الرئيسية / بحوث اسلامية / أوائل المقالات في المذاهب والمختارات – للشيخ المفيد

أوائل المقالات في المذاهب والمختارات – للشيخ المفيد

أوائل المقالات في المذاهب والمختارات / الصفحات: ٢٢١ – ٢٤٠

وصرح ابن حزيمة في الناسخ والمنسوخ أن أبا حنيفة جوزه ونسبه الآمدي إلى مالك وأصحاب أبي حنيفة، وعلى كل حال، فالحق الحقيق بالاتباع هو عدم نسخ القرآن بغير آيات القرآن، ومن تأمل فيما ذكروه لإثبات ذلك يجدها وجوها ظنية واستحسانية وأقصى ما فيها جواز ذلك عقلا، وأين ذلك من إثبات الوقوع؟ويظهر من كلام المصنف – قدس سره – أن القائل بجواز نسخ القرآن بالسنة لم يكن موجودا في زمانه من الشيعة حيث لم يذكر خلافا عن الشيعة، وإنما نسبه إلى كثير من المتفقهة والمتكلمين، وإنما ظهر هذا القول بينهم في العصر المتأخر حيث وقفوا على أقاويل العامة المذكورين فتبعوهم في ذلك فيكون ملحوقا بالاجماع. ز.

 

القول ١٣٤: في خلق الجنة والنار – ١٢٤ / ٧.

حكى العلامة الحلي – قدس سره – عن أبي علي الجبائي وأبي الحسين البصري وأبي الحسن الأشعري أنهم قالوا بأن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وحكي خلاف ذلك عن أبي هاشم بن الجبائي والقاضي عبد الجبار بن أحمد الرازي، والحق هو الأول ويدل عليه جملة من الآيات الصريحة في ذلك.

وشبهة المنكرين لخلقهما أنهما لو كانتا مخلوقتان لهلكتا لقوله تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه) مع أن القرآن يصرح بأن (أكلها دائم)، وأجاب المثبتون بأن المراد من الهلاك هو استفادة الوجود من الغير وهما هالكان بهذا المعنى، ويظهر من بعض الآثار أن زرارة بن أعين من قدماء رواة الشيعة كان يقول أيضا: إن الجنة والنار لم تخلقا بعد وأنهما ستخلقان، لكن الصحيح من مذهب الإمامية ما أشرنا إليه. ز.

 

القول ١٣٤: واختلفوا في الاعتلال – ١٢٤ / ١٣.

قد سبقت الإشارة إلى اختلاف المتكلمين في كيفية فناء الأجسام وإعدامها وعرفت أن أبا هاشم كان يزعم أن فناء واحدا يكفي لفناء الأجسام بأجمعها.

 

٢٢١
وهيهنا أيضا بنى قوله في هذا على قوله المتقدم قائلا: إن ذلك يؤدي إلى المحال فإن الإجماع قائم على أن الله تعالى لا يفني الجنة والنار بعد خلقهما، مع أن الفناء إذا طري على جزء وبعض من الأجسام لا بد من فناء جميعها، واحتجاج من تقدم على أبي هاشم بأن خلقهما في هذا الوقت عبث لا فائدة فيه غير صحيح فإنه يمكن أن يكون في خلقهما مصلحة خفية وإن لم نطلع عليها. ز. 

القول ١٣٥: ما تضمنه القرآن من ذكر ذلك – ١٢٥ / ٢.

قال تعالى في سورة النور ٢٤: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)، وفي سورة يس ٥: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)، وفي سورة فصلت حم السجدة ٢٠: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) انظر كنز الفوائد – ص ١٤، ١٦ طبع تبريز للعلامة الفقيه المتكلم الشيخ أبي الفتح الكراجكي المتوفى سنة ٤٤٩ هـ تلميذ الشيخ المفيد السعيد – رحمة الله عليه – ولكن يلزم التدبر في ذيل الآية الأخيرة وهو هذا: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ) الآية. فتدبر حقه. چ.

 

القول ١٣٥: قالتا أتينا طائعين – ١٢٥ / ٤.

سورة فصلت ١١، قال العلامة الأكبر والحجة المشتهر السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي – مد ظله – في رسالته النفيسة (فلسفة الميثاق والولاية) ص ٥ – ١٠ طبع صيدا، عند كلامه على جواب إحدى المسائل التي رفعناها إلى سماحته سنة ١٣٦٠ ه: باب التمثيل واسع في كلام العرب ولا سيما في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) ضرورة أنهم لم يشهدوا على أنفسهم بألسنتهم وإنما شهدوا بألسنة أحوالهم، إذ نصبوا أصنامهم حول

