المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
يتعرض الفقهاء في أبحاثهم الفقهية إلى حكم المياه وأقسامها من حيث الطهارة والنجاسة، ويكادون يتفقون على أول مسألة في هذا المجال، وهي العبارة التي صاغها المحقق السيد اليزدي (قده) في (العروة الوثقى) بقوله: (والمطلق أقسام: الجاري، والنابع غير الجاري، والبئر، والمطر، والكر، والقليل، وكل واحد منها مع عدم ملاقاة النجاسة طاهر مطهر من الحدث والخبث).
ورغم أن طهارة الماء من البديهيات، إلا أن الكلام يقع في تحصيل أدلة خاصة من الكتاب والسنة على الطهارة والمطهرية حتى يكون بيد الفقيه (إطلاق) في دليل الطهارة والمطهرية يفيدنا في موارد الشك.
الدليل من الكتاب
هناك آيتان يستدل بهما على (طهورية) الماء:
1- قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} سورة الفرقان/48.
2- قوله تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} سورة الأنفال/11.
وقد ناقش بعض الفقهاء في دلالة الآيتين، حيث أن الموضوع فيهما خصوص ماء المطر بقرينة كلمة (الإنزال) و (التنزيل) وإذا صح ذلك فلا تشملان مطلق المياه.
ويمكن الجواب على ذلك بوجوه:
1- كل من قال بطهورية المطر قال بطهورية جميع أنواع الماء، وهذا ما يسمى بالإجماع المركب، وقد ذكر هذا المبنى الشيخ محمد حسن النجفي في (جواهر الكلام) ج1/71.
2- ليس المراد من (الإنزال) و (التنزيل) و (السماء) المعاني الحسية المادية منها، بل هو إشارة إلى الجانب المعنوي.
وقد قوّى الشهيد الصدر هذا المعنى حيث قال: (يمكن القول بأن معنى الإنزال والسماء أعم لغة من المصداق الحسي، وإنما ينصرف ذهننا إلى خصوص المصداق الحسي بدلاً من المعنوي لشدة أنس ذهننا بالماديات) بحوث في شرح العروة الوثقى 1/22.
ولكنه ناقش في ظهور الآية الأولى في هذا المعنى بعد هذه العبارة.
3- إن قيد الإنزال والتنزيل ليس احترازياً وإنما هو للتوضيح، لأن جميع المياه نزلت من السماء حسب بعض النظريات العلمية.
ويدعم سيدنا الاستاذ الخوئي (قده) هذا المبنى بمجموعة من الآيات التي تدل على نزول المياه بأجمعها من السماء وهي:
* قوله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} سورة الحجر/21.
* قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض} سورة الزمر/21.
* قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهابه لقادرون} سورة المؤمنون/18.
وبهذا نكون قد نفينا اختصاص الحكم بخصوص ماء المطر.
ما هو الطهور؟
هناك أربع احتمالات في المقصود من كلمة (طهور) في الآية الأولى:
1- أنها بمعنى (المطهّر) باعتبار أن كلمة (طهور) موضوعة في اللغة العربية لنفس النسبة التأثيرية التطهيرية، وهي المستفادة من هيئة (فعول).
2- نفس المعنى الأول لكن مع إضافة الآلية، أي أن الماء آلة للتطهير وأداة تستخدم لذلك.
3- أنها صيغة المبالغة، ويعلق سيدنا الاستاذ الخوئي (قده) على ذلك بأن المبالغة غير معقولة فيما نحن فيه، لأن الطهارة أمر اعتباري، والأمور الاعتبارية لا تقبل المبالغة والشدة.
4- أنها بمعنى (طاهر)، فالطهور والطاهر بمعنى واحد، وناقش في ذلك بأنه لو تم لصح إطلاق كلمة (طهور) على كل طاهر فيقال: (ثوب طهور) و (فراش طهور) في حين أنه لا يصح ذلك.
النتيجة
إن الآيتين تدلان على طهارة الماء في نفسه، لأنهما في مقام الامتنان على العباد بتكوين الماء وجعله مزيلاً للأقذار والتلوثات، ومن الأمور البديهية أن لا يحصل الامتنان في إزالة التلوث بالنجس، أو بما ليس بطاهر، لأنه يزيد في قذارة الثياب والبدن وكل ما لامسه، فيستكشف من ذلك طهارة الماء.
