الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ٢١ – ٤٠
كلا “ليس هذا من المدّ والصاع والوسق في شيء، لأنّ كل مدّ أو قفيز أُحدث بالمدينة وبالكوفة قد عُرف، كما عُرف بالمدينة مُـدّ هشام الذي أُحـدِث، والمدّ الذي ذكره مالك في مُـوطّئه: أن الصاع هو مدّ وثلث بالمدّ الآخر، وكمُـدّ أهل الكوفة الحجّاجي، وكصاع عمر بن الخطّاب. ولا حرج في إحداث الأمير أو غيره مدّاً أو صاعاً لبعض حاجته، وبقي مُدُّ النبيّ وصاعه ووسقه منقولاً إليه نقل الكافّة إليه”(١)!
|
فكيف يختلفون في الأذان إذاً، فيذهب بعضهم إلى أنّه شُرّع في السماء، ويقول الآخر إنّه شُرّع بعد رؤيا رآها صحابيٌّ أو عدد من الصحابة؟
وهل يصحّ تشريع العبادة بمنام يراه أحد الناس، أم أنّ تشريعها يجب أن يكون بوحي من الله؟
وكيف يسوغ تشريع الأذان أستناداً إلى رؤيا رآها عبدالله بن زيد بن عبدربه في منامه، أو ركوناً إلى اقتراح الصحابة(٢)، ويرجح هذا الفهم وهذه الرؤية على أن يكون تشريع الأذان من الحكيم العليم؟
ألا تحمل هذه الرؤية نَيْلاً من قدسية الأمور العبادية الإلهيّة، وتقلل من
ثمّ ما هي خاتمة الأذان، هل هي “الله أكبر” أو “لا إله إلاَّ الله”؟
وهل أن الأذان بيان لأصول العقيدة وكلّيّات الإسلام من: التوحيد، والنبوة و…، أم أنّه مجرّد إعلام لوقت الصلاة خاصّة؟
ولماذا الاختلاف في أمر بديهىّ وإعلامىّ كهذا؟
تُرى، هل نشأ هذا الخلاف في عصر الصحابة الذين يقال عن قرنهم إنّه خير القرون، أو حدث في عهد التابعين وتابعي التابعين ومَن تَلاهُم؟ وهل ثمة ملابسات لهذه الأمور في الصدر الأوّل؟ أم أنّها جاءت في العصور اللاحقة؟!
لقد نقل الصنعاني كلام بعض المتأخّرين ـ وهو يسعى لرفع الخلاف في أَلفاظ الأذان ـ بقوله:
“هذه المسألة من غرائب الواقعات يقلّ نظيرها في الشريعة، بل وفي العبادات ; وذلك أنّ هذه الألفاظ في الأذان والإقامة قليلة محصورة معيّنة يُصاح بها في كلّ يوم وليلة خمس مرّات في أعلى مكان، وقد أُمر كلّ سامع أن يقول كما يقول المؤذّن، وهم خير القرون، في غرّة الإسلام، شديدو المحافظة على الفضائل، ومع هذا كلّه لم يذكر خوض الصحابة ولا التابعين واختلافهم فيها، ثمّ جاء الخلاف الشديد من المتأخّرين، ثمّ كلّ من المتفرّقين أدلى بشيء صالح في الجملة وإن تَفاوَت”(١).
|
الأذان لغة واصطلاحاً
من المفيد قبل البدء في تفاصيل هذه الدراسة أن نتعرّف على المعنى اللغويّ والمفهوم الاصطلاحي للأذان، وبيان تاريخ تشريعه وما قيل في الملابسات الدائرة حوله.
الأذان في اللغة، هو: مطلق الإعلام.
وفي الشرع: الإعلام والنداء للفريضة الواجبة ـ الصلاة ـ بفصول معهودة في أوقات مخصوصة، قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواًوَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} (٢).
وقال جلّ جلاله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (٣).
وقال عزَّ مِن قائل: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلاِْيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ
٣- الجمعة: ٩.
منبهين القارئ الكريم على أن الأذان وإن كان إعلاماً للفريضة الواجبة، إلاّ أنّه يحمل في طيّاته جوانب أُخرى وفوائد كثيرة للمرء المسلم، سنذكر بعضاً منها، ممّا يؤكد لنا أنَّ الأذان ليس إعلاماً محضاً للصلاة، بل هو فصول لها أكثر من واقع في الحياة الإسلاميّة، تَجمَع تحت ألفاظها معانيَ الإسلام وأصولَه وعقيدته.