٢٢٢
الكعبة فكانوا يطوفون بها عراة ويقولون: لا نطوف عليها في ثياب أصابتنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطا سجدوا لها، فظهر كفرهم بسبب ذلك ظهورا لا يتمكنون من دفعه، فكأنهم شهدوا به على أنفسهم، وبهذا صح المجاز على سبيل التمثيل في هذه الآية، ونحوها قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) إذ لا قول هنا من الله – عز وجل – ولا منهما قطعا، وإنما المراد أنه سبحانه شاء تكوينهما فلم يمتنعا عليه وكانتا في ذلك كالعبد السامع المطيع يتلقى الأمر من مولاه المطاع. وعلى هذا جاء قوله تعالى: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) (١) ضرورة أن القول في هذه الآية ليس على حقيقته، والحقيقة ما اقتبسه الإمام زين العابدين – عليه السلام – من مشكاة هاتين الآيتين، إذ قال في بعض مناجاة ربه عز وجل: (وجرى بقدرتك القضاء ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة) ومما جاء في القرآن الحكيم من المجاز على سبيل التمثيل قوله عز من قائل:(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان) (٢) الآية، لأن عرضها على السماوات والأرض والجبال لم يكن على ظاهره، وكذلك إباؤها وإشفاقها وما هو إلا مجاز على سبيل التمثيل والتصوير تقريبا للأذهان وتعظيما لأمر الأمانة وإكبارا لشأنها، والأمانة هنا هي طاعة الله ورسوله في أوامرهما ونواهيهما كما يدل عليه سياق الآية وصحاح السنة في تفسيرها، ولو أردنا استقصاء ما جاء في الذكر الحكيم والفرقان العظيم من هذه الأمثال، لطال بنا البحث وخرجنا به عن القصد، وحسبك توبيخه – عز وجل – لأهل الغفلة من قوارع القرآن الحكيم المستخفين بأوامره وزواجره إذ يقول وهو أصدق القائلين: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس

 

١ – سورة النحل / ٤.٢ – سورة الأحزاب / ٧٢.

 

٢٢٣
لعلهم يتفكرون) (١).أما ما جاء في السنة من هذا القبيل فكثير إلى الغاية وكثير لا يحصى، وحسبك منه الصحاح الصريحة ببكاء الأرض والسماء على سيد الشهداء وخامس أصحاب الكساء، إذ – بكته الشمس بحمرتها والآفاق بغبرتها، وأظلة العرش بأهوالها وطبقات الأرض بزلزالها، والطير في أجوائها، وحجارة بيت المقدس بدمائها، وقارورة أم سلمة بحصياتها، وتلك الساعة بآياتها، كما صرحت به أحاديث السنة وصحاح الشيعة، وأنت تعلم أن بكاء تلك الأجرام لم يكن على ظاهره، وإنما كان مجازا على سبيل التمثيل، إكبارا لتلك الفجائع، وإنكارا على مرتكبيها، وتمثيلا لها مسجلة في آفاق الخلود، إلى اليوم الموعود.

ومما جاء في السنة على هذا النمط من المجاز على سبيل التمثيل حديث كربلاء والكعبة الذي أشار إليه سيد الأمة وبحر علوم الأئمة في درته النجفية إذ يقول أعلى الله مقامه:

وفي حديث كربلا والكعبة لكربلا بان علو الرتبة (٢)

وكذا حديث أنس عن النبي (ص): ما من مولود [ مؤمن ط ] إلا وله باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه، إلى آخر ما قاله – مد ظله – چ.

 

القول ١٣٧: آتاني الكتاب وجعلني نبيا ١٢٥ / ١٥.

سورة مريم: ٣٠.

 

القول ١٥٢: وهو مذهب الإمامية كلها – ١٣٣ / ١٢.

قال في (المجمع) ج ١ ص ٨٢ طبع صيدا: (وقال الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد

 

١ – سورة الحشر / ٢١.٢ – انظر كتاب (القواعد) ص ٢٤٤ – ٢٤٧ طب إيران ١٣٠٨ هـ للشهيد الأول. چ.

 

٢٢٤
ابن محمد بن النعمان – قدس الله روحه – إنه (= إبليس) كان من الجن ولم يكن من الملائكة – عليهم السلام – قال: وقد جاءت الأخبار بذلك عن أئمة الهدى – عليهم السلام – ومذهب الإمامية، انظر تفصيل احتجاج الطرفين في ص ٨٢ – ٨٣ ج ١ من تفسير المجمع. چ. 

القول ١٥٤: ويخالف فيه باقيهم – ١٣٧ / ١٠.

قال العلامة الكبير والمحقق الشهير معالي الأستاذ السيد هبة الدين الشهرستاني – مد ظله – في مجلة المرشد البغدادية الغراء لسنتها الرابعة ص ٣٢٧ – ٣٢٨ ما نصه:

المشهور لدى المفسرين وجمهور المسلمين هو أنه (ص) أمي أي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب وذلك لحكمة إلهية مخصوصة به وبمحيطه وبالنظر إلى معارضي شريعته من بعده، ويدل على ذلك:

أولا، آيات قرآنية كآية: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) سورة العنكبوت: ٤٨.

وثانيا: اتخاذه (ص) كتابا لوحيه من خاصة صحبه كعلي أمير المؤمنين – عليه السلام – وكتابا لمراسلاته مع الزعماء كمعاوية.

وثالثا: إنه في صلح الحديبية لم يعرف موقع اسمه المكتوب حتى وضع علي – عليه السلام – إصبعه عليه فمحى من ورقة الصلح كلمة رسول الله (١).

ورابعا: الشهرة المستفيضة بعدم معرفته الكتابة حتى كادت تكون ضرورة عند المسلمين، غير أن جماعة من علمائنا ذهبوا إلى أنه (ص) كان لا يعلم الكتابة قبل نبوته

 

١ – انظر (متشابه القرآن) ج ٢ ص ٢٢ طبع طهران، للشيخ المحبوب ابن شهرآشوب فإنه قال فيه:وقد شهر يوم الحديبية أنه كان لا يعرفها لأن سهيل بن عمرو قال: امح هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله (ص) فقال لعلي: امحها يا علي، ثم قال: فضع يدي عليها. چ.

