213، والمنار الجزء 9 الصفحة 66، وتفاسير اخرى.
[375]
حيث جاء فيها: ( فَاِذا حِبـالُهُمْ وَعِصِيُّهُـمْ يُخَيَّـلُ اِلَيْـهِ مِـنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعَى)(مع انها لا تسعى ولا تتحرك لكن الزئبق ـ احتمالا ـ هو الذي جعلها تبدو هكذا).
وامام « استرهبوا » فمن مادة « رَهْب » وهو الخوف المتزامن مع التحفظ والاضطراب (كما يقول الراغب في مفرداته) وقد فسر كثير من المفسرين الاسترهاب بالارهاب أي ايجاد الخوف والاضطراب، والتعبير هذا يكشف بوضوح عن استعانتهم بوسائل الاعلام والتلقين اضافة الى سحر (وغالباً ما يستعين السحرة بهذين الأمرين، بل القسم الأعظم من موفقيتهم يرجع اليهما والى حسن القيام بهما).
وقد نقل ان مساحة المحل الذي عُدَّ لهذا الامر كان ميلا في ميل(1)، كما نقل أيضاً انهم أعدوا جبلا من الحبال والعصي التي تبدو وكأنّها أفاعي تسعى(2).
ثم خاطب السحرة النـاس بأقاويل مثل: أيها الناس ابتعـدوا عن السـاحة لكي لا تمسكم الأفاعي بضرر لأنها خطرة ومخيفة! وامثال هذه التعابير التي أُشير اليها في بـعض التفاسير(3)، وقد تأثر بهم الناس كثيراً لأنهم سحروا أعينهم وقلوبهم، وبهذا ألقوا بحجبهم على حواس الناس وعلى عقولهم للحيلولة دون إدراك الحقائق والواقعيات.
* * *
لقد كشفت الآيـة الرابعة عن احدى المؤامرات الاعلامية التي حاكها اليهود ضد الاسلام، والتي كان هدفها تضعيف عقيدة المسلمين بالاسلام، وقصتها: ان فريقاً منهم أسـلموا وآمنوا ظاهراً في النهار وارتدوا عن الاسلام في الليل،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – روح المعاني الجزء 9 الصفحة 22.
2 – المنار، وقد نقل هذا الحديث عن مفسر باسم ابن اسحاق الجزء 9 الصفحة 66.
3 – الفخر الرازي الجزء 14 الصفحة 203.
[376]
وعندما سئلوا عن سبب رجوعهم عن الاسلام قالـوا: إنا لاحظنا صفات محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)من قريب فوجدناها لا تتطابق مع كتبنا الدينية وأحاديث علمائنا فرجعنا عنه.
إن هـذه الجملة الاعلامية سـبب في ارتـداد قـوم من المسلمـين عن الاسلام، إذ قالوا: إذا ارتدّ عن الاسلام أهل الكتاب الذين هم أفهم منّا ويعرفون القراءة والكتابة، فلابدَّ وأن الدين باطل ولا أسس قوية له، وبهذا استطاعوا أن يشوشوا على أفكار البسطاء من الناس ويلقوا بحجاب فتنتهم على عقولهم.
إن مفردة « طائفة » في عبارة « وقالت طائفة » من مـادة « طواف » وتـعنى فريقاً من الناس بشكل حلقة، وكأنهم يطوفون حول موضوع ما، والمراد منـها على ما يقول بعض المفسرين: هو الاثنا عشر يهودياً من يهود خيبر أو المدينة أو نجران، حيث تألموا كثيراً عند تـغير القبلة من بيت المقدس الى الكعبة، فحاكوا هذه المؤامرة(1).
إن التعبير بـ « وجه النهار » إشارة الى بداية النهار لان الوجه أول شيء يواجهه الانسان، وهو أشرف عضو، بالطبع إن الآية حكت المسألة كاقتراح اقترحه البعض وما تكلمت عن تنفيذ هذا الاقتراح، إلاّ أن القرائن أثبتت أنـهم نفذوا مؤامرتهم بعد ما حاكوها، وإلا فيُستبعد ان يذكره القرآن باهتمام بالغ، والآيات اللاحقة تحكي عن هذه الأهمية.
لكننا نعلم على أي حال، انّ خطتهم الاعلامية هذه لم تترك أثراً ملحوظاً في قلوب المؤمنين الطاهرين.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – تفسير الفخر الرازي الجزء 8 الصفحة 85، وروح المعاني الجزء 3 الصفحة 176، وتفسير القرطبي الجزء 2 الصفحة 1354.
[377]
إن الآية الخامسة والخيرة بيّنت كذلك جانباً من جوانب مقارعة موسى(عليه السلام)لفرعون، فعندما اتجهت الانظار الى موسى وكادت القلوب أن تهتدي والأفكار أن تُصحح، قام فرعون بحملة اعلامية شديدة سعياً منه لحرف الناس عن اتجاههم نحو دين موسى، وقد انعكس في هذه الآية جانب من جوانب الاعلام الفرعوني المضلل.

 

شاهد أيضاً

ما يقوله القرآن في آية الكرسي/23- حياة الأرواح – سماحة الشيخ فاضل الصفار