تاريخ الأذان
هناك أقوال متعدِّدة ومتفاوتة في تاريخ تشريع الأذان من حيث الزمان والمكان:
أحدها: تشريعه في الإسراء والمعراج، حيث أذَّن جبرئيل وأقام، ثمّ صلَّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالأنبياء(٤).
ثانيها: تشريعه بمكّة قبل الهجرة(٥).
٣- التوبة: ٣.
٤- مجمع الزوائـد ١: ٣٢٨، الأوسط للطبراني ١٠: ١١٤ ح ٩٢٤٣، نصب الراية ١: ٢٦٠، السيرة الحلبية ٢: ٩٣.
٥- قال ابن عابدين في حاشية ردّ المحتار ١: ٤١٣: في حاشية الشبراملسي على شرح المنهاج للرملي عن شرح البخاري لابن حجر إنّه وردت أحاديث تدلّ على أنّ الأذان شرّع بمكة قبل الهجرة: منها للطبراني أنّه لما أُسري بالنبىّ(صلى الله عليه وآله) اُوحي إليه الأذان فنزل به فعلّمه بلالاً، وللدارقطني في الإفراد من حديث أنس أنّ جبرئيل أمر النبيّ(صلى الله عليه وآله) بالأذان حين فُرضـت الصلاة… الخ. وانظر فتح الباري ٢: ٩٤ كذلك وشرح الزرقاني ١: ١٣٦.
خامسها: أن جبرئيل أوَّل مَن أذَّن به في السماء(٣)، لكنَّ تشريعه في الأرض جاء بعد دخول رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة.
٣- وسائل الشيعة ٥: ٤٣٩ ح ٧٠٢٨ عن عيون أخبار الرضا(عليه السلام) ٢: ٢٣٨.
بدء الأذان عند أهل السنّة
والجماعة
هناك نقولات وأقوال مختلفة في بدء الأذان وكيفيّته، مذكورة في الصحاح والسنن، المشهور منها ـ الذي قد استقرّ عليه رأيهم ـ أنَّه قد شُرِّع في المدينة المنوّرة في السنة الأُولى من الهجرة المباركة، على أثر منام رآه بعض الصحابة، وإليك أهمّ تلك الأقوال:
الأوّل:
تشريعه باقتراح من الصحابة، وخصوصاً عمر بن الخطّاب:
أخرج البخاريّ ومسلم، والترمذي، والنسائي، وغيرهم ـ والنصّ للأوّل ـ عن عبدالله بن عمر، أنّه قال: كان المسلمون حين قَدِموا المدينة يجتمعون، فيتحيّنون الصلاة، ليس يُنادى لها، فتكلّموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتَّخِذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بُوقاً مثل قرن اليهود، فقال عمر: أوَلا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله: يا بلال! قم فنادِ بالصلاة(١).
قال ابن المنذر: هو [(صلى الله عليه وآله) ] كان يصلّي بغير أذان منذ فُرضت الصلاة بمكّة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور(٢).
لكن السيوطي في الدرّ المنثور ـ ضمن تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} ـ روى عن عائشة أنّها قالت: ما أرى هذه الآية نزلت إلاّ في المؤذّنين(٣). وهذه الآية مكّيّة(٤).
ثمّ علّق الحلبي في سيرته على هذا بقوله: والأذان إنّما شُرّع في المدينة فهي ممّا تأخّر حكمه عن نزوله(٥).
وقد سئل الحافظ السيوطي: هل ورد أن بلالاً أو غيره أذّن بمكّة قبل الهجرة؟ فأجاب بقوله: ورد ذلك بأسانيد ضعيفة لا يُعتمد عليها، والمشهور الذي صحّحه أكثر العلماء ودلّت عليه الأحاديث الصحيحة أن الأذان شُرّع بعد الهجرة وأنّه لم
٣- الدرّ المنثور ٥: ٣٦٤، المصنّف لابن أبي شيبة ١: ٢٠٤، باب في فضل الأذان وثوابه ح ٢٣٤٧.
٤- انظر: تفسير القرطبي ١٥: ٣٦٠، وتفسير الثعالبي ٥: ١٣٩.
٥- السيرة الحلبية ٢: ٢٩٧.
قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (٢)، والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء ومحقّقو أهل الأُصـول أنَّ الأمر للوجوب، وفيه أنّه ينبغي للمتشـاوريـن أن يقـول كلٌّ منهم ما عنده، ثمّ صاحبُ الأمر يفعل ما ظهرت له مصلحة، والله أعلم(٣).