 

٢٢٥
فقط كما تشعر بذلك الآية، وأما بعد نبوته فقد علمها وعلم لغات البشر وحكي هذا الرأي عن شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي في كتاب (المبسوط) (١).وعن محمد بن إدريس الحلي في (السرائر)، ويستدل على هذا الرأي:

أولا: بروايات الصفار في (بصائر الدرجات) التي تنص على معرفة نبينا (ص) كلية اللغات والخطوط بعد نبوته، وتنص أيضا على أن الأمي معناه النسبة إلى أم القرى أي مكة، غير أنني لا أعتمد على هذا الكتاب إذ هو مشترك بين رجلين وفيه روايات عن الغلاة والضعفاء.

وثانيا: بآية: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) الخ، سورة الجمعة ٢. وأجيب عنها أن تلاوة الآية لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين وأكثر العمى والعوام يتعلم آيات القرآن من الصدور لا من السطور ثم يتلوها كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط. وأما معنى قوله تعالى: (يعلمهم الكتاب والحكمة) فليس معناه تعليم النبي لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولا روي أنه (ص) جلس مع أفراد أمته يعلمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعا، وإنما المراد أنه قام (ص) بأمر تعليم الأمة لمهمة الكتابة، فقد تواتر عنه (ص) اتخاذه الأسرى من اليهود وأهل الكتاب يشترط عليهم أن يعلموا أهل مدينته الخط والكتابة، فكان الأسير الكتابي إذا علم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق سراحه النبي مكافأة

 

١ – قال قدس سره في (المبسوط) طبع إيران – كتاب آداب القضاء ما لفظه: (والذي يقتضيه مذهبنا أن الحاكم يجب أن يكون عالما بالكتابة، والنبي – عليه وآله السلام – عندنا كان يحسن الكتابة بعد النبوة وإنها لم يحسنها قبل البعثة) وقال ابن إدريس في باب سماع البينات من كتاب القضاء من (السرائر) – طبع إيران – بما قاله الشيخ في (المبسوط) وجاء بجملاته فيه بعينها ولم يزد شيئا عليها. چ. 

٢٢٦
لعمله (١)، وبهذه الوسيلة البسيطة عمم في أتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الأمية. وكان الأحرى بهؤلاء العلماء أن يستدلوا بما صحت روايته عنه (ص) عند وفاته أنه قال: (آتوني بدواة وبياض لأكتب لكم كتابا لن تضلوا معه) الخ، إلا أن يجاب عنه بأن الوجه في هذا هو الوجه في بقية كتبه إلى الملوك إذ كان (ص) يكتب ولكن بأمر منه لا بمباشرة من يده الشريفة. ولدى هؤلاء يوصف النبي (ص) بكونه أميا نظرا إلى حاله قبل نبوته كما يوصف بأنه مكي بمناسبة حاله قبل هجرته. چ. 

القول ١٥٥: في إحساس الحواس – ١٣٧ / ١٣.

انظر البحار ج ١٤ ص ٤٦٩ طبع كمپاني.

 

القول ١٥٦: في الاجتهاد والقياس – ١٣٩ / ٤.

الكلام في هذا الفصل في مقامين: الأول: الاجتهاد في الحوادث الواقعة بالرأي على المعنى الذي نشير إليه.

الثاني: خصوص القياس الفقهي المتعارف.

أما الأول، فإن الاجتهاد يطلق تارة على استفراغ الوسع في طلب تحصيل الظن بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها المعتبرة من كتاب أو سنة أو ما ثبت اعتباره من الكتاب والسنة، والاجتهاد بهذا المعنى لا ينفيه الشيعة بل هو معتبر عندهم بشرائط مخصوصة يعتبرونها في المجتهد وفي محل الاجتهاد وهي معروفة مذكورة في

 

١ – انظر (العرب) ج ٢١ ص ٢٣ طبع بيروت للأستاذ المؤرخ المعاصر عمر أبي النصر فإنه قال في ذيل عنوان (قتلى قريش) في معركة بدر الكبرى: وراح رسول الله يبحث مسألة الأسرى مع أصحابه…فمن حفر فدائه أرسل إلى بلده، ومنهم من من عليه رسول الله دون ما فداء لفقره وكثرة عياله، وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد. چ.

 

٢٢٧
كتبهم الأصولية ومؤلفاتهم في بحت الاجتهاد خاصة، وما زال عملهم عليه من الصدر الأول وفيهم في كل عصر مجتهدون يرجع إليهم في فتاواهم. ويطلق تارة أخرى على معنى أوسع نطاقا من ذلك من العمل بالأقيسة والاستحسان والمصالح المرسلة وأشباههما، مما يورث غلبة الظن لصاحبه على ما أفتى به كما هو المتداول بين فقهاء المذاهب المعروفة، وهذا المعنى هو الذي ينفيه الشيعة ويبطلون العمل بمقتضاه في الأحكام الشرعية إذ ليس إلا تعويلا على الظن الذي لا دليل على حجيته وجواز العمل بمقتضاه من الشرع، بل ورد النهي عن اتباعه في آيات الكتاب الكريم والسنة المطهرة.ومن أطلق القول بنفي الاجتهاد وبطلانه من الإمامية فإنما نظره إلى هذا المعنى، فإن أهل الرأي قد شهروا أنفسهم بهذه السمة حتى صار كالعلم لهم دون الاجتهاد بالمعنى الأول الذي ذكرنا أنه معتبر عندهم. والعمل بالرأي بهذا النحو كان موجودا من الصدر الأول، فقد نقل عن بعض الصحابة والتابعين قضايا أفتوا فيها بمقتضى ما كانوا يرونه فيها، كما أنه قد أثر عن جماعة من أجلائهم النكير لهذا النوع من الرأي والتحذير منه، مخافة أن يؤدي هذا النوع من الاسترسال في الرأي إلى ترك بعض الأحكام والسنن المروية، إذ لم يكن من الميسور الإحاطة بكل الآثار والسنن لكل أحد فلا يبعد أن يفتي بخلاف شئ منها مما لم يعثر عليه، وبالجملة الاجتهاد الذي ينفيه الشيعة هو هذا المعنى دون المعنى الأول.