أما تأثير الماء في رفع النجاسة الخبيثة وهي النجاسة المادية الحاصلة من اعتبار أمور معينة نجسة في الشريعة، فيستفاد من السنة المطهرة، وبانضمام السنة إلى الكتاب العزيز يتم الاستدلال على الحكم بكون الماء طاهراً في نفسه ومطهراً لغيره.
الأحاديث الدالة على طهارة الماء
ذهب الفقهاء إلى أن الروايات التي يستفاد منها طهارة الماء قد يدّعى تواترها، وهي على أنواع:
1- أحاديث مفادها أن الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر.
2- أحاديث مفادها أن الماء يطهِّر ولا يطهَّر.
3- أحاديث دلت على تطهير الأواني والألبسة وغيرهما من المتنجسات بالماء، حيث تدل على طهارة الماء في حد ذاته، إذ لا يمكن تطهير المتنجس بالنجس.
4- ما ورد من أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع الله تعالى عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء طهوراً.
فإن المراد من الطهورية هنا المطهرية بقرينة صدر الرواية.
5- مجموعة الأحاديث التي أمرت بالغسل اما مطلقاً، أو بخصوص الماء.
ومن الواضح أن غير النجس لا حاجة لغسله، وهذا هو المتعارف في تصرفاتنا حيث لا نغسل الإناء إلا إذا كان نجساً أو قذراً، أما الإناء النظيف فلا نغسله، وكذلك الثوب النظيف لا يحتاج إلى الغسل.
والخلاصة أننا نستفيد من أدلة مطهرية الماء أن كل ماء مطهر، وأنه مطهر لكل جسم قابل للغسل، وأنه مطهر ومزيل للنجاسة العرضية مهما كان القذر المسبب لها.
أما أن كل ماء مطهر: فللتمسك بالإطلاق اللفظي لكلمة الماء في ما دل على طهورية الماء بمعنى مطهريته، والإطلاق اللفظي للأمر بالغسل فيما دل على الأمر بالغسل من النجاسات.
ويؤيد الارتكاز العرفي في إلغاء خصوصيات الموارد التي وردت بشأنها الأحاديث عن الأئمة المعصومين عليهم السلام.
لو وجد الماء على كرة أخرى؟!
مع تجدد المسائل المبتلى بها، وتنوع الوقائع المستجدة، تطرح أمام الفقهاء قضية أن الطهورية الثابتة للمياه بالآيات والروايات، هل تختص بالماء النازل من السماء، حيث يجري بعدئذ في الوديان والأنهر، ويستمر في العيون والقنوات، أو أن الطهورية ثابتة للماء أينما وجد؟!
وقبل أن ننتقل إلى الفضاء الخارجي، وإمكانية البحث عن الماء على الكرات الأخرى، نعالج المسائل التي هي قريبة من واقعنا، فما هو حكم الماء الذي يتم تركيبه من الأوكسجين والهيدروجين في المختبر، هل هو طاهر ومطهر؟!
وماذا عن اللهاث والنفس الحار الذي ينبعث من أربعين راكباً في الباص في يوم قارص البرد، حيث زجاج نوافذ السيارة يتأثر بالبرد من الخارج والحرارة من الداخل، فيتحول البخار إلى ماء فهل هذا طاهر ومطهّر؟!
وإذا رجعنا إلى المناقشة الفقهية لهذه المسألة على مبنى أستاذنا الإمام الخوئي (قده) وجدناه يحكم بالشمول وعدم اختصاص ذلك الماء النازل من السماء، ولتوضيح ذلك يقول:
(فهي – الطهورية- حكم ثبت بالآية لطبيعي المياه، والطبيعة صادقة على ذلك الفرد كما تقدم، وإنما خص الماء النازل من السماء بالذكر لأجل غلبته وكثرة وجوده، ونحن قد ذكرنا في محله أن المطلق لا يختص بالأفراد الغالبة لأجل كثرة وجودها، بل يشتمل كما يشمل الأفراد النادرة، وبالجملة إذا ثبت أنه ماء، وشملته الاطلاقات فلا محالة يكون طهوراً كغيره) التنقيح في شرح العروة الوثقى ج1/27.