الثاني:
جاء تشريع الأذان بعد منامات رآها بعض الصحابة:
أخرج أبو داود بإسناده عن أبي عمير بن أنس، عن عُمومة له مِن الأنصار، قال: “اهتمّ النبيّ للصلاة كيف يجمع الناس لها ; فقيل: انصِبْ رايةً عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذَنَ بعضُهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، فذُكِـر له القَـنْع ـ يعـني الشـبّور، وقال زياد: شـبّور اليهـود ـ فلم يعجـبه ذلك، وقال: هو مِن أمرِ اليهـود.
قال: فذُكِر له الناقوس، فقال: هو مِن أمرِ النصارى.
فانصرف عبدالله بن زيد وهو مهتمٌّ لهمِّ رسول الله، فأُرِيَ الأذانَ في منامه، فغدا
٣- شرح النوويّ على مسلم ٣ ـ ٤: ٣١٨ كتاب الصلاة باب بدء الأذان.
فقال رسول الله: يا بلال! قم فانظر ما يأمرك به عبدالله بن زيد فافعله، قال: فأذَّنَ بلال.
قال أبو بشر [وهو من رواة الخبر]: فأخبرني أبو عمير أنّ الأنصار تزعم أنَّ عبدالله بن زيد لولا أنّه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله مؤذِّناً(١).
وأخرج الترمذيّ، وأبو داود، عن عبدالله بن زيد أنّه قال ـ والنصّ للثاني ـ: لمَّا أمر رسول الله بالناقوس يُعمَل ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي ـ وأنا نائم ـ رجل يحمل ناقوسـاً في يـده، فقلت: يا عبدالله! أتبيع النـاقوس؟
قال: وما تصنع به؟
قلتُ: ندعو به إلى الصلاة.
قال: أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟
فقلتُ: بلى.
فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أشهد أن لا إله إلاَّ الله.
أشهد أنَّ محمّداً رسول الله، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
الله أكبر، الله أكبر.
لا إله إلاَّ الله.
قال: ثمّ استأخر عنّي غير بَعيد، ثمّ قال: وتقول إذا أقمت الصلاة:
الله أكبر، الله أكبر.
أشهد أن لا إله إلاَّ الله.
أشهد أنّ محمّداً رسول الله.
حيّ على الصلاة.
حيّ على الفلاح.
قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة.
الله أكبر، الله أكبر.
لا إله إلاَّ الله.
فلمّا أصبحتُ أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت، فقال: إنَّها لَرُؤيا حقّ إن شاء الله تعالى، فقُم مع بلال فألقِ عليه ما رأيت فَلْيُؤذِّن به، فإنّه أندى صوتاً منك، فقمتُ مع بلال فجعلتُ أُلقيه عليه ويُؤذِّن به.
قال: فسمع ذلك عمر بن الخطّاب وهو في بيته، فخرج يجرُّ رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحقِّ يا رسول الله! لقد رأيتُ مثل ما رأى، فقال رسول الله: فلله الحمد(١).
فقال رسول الله: لقد أراك الله عزّوجلّ خيراً ـ كما في رواية ابن المثنّى، ولم تأتِ هذه العبارة في رواية عمرو ـ فَمُرْ بلالاً فليؤذِّن.
قال: فقال عمر: أما إنّي فقد رأيتُ مثل الذي رأى، ولكنّي لمّا سُبِقتُ استَحيَيت(١).
وأخرج مالك في الموطّأ: حدّثني يحيى، عن مالك، عن يحيى بن سعيد أنّه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أراد أن يتّخذ خشبتَين يضرب بهما ليجتمع الناس للصلاة، فأُرِيَ عبدالله بن زيد الأنصاريّ ثمّ من بني الحارث بن الخزرج خشبتَينِ في النوم، فقال: إنَّ هاتين لَنحو ما يريد رسول الله، فقيل: أفلا تُؤَذِّنون للصلاة؟ فأتى رسول الله، حين استيقظ، فذكر له ذلك، فأمر رسولُ الله بالأذان(٢).
فاستيقظ عبدالله بن زيد ; قال: ورأى عمر مثل رؤيا عبدالله بن زيد، فسبقه عبدالله بن زيد إلى النبيّ، فأخبره بذلك، فقال له النبيّ: قم فأذِّن، فقال: يا رسول الله! إنّي فضيع الصوت، فقال له: فعلِّمْ بلالاً ما رأيتَ، فعلَّمه فكان بلال يُؤَذِّن(٢).