وأما المقام الثاني، فالقياس هو إثبات حكم المقيس عليه في المقيس بجامع أو تعدية الحكم المتحد من الأصل إلى الفرع لعلة متحدة بينهما، وعرف بتعاريف أخرى لا يهمنا التعرض إليها وتصحيحها وتزييفها بعد وضوح المقصود من ذلك. وقد استقر مذهب الشيعة على المنع من العمل به وعدم جواز التعويل عليه ويوافقهم في ذلك بعض الفقهاء، وأما سائر فقهاء المذاهب فيأخذون به ويعملون بمقتضاه. والسبب الذي أحوجهم إلى العمل به أنهم يقولون: إن مسائل ونوازل ترد علينا لا بد من تعرف

٢٢٨
كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد (ص ٢٢٩ – ص ٢٤٤)

٢٢٩
العمل بالقياس، الظاهرية من أهل السنة أتباع داود بن علي الأصبهاني حيث قالوا: لا يجوز الحكم في شئ إلا بنص كلام الله تعالى أو نص كلام النبي (ص) أو بما صح عنه من فعل وتقرير أو بإجماع متيقن. وقال داود: إنه لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه من الكتاب والسنة.وقال ابن حزم من أتباعه بعد ذكر آية: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) وآية:

(اليوم أكملت لكم دينكم) الآية: إنهما إبطال للقياس والرأي، لأن أهل القياس والرأي لا يختلفون في عدم جواز استعمالهما ما دام يوجد نص، وقد شهد الله أن النص لم يفرط فيه شيئا، وأن رسول الله (ص) قد بين للناس كل ما نزل إليه، وإن الدين قد كمل بلا حاجة إلى قياس ولا إلى رأي.

ويقول أيضا: كل ما لم ينص عليه فهو شرع لم يأذن به الله تعالى وهذه صفة القياس، فكل ما ليس في القرآن والسنة منصوصا به فمن حكم فيه بشئ من الوجوب والحرمة أو خالف به النص فهو من عند غير الله، ومن حرم أو أحل أو أوجب أو أسقط قياسا على ما حرمه الله أو أحله أو أوجبه أو أسقطه فقد تعدى حدود الله، ومن تعدى حدود الله فقد ظلم نفسه.

ويقول في كلام آخر: إنه لم يصح قط من أحد من الصحابة القول بالقياس وقد كان من بعض الصحابة نزعات إلى القياس أبطلها رسول الله (ص) انتهى. وبالجملة إنهم يوافقون الشيعة في بطلان التمسك بالقياس إلا أنهم يقتصرون على ظواهر الكتاب والسنة ويحاولون إدخال أحكام الحوادث المتجددة تحت نصوص يشملها ويحتملها من القرآن أو الثابت من الحديث النبوي أو الإجماع كما عرفت. ز

القول ١٥٦: والآثار الواضحة عنهم – صلوات الله عليهم – ١٣٩ / ٧.

الأخبار الواردة في هذا الباب المروية عن الأئمة الطاهرين – سلام الله عليهم – كثيرة

٢٣٠
رواها المحدثون في كتبهم ونحن نقتصر منها ببعض الأحاديث ونختم بها هذه الكلمات القليلة التي علقناها على هذا الكتاب.فقد روي في كتاب (اختصار كتاب الاختصاص) عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد البرقي بسنده، عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن الأول (= الكاظم عليه السلام) قال: قلت، أكل شئ في كتاب الله وسنته أم تقولون فيه؟ فقال:

بل كل شئ في كتاب الله وسنته.

وعنه، عن محمد بن خالد البرقي، عن صفوان بن يحيى، عن سعيد بن عبد الله الأعرج قال: قلت لأبي عبد الله – علي السلام -: إن من عندنا ممن يتفقه، يقولون: يرد علينا ما لا نعرفه في الكتاب والسنة فنقول فيه برأينا. فقال: كذبوا، ليس شئ إلا وقد جاء في الكتاب وجاء فيه سنة.

وعن الحسن بن فضال، عن أبي المغراء، عن عبد صالح (= الكاظم عليه السلام) قال: سألته فقلت: إن أناسا من أصحابنا قد لقوا أباك وجدك وسمعوا منهما الحديث، فربما كان الشئ يبتلى به بعض أصحابنا وليس في ذلك عندهم شئ، وعندهم ما يشبهه يسعهم أن يأخذوا بالقياس؟ فقال: لا، إنما هلك من كان قبلنا بالقياس. فقلت له: لم تقول ذلك؟ فقال: لأنه ليس من شئ إلا وجاء في الكتاب والسنة.