إذن فالملاك هو الصدق العرفي على هذا السائل أنه ماء، فإذا صدق وثبت أنه ماء، شملته الاطلاقات الدالة على كون الماء طاهراً في نفسه ومطهراً لغيره.
ونكتة أخرى يضيفها سيدنا الاستاذ (قده) وهي أننا لا نظن فقيهاً، بل ولا متفقهاً يفتي بوجوب التيمم عند انحصار الماء بهذا المتكون في المختبر، أو من تبدل البخار إلى سائل بفعل برودة الجو من الخارج وحرارته من الداخل.
ونفس الملاك ينطبق على الماء الذي يوجد في الكرات الأخرى بعد وصول البشر إليها وحاجتهم إلى استعماله في التطهير من الخبث أو الطهارات من الحدث.
الماء المضاف
هذا كله عن الماء الخالص أو (الماء المطلق) حسب اصطلاح الفقهاء، ويقابله الماء المضاف، وقد جرى البحث بينهم في أنه هل يصح تقسيم الماء إلى مطلق ومضاف كما فعل السيد اليزدي في (العروة الوثقى)؟ ويترتب على صحة التقسيم أن (ماء الرمان) ماء حقيقة، في حين ذهب بعضهم إلى غير ذلك، والوجوه التي خضعت للمناقشة هي:
1- إن لفظ الماء موضوع في اللغة العربية للسائل الأعم من المطلق والمضاف، ويكون حسب اصطلاح الفقهاء موضوعاً للمعنى الجامع بينهما، وعليه يكون إطلاق لفظ الماء على المضاف حقيقياً.
2- إن المطلق معنى حقيقي، والمضاف معنى مجازي، ومن الواضح أن استعمال اللفظ في المعنى المجازي يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي.
3- لفظ الماء وضع حقيقة لكل من المطلق والمضاف، ولكنه من دون إضافة قيد يكون موضوعاً للمطلق، ومع قيد الرمان أو الورد (في ماء الرمان، وماء الورد) يكون موضوعاً للمقيد.
ومن أمثلة الماء المضاف: المعتصر من الأجسام، والممزوج بغيره بحيث يخرجه عن صدق اسم الماء عليه.
فعصير البرتقال، وعصير الرمان، وعصير العنب (وهذه كلها تشترك في أنها معتصرة باليد أو بالآلة من أجسام صلبة ذات نسبة كبيرة من الماء حسب التحليل الكيمياوي) قد تسمى بماء الرمان أو ماء العنب وما شاكل ذلك، أما الممزوج بغيره فهو الماء الممزوج بالسكر، أو الملح، أو الطين بحيث يكون هذا المزج مخرجاً له عن صدق اسم الماء عليه.
ولبيان الضابطة نقول: كل سائل لا يصح استعمال لفظ الماء فيه من دون إضافة كلمة أخرى فهو مضاف بالمصطلح الفقهي، كما أنه يصح سلب الماء عنه، فيقال: ماء الرمان ليس بماء، وماء الورد ليس بماء.
أما طهارة الماء المضاف فتعتمد على عدم ملامستها لأي من النجاسات، وفيما يتعلق بمطهرية الماء المضاف من الحدث (صحة الوضوء بماء الورد أو الماء الممزوج بالطين إلى درجة لا يصح معها إطلاق الماء وحده -من دون إضافة- عليه) فقد اختلفت أقوال فقهاء الإمامية في ذلك على ثلاثة:
القول الأول: التفصيل بين من كان واجداً للماء المطلق، ومن كان فاقداً له، فالأول لا يجوز له رفع الحدث بالماء المضاف، والثاني يجوز له ولا ينتقل فرضه إلى التيمم، وهذا القول لابن عقيل العماني.
القول الثاني: التفصيل بين ماء الورد وغيره، وهو للشيخ الصدوق.
القول الثالث: عدم جواز رفع الحدث بالماء المضاف مطلقاً، لا حال الاختيار ولا حال الانحصار، وهو القول المشهور، خصوصاً بين فقهائنا المعاصرين.