وأخرج عبدالرزّاق أيضاً في مصنّفه عن ابن جريج: “قال عطاء: سمعتُ عبيد بن عمير يقول: ائتمر النبيّ وأصحابه كيف يجعلون شيئاً إذا أرادوا جمع الصلاة اجتمعوا لها، فائتمروا بالناقوس، قال: فبينا عمر بن الخطّاب يريد أن يشتري خشبتينِ للناقوس إذ رأى في المنام: أن لا تجعلوا الناقوس بل أذِّنوا بالصلاة، قال: فذهـب عمر إلى النبيّ ليخبره بالذي رأى، وقد جاء النبيّ الوحي بذلك، فـما راع عمر إلاّ بلال يؤذِّن، فقال النبيّ: قد سبقك بذلك الوحي، حين أخبره بذلك عمر”(٣).
وفي جامع المسانيد لأبي حنيفة ومجمع الزوائد ـ والنصّ للأوّل ـ: “عن
٣- مصنّف عبدالرزّاق ١: ٤٥٦/١٧٧٥ كتاب الصلاة باب بدء الأذان. هذه الرواية وان كانت ترتبط بالأذان عن طريق الوحي لكنا أتينا بها هنا لارتباطها بروايات المنامات.
قال: فهو لهذا الناقوس، فا ئْتِهِ فمُرْه أن يأمر بلالاً أن يؤذِّن، فعلَّمه الأذان: اللهُ أكبر اللهُ أكبر مرّتين، أشهد أن لا إله إلاّ الله مرّتين، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله مرّتين، حيّ على الصلاة مرّتين، حيّ على الفلاح مرّتين، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، لا إله إلاّ الله..
ثمّ عَلّمه الإقامة مثل ذلك، وقال في آخره: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، لا إله إلاّ اللهُ، كأذان الناس وإقامتهم.
فأقبل الأنصاريّ فقعد على باب رسول الله، فمرّ أبو بكر فقال: استأذن لي، فدخل أبو بكر وقد رأى مثل ذلك، فأخبر به النبيَّ، ثمَّ استأذن للأنصاريّ فدخل وأخبر بالذي رأى، فقال النبيُّ: قد أخبرنا أبو بكر بمثل ذلك، فأمر بلالاً يؤذِّن بذلك(١).
فهذه النصوص وإن كانت مختلفة العبارات لكنّها تشير إلى رؤية متقاربة ; فالنصّ الأوّل يشير إلى أن تشريع الأذان جاء على أثر رؤيا رآها عبدالله بن زيد حينما رأى رسول الله مهموماً مغموماً. ويظهر أنّ رؤياه كانت ليلاً لقوله: “… فأُرِيَ الأذان في منامه، فغدا على رسول الله فأخبره” وكذا النصّ الثاني، ففيه “فلمّا أصبحتُ أتيت رسول الله فأخبرته بما رأيت”.
نعم، اشتهر عن سعد بن عبادة وغيره من الأنصار الذين استضافوا رسول الله عند دخوله (صلى الله عليه وآله) المدينة، وكانوا من الأغنياء المعروفين بالجود والكرم مع أنّ نص جامع المسانيد يّدعي أنّ أبا بكر سبق الأنصاري بالرؤيا وإخباره النبيّ (صلى الله عليه وآله) بذلك، وهو يخالف باقي النصوص التي تسجّل قدمَ السبق للأنصاري.
أما النصّ الثاني ـ أي ما أخـرجـه التـرمـذي وأبـو داود ـ فيشـير إلى أن رسول الله أمر بالناقوس يُعمل ليضرب للناس، فرأى عبدالله في المنام الأذان، فأمـر (صلى الله عليه وآله) بلالاً أن يأخذ بما قاله عبـد الله ; وهـذا لا يتّفـق مع عـدم ارتضائـه (صلى الله عليه وآله) للناقوس!!
وفي النصّ الثالث نراه (صلى الله عليه وآله) يقول: “لقد هَمَمتُ أن أبثّ رجالاً في الدُّور ينادون الناس بحـين الصلاة حتّى هَمَمت أن آمر رجالاً يقومون على الآطام ينادون بحين الصلاة، حتّى نقسوا أو كادوا [أن] ينقسوا، فجاء رجل من
وهذا أيضاً لا يتّفق مع ما رواه عبدالرزّاق عن ابن جريج، إذ فيه: أنّ عمر أراد “أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى في المنام: أن لا تجعلوا الناقوس بل أذّنوا للصلاة”.
هذه بعض النصوص الدالّة على القول الثاني، وقد حاولنا أن نوحدها ـ رغم اختلافاتها ـ بقدر المستطاع تحت عنوان واحد.