السندي بن محمد البزاز، عن صفوان بن يحيى عن محمد بن حكيم، عن أبي الحسن الأول – عليه السلام – قال: قلت: تفقهنا بكم في الدين وروينا عنكم الحديث وربما ورد علينا رجل قد ابتلي بالشئ الصغير الذي ليس عندنا فيه شئ بعينه وعندنا ما هو مثله وشبهه، أفنفتيه بما يشبهه؟ فقال: لا، وما لكم في ذلك القياس نفتيه هلك من هلك.

فقلت: أتى رسول الله الناس بما استغنوا به في عهده؟ قال: وبما يكتفون به من بعده إلى يوم القيامة. فقلت: فضاع منه شئ؟ فقال: لا، هو عند أهله. ز.

 

٢٣١

(التعريف بكتاب أوائل المقالات)

 

بقلم العلامة الزنجاني (١) – رحمه الله –

بسم الله الرحمن الرحيم

العلم نور وضياء، والعلماء هم مصابيح ذلك النور وزجاجات ذلك الضياء، التي توقد من شجرة مباركة هي روح العالم الذي تتحمله فيضيئه ويستضاء به غيره (٢).

فهم أنوار الهداية وأعلام الرشد وينابيع الحكمة وقوام الأمة وأدلاء الخلق إلى الحق وقادتهم إلى نهج الصواب والصدق، تحيى بهم قلوب أهل الإيمان وترغم أنوف أهل

 

(١) اقرأ ترجمته الشريفة في كتاب (شهداء الفضيلة – ص ٢٥١ – ٢٥٢ ط النجف) للعلامة الكبير الشيخ عبد الحسين الأميني التبريزي مد ظله نزيل النجف الأشرف، وفي كتاب (علما. معاصر – ص ٢٢٤ – ٢٢٨ ط طهران) تأليف المرحوم الحاج الملا علي الواعظ الخياباني التبريزي المتوفى يوم الأحد ١٤ صفر الخير سنة ١٣٦٧ هـ. چرندابي(٢) توقد: أي تشتعل. وضمير (هي) راجع إلى شجرة مباركة. روح العالم (بكسر اللام): نفسه، يذكر ويؤنث. تتحمله: أي تتحمل العلم. فيضيئه: أي فيضئ العالم. وهذه الجملات الجميلة مقتبسة من الآية الجليلة في سورة النور (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة) الآية. چرندابي

 

٢٣٢
الزيغ والالحاد، مثلهم في الأرض كمثل النجوم التي في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ويكفي في تعظيم شأنهم والتنويه بمكانتهم ومقامهم ما ورد في حقهم من محكم آيات الكتاب الحكيم ومستفيض السنة الكريمة ومأثور المروي عن حجج الله المكرمين سلام الله عليهم أجمعين، ومرتبة العلم هي المرتبة الثانية من مراتب الكمال البشري التالية لمرتبة النبوة التي هي اختصاص إلهي واصطفاء رباني يخص بها من يشاء من عباده المكرمين بعد أن يهيئ نفسه بالتأديب الإلهي لنيل ذلك المقام الرفيع، فيجعله مهبط وحيه ومبلغ رسالاته ويجعله أسوة لخلقه في الهداية إلى الصراط المستقيم، وللعلماء العاملين الذين جمعوا بين الفضيلتين واحتووا على درك تلك السعادتين – وقليل ما هم – مزية عظيمة وميزة ظاهرة على من سواهم بما بذلوا أنفسهم في سبيل الله وجاهدوا في مرضاته حق جهاده، فهم حفظة أحكام الدين ونواميسه وحراس ثغور الشرع وحدوده وألسنه الناطقة وسيوفه القاطعة، ينفون من الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.ومن هؤلاء الأفذاذ الذين ازدهرت بهم علوم الشيعة الإمامية وتزينت بوجودهم سماء معارفها السامية حوالي منتصف القرن الرابع الهجري وأوائل القرن الذي بعده، هو الشيخ الجليل الأعظم والرئيس المقدم الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان البغدادي العكبري المشتهر بالمفيد قدس الله روحه الشريفة، فقد كانت حياته حياة علم وعمل وجد وجهد واستفادة وإفادة حتى اجتمعت فيه خلال الفضل والكمال، تلمذ على العشرات من رجال العلم وحملة الآثار في عصره حتى صار أوثق أهل زمانه بالحديث وأعرفهم بالفقه والكلام والخبرة بالرجال والأخبار والسير وأشعار العرب وغير ذلك، وكان من الناحية العملية كثير الصلاة والصوم، كثير الصدقات، عظيم الخشوع، وكانت حياته العلمية مستغرقة في أغلب الأحيان في ترويج المذهب والدفاع والجدال

٢٣٣
مع المخالفين على اختلاف فرقهم من معتزلة ومرجئة وأشعرية ومحكمة (١) ومع بعض الفرق المنتحلة للتشيع كالزيدية والواقفة وغيرهم كما يشهد به أخبار مجالسه المحفوظة في فنون الكلام. 

 

(١) وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين – عليه السلام – عند التحكيم وكان شعارهم: لا حكم إلا الله، ولذلك سماهم الناس بالخوارج والمحكمة.قال الأمير العلامة أبو سعيد نشوان بن سعيد الحميري اليمني المتوفى سنة ٥٧٣ هـ في كتاب (الحور العين – ص ٢٠١ ط مصر ١٩٤٨ م): ومن أسمائهم (يعني الخوارج) المحكمة، سموا بذلك لإنكارهم التحكيم في صفين، وقالوا لا حكم إلا لله. ومن أسمائهم المارقة وهم لا يرضون بهذا الاسم ويرضون بسائر الأسماء، وكان منهم عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال عمران بن حطان الخارجي الشاعر من بني سدوس، بمدح عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله:

يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
أكرم بقوم بطون الطير قبرهم لم يخلطوا دينهم بغيا وعدوانا

فبلغت الأبيات القاضي أبا الطيب الطبري فقال:

يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليهدم من ذي العرش بنيانا
إني لأبرأ مما أنت قائله عن ابن ملجم الملعون بهتانا
إني لأذكره يوما فألعنه وألعن الدهر عمران بن حطانا
عليك ثم عليه الدهر متصلا لعائن الله إسرارا وإعلانا
فأنتم من كلاب النار جاء به نص الشريعة برهانا وتبيانا

ومن أسماء الخوارج الحرورية والشراة سموا بهما لنزولهم بحروراء – اسم قرية تمد وتقصر – ولأنهم يقولون إنهم شروا أنفسهم من الله بالجهاد. چرندابي.

 

٢٣٤
وكانت مدينة بغداد عاصمة المملكة الإسلامية حينذاك مملؤة بكثير ممن ينتحل هذه المذاهب وبكثير من النظار والمتكلمين منهم، وكانت مجالس النظر وأبهاء البحث والجدال في المذهب بينهم قائمة وسوقها نافقة، وكثيرا ما كانت تنعقد تلك المجالس بمحضر من الخلفاء والملوك وسائر أرباب النفوذ، يحضرها النظار ويتكلمون في المسائل الخلافية بينهم وفي الآراء المذهبية وسائر مسائل الأصول والفروع على ما هو معلوم من مراجعة السير والآثار، فكان كلما حضر في أمثال هذه المجالس ويقتضي المقام الكلام في المسائل المذهبية يناظرهم ويجادلهم ويرد عليهم شبهاتهم ويجيب عما يوردونه على الشيعة وعلى آرائهم المذهبية ويفحمهم بما أوتي من فهم ثاقب ونظر دقيق وقوة جنان وطلاقة لسان وحسن بيان.ولم يكن دفاعه ونضاله عن مذهب الشيعة الإمامية مقصورة على تلك المناظرات اللسانية فقط بل كان يرد عليهم وينقض شبههم وحججهم بما يكتبه ويمليه من المؤلفات والكتب في النقض والرد على أهم رجالهم ومتكلميهم ومناظريهم كما يشهد به ملاحظة أسامي مؤلفاته المحفوظة في كتب الرجال والتراجم وفهارس المصنفات.

ومما يوجب الأسف ضياع غالب تلك المؤلفات والرسائل التي ضاعت نسخها وذهبت فيما ذهب من كنوز العلم والآثار ولم يبق منها إلا جزء قليل من رسائله ومصنفاته التي صنفها في هذه الأغراض، ومعظم الباقي منها أيضا لم يرزق حظا من الانتشار واطلاع أهله عليه، ونسخها القليلة متفرقة في زوايا المكاتب وبطون المجاميع لا يطلع عليها إلا قليل من الباحثين، ومن جملتها هذا الكتاب الموسوم ب (أوائل المقالات) الذي نحن في صدد الإشارة إلى وصفه بمناسبة ما أظهره من الرغبة في نشر ذلك الأثر الجليل جناب العالم الفاضل والمحدث البارع الكامل علم الأعلام ونادرة الأيام (الحاج الشيخ عباس قلي) المحدث التبريزي الچرندابي أدام الله له التوفيق

٢٣٥
والتسديد، فبادرت إلى إجابة مسؤوله وتصحيح نسخة الكتاب بقدر الوسع والامكان مع تعليق بعض حواش مختصرة على بعض مطالبها إيضاحا للمراد، ورأيت من اللازم أيضا وصف هذا الكتاب ومحتوياته إجمالا بعد ذكر مختصر من تاريخ علم الأديان وأهمية موضوعه في هذا العمر مع الإشارة إلى وجيز من ترجمة حياة مصنفه الجليل قدس الله روحه ومن الله أستمد المعونة والتوفيق إنه ولي الهداية والمرشد إلى الصواب. 

علم الأديان والمذاهب

إن تتبع تاريخ الأديان وآراء الملل وعقائدها ونحلها من المواضيع الهامة في تاريخ حياة المجتمع البشري، فإنه يظهر من خلال الاطلاع على تلك الآراء والعقائد درجة الرقي العقلي لتلك الأمم الذين اعتنقوها وشخصيات مؤسسيها، فالبحث عن ذلك بمنزلة البحث عن تاريخ الفكر البشري وتطوراته المختلفة في مختلف العصور التي مرت عليه وحصل فيها من الرقي والتكامل العقلي ما نشاهده حالا.

ومن جهة هذه الأهمية صار النظر فيه شاغلا لأفكار العلماء والعقلاء من كل أمة من أقدم الأزمان، فنجد البحث عن ذلك بين قدماء فلاسفة اليونان وغيرهم من الملل المتنوعة السابقة على العصر الاسلامي، كما نجد اهتمام المسلمين وعنايتهم بنوع خاص على هذه المباحث الهامة في إبان التمدن الاسلامي العظيم، ونجد أيضا الجهود الخاصة التي يبذلها علماء الغرب والباحثون منهم عن الشرق وعلومه وتمدنه وآثاره ودياناته وما يبذلونه في سبيل ذلك على اختلاف الدواعي والأغراض منهم في ذلك العصر حتى صار النظر في ذلك أساسا لفن خاص في عرفهم هو علم الأديان وفلسفة المذاهب.