الثالث:
نزول الأذان تدريجياً، وإضافة عمر الشهادة بالنبوّة إليه:
جاء في صحيح ابن خز يمة: حدّثنا بُندار، حدّثنا أبو بكر ـ يعني الحنفيّ ـ حدّثنا عبدالله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر: أنَّ بلالاً كان يقول أوَّل ما أذَّن: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، حيّ على الصلاة ; فقال له عمر: قل في إثرها: أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ; فقال رسول الله: قل كما أمرك عمر(١).
الرابع:
الأذان وحيٌ من الله تلقّاه الرسول من جبرئيل:
جاء في نصب الراية للزيلعي تحت باب “أحاديث في أنَّ الأذان كان وحياً لا مناماً”: روى البزّار في مسنده: حدّثنا محمّد بن عثمان بن مخلّد الواسطيّ، حدّثنا أبي، حدّثنا زياد بن المنذر، عن محمّد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب، قال:
“لمّا أراد الله أن يُعَلِّم رسوله الأذانَ أتاه جبرئيل بدابّة يقال لها البُراق، فذهب يركبها فاستصعبت، فقال لها [جبرئيل]: اسكُني، فوالله ما رَكِبَك عبدٌ أكرم على الله من محمّد.
قال: فركبها حتّى انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن تبارك وتعالى، فبينما هو كذلك إذ خرج مَلَكٌ مِن الحجاب، فقال رسول الله: يا جبرئيل! مَن هذا؟
قال: والذي بعثك بالحقِّ، إنّي لاَقرب الخَلْق مكاناً، وإنَّ هذا المَلَك ما رأيته منذ خُلِقتُ قبل ساعتي هذه.
فقال المَلَك: الله أكبر، الله أكبر.
قال: فقيل له مِن وراء الحجاب: صَدَقَ عبدي، أنا أكبر، أنا أكبر.
ثمّ قال المَلَك: أشهد أن لا إله إلاَّ الله.
قال: فقيل له مِن وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا لا إله إلاَّ أنا.
ثمّ قال المَلَك: أشهد أنَّ محمّداً رسول الله.
فقيل له مِن وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أرسلتُ محمّداً.
ثمّ قال المَلَك: حيَّ على الصلاة، حيّ على الفلاح [وفي مجمع الزوائد زيادة: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة]. ثمَّ قال الملك: الله أكبر، الله أكبر.
قال: فقيل مِن وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا لا إله إلاَّ أنا.
قال: ثمّ أخذ المَلَك بيد محمّد فقدَّمه فأمَّ أهل السماء، فيهم آدم ونوح.. انتهى.
[وفي مجمع الزوائد زيادة: قال أبو جعفر محمّد بن عليّ: فيومئذ أكمل الله لمحمّد الشرف على أهل السماوات والأرض](١).
وروى الطبرانيّ في الأوسط عن ابن عمر: “أنَّ النبيّ لمّا أُسرِيَ به إلى السماء أُوحي إليه بالأذان، فنزل به فعلَّمه جبرئيلَ”(٢).
وروى ابن مردويه عن عائشة مرفوعاً: لمّا أسري بي أذّن جبرئيل فظنّت الملائكة أنّه [أي جبرئيل] يصلّي بهم، فقدّمني فصلّيت(٣).
الخامس:
إنّ عمر أوّل من سمع أذان جبرئيل ثمّ بلال:
جـاء في مختصر إتحاف السادة المهرة بزوائد العشرة للبوصيري: عن كثير ابن مرة الحضرميّ، أنَّ رسول الله قال: أوّل مَن أذَّن في السماء جبرئيل (عليه السلام)، قال: فسمعه
٣- السيرة الحلبية ٢: ٢٩٦ وفيه: قال الذهبي: حديث منكر بل موضوع.
السادس:
إنّ الأذان نزل به جبرئيل على آدم لمّا استوحش:
جاء في كشف الغُمَّة للشعراني:… وكان كعب الأحبار يقول: قال رسول الله: لمَّا نزل آدم بأرض الهند استوحش فنزل جبرئيل فنادى بالأذان، فزالت عنه الوحشة.
فقال جبرئيل: الله أكبر اللهُ أكبر، أشهد أن لا إله إلاَّ الله ـ مرّتين، أشهد أنَّ محمّداً رسول الله ـ مرّتين.
قال آدم: مَن محمّد؟
قال: آخِر ولدك مِن الأنبياء(٢).
قال عليّ بن برهان الدين الحلبي في سيرته: أقول: ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل أنّ جبرئيل نادى بالأذان لآدم