ولا يسعنا البسط في هذا المقام في تاريخ هذا العلم وما ألفه العلماء فيه من قديم وحديث من الكتب والمصنفات وما لهذه المباحث من الأهمية في نظر هؤلاء الباحثين

٢٣٦
وإنما نكتفي بالإشارة إجمالا إلى شئ من تاريخ هذا العلم عند المسلمين تمهيدا لما نحن في صدد البحث عنه.يرشدنا النظر في تاريخ الصدر الأول والقرون الإسلامية الأولى إلى شئ ما من علل اهتمام المسلمين بهذه المباحث، حيث إن الخلافات الدينية والمذهبية الواقعة بينهم وظهور الفرق الإسلامية الكبرى على أثر تلك المخالفات من شيعة ومرجئة ومعتزلة ومحكمة وغيرهم، والفتن الناشئة بينهم من جراء ذلك وتصدي كل فرقة لتأييد عقائدها وآرائها والرد على من يخالفه على ما تكفل ببيانها كتب السير والآثار والمؤلفات الكلامية تفصيلا، نبهت الأفكار إلى لزوم ضبط هذه الأقاويل والآراء وتقييدها في ضمن مؤلفات خاصة على اختلاف في أغراض التأليف فيجد الناظر نواة البحث في ذلك في كلمات أمثال الحسن البصري وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وغيرهم من علية رجال المعتزلة ونوابغ مفكريها ولكن البحث الفني الذي يمكن أن يعد بحثا حقيقيا متعلقا بهذا الفن لم ينشأ إلا في صدر الدولة العباسية، نجد الحكاية عن أبي محمد هشام بن الحكم المتكلم الشيعي الشهير (١) أنه

 

(١) قال أبو العباس النجاشي المتوفى سنة ٤٥٠ هـ – في فهرسته – ص ٣٠٤ ط بمبئ: (هشام بن الحكم أبو محمد مولى كندة وكان ينزل بني شيبان بالكوفة انتقل إلى بغداد سنة تسع وتسعين ومائة ويقال إن في هذه السنة مات). وقال العلامة الفقيه الحاج الشيخ عبد الله المامقاني (المتوفى سنة ١٣٥١ هـ) بالنجف الأشرف، في رجاله الكبير (تنقيح المقال – ص ٢٩٤ ج ٣ ط النجف): هذا الرجل ممن اتفق الأصحاب على وثاقته وجلالته وعظم قدره ورفعة منزلته عند الأئمة – عليهم السلام – ولكن طعن فيه العامة وورد في الأخبار ذم له من جهة القول بالتجسيم وأخذ الأصحاب في الذب عنه تنزيها لساحته عن ذلك ونقل عن خط المجلسي – ره – أنه قال: قال السيد المرتضى – ره – ناقلا عن شيخه المفيد – ره -: هشام بن الحكم من أكبر أصحاب أبي عبد الله – عليه السلام – وكان تقيا وروى حديثا كثيرا وصحب أبا عبد الله – عليه السلام – وبعده أبا الحسن موسى – عليه السلام – وكان يكني أبا محمد وأبا الحكم الخ. چرندابي 

٢٣٧
قال: إنه لما كان أيام المهدي (١٥٨، ١٦٩ هـ) شدد على أصحاب الأهواء وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفا صنفا ثم قرأ الكتاب على الناس، على باب الذهب (بمدينة بغداد) ومرة أخرى على باب وضاح (رجال الكشي – ص ١٧٢ بمبئ) فيكون هذا الكتاب من أقدم ما وصلنا خبره من المصنف في هذا الفن ثم تتابعت التآليف فيه مع التفاوت في أساليب البحث بحسب تنوع المقاصد والأغراض من بين مؤلف في الآراء والديانات عامة، ومقتصر لآراء الاسلاميين أو لفرق مخصوصة منهم خاصة ومن مكتف على النقل المجرد للآراء، أو منتصر مع ذلك لبعض الأقاويل، أو راد على مخالفيه ومن مرتب للبحث عنها على المواضيع الخلافية، أو على خصوص الفرق والمذاهب وأصحابها إلى غير ذلك من مختلف الأساليب التي اتخذوها والطرق التي سلكوها في كتبهم ومؤلفاتهم.ولأهمية الموضوع تناول البحث فيه كبار من رجال الفريقين وعلماء الاسلام أمثال أبي القاسم الكعبي وعباد بن سليمان الصيمري وأبي الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وابن فورك والبغدادي وابن حزم الظاهري والشهرستاني (١) وغيرهم من رجال الجمهور وصنف فيه أبو محمد النوبختي وأبو الحسن المسعودي والحاكم أبو عبد الله النيسابوري ومن سواهم من الشيعة ممن يتعذر استقصاء أسمائهم وإحصاء مؤلفاتهم في المقام.

 

 

(١) قال المولى عصام الدين أحمد المعروف بطاشكبري زاده (المتوفى سنة ٩٦٨ هـ) في تأليفه في موضوعات العلوم (مفتاح السعادة – ص ٢٦٤ ج ١ ط الهند): وممن أورد فرق المذاهب في العالم كلها محمد الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل) وكان إماما مبرزا فقيها متكلما تفقه على أحمد الخوافي وبرع في الفقه وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري وتفرد فيه وصنف كتاب (نهاية الإقدام في علم الكلام ط ليدن ١٩٣٤ م) وكتاب (الملل والنحل ط الهند ولندن ومصر وإيران) وكانت ولادته سنة سبع وسبعين أو تسع وسبعين وأربعمائة بشهرستان وتوفي بها أيضا في أواخر شعبان سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة. وشهرستان مدينة في خراسان وذكر في أول، (نهاية الإقدام) المذكور بيتين ولم يذكر أن هذين البيتين لمن:

لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم

قلت: وجدت في بعض المجاميع أن البيتين اللذين ذكرهما الشهرستاني في نهاية الإقدام لأبي علي بن سينا (*) ا هـ ملخصا.

(*) وهو الشيخ أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الفيلسوف المعروف الشهير بالشيخ الرئيس، توفي سنة ٤٢٧ أو ٤٢٨ هـ بهمدان من بلاد إيران، وذكره محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل – في هامش الفصل لابن حزم الظاهري – ص ١٨ ج ٤ ط مصر ١٣٤٧ هـ) بعد أن سرد أسامي عدة من فلاسفة الاسلام وقال: (وعلامة القوم أبو علي بن سينا وكانت طريقته أدق ونظره في الحقائق أغوص وكل الصيد في جوف الفرا). ويجدر بالذكر أن العلامة الإمام السيد محسن الأمين قد نسبه إلى التشيع في تأليفه المنيف (أعيان الشيعة – ص ٢٩٧ – ٢٩٨ ج ٢٦ ط دمشق) فراجعه وكن من الشاكرين. وقال أيضا في أعيان الشيعة – ٤٠٩ ق ١ ج ١ ط ٢: (ومن يسمى بالمعلم من الحكماء ثلاثة أحدهم من اليونان والاثنان من الشيعة، فالمعلم الأول أرسطو وهو يوناني والمعلم الثاني الرئيس ابن سينا شيعي والثالث أبو نصر الفارابي شيعي). والحال أن المشهور بالمعلم الثاني هو أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي الحكيم التركي، والملقب بالمعلم الثالث هو أبو علي أحمد مسكويه الفيلسوف الشيعي الشهير. انظر (الأعيان – ص ١٣٩ ج ١٠).

چرندابي

 

٢٣٨
وقد كانت الأمصار الإسلامية وحواضرها الكبرى ميدانا لمخاصمات الفرق المختلفة ومجادلاتهم كما أومأنا إليه وكان عصر المصنف – قده – من العصور التي كانت المناظرات المذهبية بين الشيعة ومخالفيها على شدتها، وكان غالب مخالفي الإمامية يرمونهم بأقاويل فاسدة وينسبون إليهم آراء زائغة ليست في مذهب الإمامية قصدا للتشنيع والتعيير عليهم من القول بالجبر والتشبيه والتجسيم وغير ذلك مما يجده المراجع لمواضيعه. 

٢٣٩
فكانت هذه الأسباب ونظائرها علة لتصدي المصنف – قده – لتأليف هذا الكتاب ولغيره من مؤلفاته وإظهار الواقع والصحيح من مذهب الشيعة الإمامية وخلاصة آرائها ومعتقداتها في الأصول الإسلامية ومختلف المسائل الكلامية الدائرة بين النظار والمتكلمين، فبين فيه آراءهم الدينية ومعتقداتهم المذهبية الموافقة لأصول الكتاب والسنة والآثار المروية عن أئمتهم الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين وبين من يوافقهم فيها من سائر الفرق الإسلامية من معتزلة وغير معتزلة، ثم ما يخالف فيه الإمامية سائر الفرق في بعض الآراء والأقوال مبينا ذلك بأوضح بيان ومرتبا إياه على أحسن ترتيب وأبدع أسلوب حول المواضيع الدائرة بين المتكلمين وأرباب النظر وحذاق أهل الجدل.فهو من هذه الجهة من أحسن الكتب المؤلفة في بابه بل من أول ما ألف في هذا النمط الخاص من بيان الفرق بين أقاويل أهل الشيعة وأقاويل أهل الاعتزال على ما يجده الناظر مبسوطا في تضاعيف أبواب الكتاب، ولم يسبقه في ذلك فيما أعلم إلا المؤرخ الشيعي الشهير أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (١) صاحب التآليف الممتعة التاريخية وغيرها فإنه يذكر في كتابه المتداول المعروف (مروج الذهب – ص ١٣٧ ج ٢ ط مصر ١٣٥٣ هـ) عند تعرضه لذكر أصول المعتزلة أن له كتابا مترجما بكتاب الإبانة ذكر فيه الفرق بين المعتزلة وأهل الإمامة وما بان به كل فريق منهم عن الآخر.

 

 

(١) قال الشيخ المحدث الجليل عباس بن محمد رضا القمي (المتوفى سنة ١٣٥٩ هـ بالنجف) في كتابه النفيس (الكنى والألقاب – ص ١٥٣ ج ٣ ط صيدا): (قال العلامة المجلسي في مقدمة البحار (ص ١٤ ج ١ ط أمين الضرب) والمسعودي عده جش (يعني النجاشي) في فهرسته (ص ١٧٨ ط بمبئ) من رواة الشيعة وقال: له كتب منها كتاب إثبات الوصية لعلي بن أبي طالب – عليه السلام – وكتاب مروج الذهب مات سنة ٣٣٣). وقيل إنه بقي إلى سنة ٣٤٥. چرندابي

https://t.me/+uwGXVnZtxHtlNzJk

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...