الرئيسية / من / طرائف الحكم / النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجّة الغائب

النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجّة الغائب

النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجّة الغائب – (ج 1) / الصفحات: ٢١ – ٤٠

 

٢١

معالم شخصيته

واحسن وصف جامع وجدناه مكتوباً عن شخصيته من معاصريه، هو النص الذي كتبه تلميذه الاوحد الشيخ عباس القمي قدس سره العزيز قال:

” وكان رحمه الله حسن المحاضرة، سريع الكتابة، كثير الحافظة، مقبلا على شأنه، مستوحشاً عن اوثق اخوانه، وكان شديد العبادة، كثير الزهادة، لم تفته صلاة الليل والقيام في طاعة ربّه في آناء الليل، وكان جامعاً اعلى كل مكرمة وشرافة، واسنى كل خصلة وفضيلة.

وبلغ من كل خير ذروته، واخذ من كل علم شريف جوهره وحقيقته.

اما علمه فأحسن فنه الحديث، ومعرفة الرجال، والاحاطة بالأقوال، والاطلاع بدقائق الآيات، ونكات الأخبار…

وكان ضنيناً بعمره بحيث لم يدع دقيقة من دقائق عمره، ونفيس جوهر حياته يمضي بلا فائدة، ويفنى بلا عائدة، بل اخذ منه حظه ونصيبه اما بجمع شتات الأخبار، وتأليف متفرقات ماورد عن الائمة الاطهار ; وأما بالذكر وتلاوة الايات، او بالصلاة والنوافل المندوبات. مواضباً على كل سُنة سنية، ومؤدّ لميسور دقائق الآداب الدينية.

كان واعظاً لغيره بافعاله واقواله، وداعياً الى الله بمحاسن احواله ; يذكر الله

٢٢

تعالى رؤيتهُ، ويزيد في العلم منطقه، ويُرَغِّبْ في الاخرةِ عمله ; ما قام أحدٌ من مجلسه إلا بخير مُستفاد جديد، وشوق الى الثواب، وخوف من الوعيد ; لايختار من الاعمال المندوبة الاّ احمزها واتعبها، ولايأخذ من السنن الاّ احسنها. افعاله كانت منطبقة على كلامه، وكلامه مقصور على ما خرج عن أمامه.

لازمت خدمته برهة من الدهر في السفر والحضر والليل والنهار، وكنت استفيد من جنابه في البين الى أن نعب بيننا غراب البين، فطوى الدهر ما نشر، والدهر ليس بمأمون على بشر “(١).

وقال تلميذه الآخر العلامه الطهراني مبيناً شيئاً من ملامح العظمة في شخصيته:

” كان الشيخ النوري احد نماذج السلف الصالح التي ندر وجودها في هذا العصر، فقد امتاز بعبقرية فذة، وكان آية من آيات الله العجيبة، كمنت فيه مواهب غريبة، وملكات شريفة اهلته لان يعدّ في الطليعة من علماء الشيعة الذين كرسوا حياتهم طوال اعمارهم لخدمة الدين والمذهب، وحياته صفحة مشرقة من الاعمال الصالحة، وهو في مجموع آثاره ومآثره إنسان فرض لشخصه الخلود على مرّ العصور، والزم المؤلفين والمؤرخين بالعناية به، والاشادة بغزارة فضله… “(٢).

*  *  *

١- الفوائد الرضوية (الشيخ عباس القمي): ص ١٥٢.

٢- نقباء البشر: ج ٢، ص ٥٤٥.

٢٣

حركته السياسية

عاصر الشيخ النوري قدس سره فترة حرجة من تاريخ الامة وتشمل بداية الغزو الاستعماري غير المعلن لها وباشكال مختلفة، وكان الغزو الاقتصادي والثقافي والفكري والسياسي من اهم واجهات هذا الغزو الاستعماري.

وقد استفاد الغرب من وهن تفكير وضعف شخصية الحكام المتسلطين على البلاد الاسلامية من جهة. ومن جهة اخرى تمكن الغرب من ايجاد مجاميع في قلب المجتمعات الاسلامية تدعو الى التغريب والتقليد للاجانب.

وقد عاش الشيخ النوري بدايات هذه المرحلة والصراع القوي والحاد بين اصالة الاُمة وبين الأجانب. وقد امتلأ تاريخنا باحداث ضخمة في تلك الفترة وكان ابرز تلك الأحداث ثورة التنباك سنة (١٨٩٠م) وثورة المشروطة سنة (١٩٠٥م) الحدثان الكبيران اللذان اثرا على الحركة السياسية للاُمة في حاضرها ومستقبلها. ومع ان الشيخ النوري لم يعاصر الحدث الثاني ثورة المشروطة (الدستور)، ولكن الاشارة إليه في هذا المجال لأنه عاش بدايات هذه الثورة ومقدماتها ولأن ثورة التنباك كانت مقدمة لثورة المشروطة كما ان قرب زعيم ثورة المشروطة الشهيد فضل الله النوري الى الشيخ حسين النوري من حيث النسب فهو ابن اخته وصهره، وعلاقته

٢٤

الوثيقة به، نجد ذلك من خلال حركة التنباك، فان علاقة الشيخ فضل الله (وكان من ابرز قادة الثورة في طهران) مباشرة بالشيخ حسين النوري، وهو بزعيم الثورة الميرزا الشيرازي قدس سره).

فهل لهذا العلامة اثر في فهم حركة الشيخ حسين النوري السياسية؟

ان اقل ما تعطي هذه الملامح ان النوري قدس سره كان من المتصدين لهموم الامة، ولم يكن يعيش منعزلا عن همومها وقد تحمل الكثير من المعارك الجانبية من اجل هذا التصدي، ولعل ضجة (فصل الخطاب) التي سوف يأتي الحديث عنها كان من اهمها هذا العامل الذي اثر على حركته الاجتماعية المستقبلية واوقعته اخيراً بشبه العزلة.

ولايمكن لاي دارس لذلك العصر ان يتجاوز هذين الحدثين لارتباطهما بعضهما بالبعض الاخر، وبتعبير بعض المحللين السياسيين للتاريخ الايراني ان ثورة التنباك كانت مقدمة لثورة المشروطة(١).

ومع ان التاريخ لم يسجل للشيخ النوري دوراً في هذين الحدثين المهمين الاّ هامشياً، ولكن قربه من قادة الثورة يلزم الباحث ان يتعرض ولو بالاجمال الى علاقة النوري بالقائد الشيرازي.

واما هامشية دوره في الثورة الدستورية فواضح باعتبار عدم معاصرته لها.

واما بالنسبة لثورة التنباك باعتبار ان الحدث وقع في ايران، وكان الشيخ النوري وقتها يعيش في سامراء، واضافة الى ان المتصدي للحركة كان موجوداً وهو الامام المجدد الشيرازي قدس سره، وجرت الطريقة العلمائية من السلف الصالح في العهد القاجاري بحصر التصدي السياسي بشخص المرجع والمجتهدين الذين يجاورونالحدث، وكلما ابتعد الاخرون عن مكان الحدث كلما ضعف دورهم السياسي فيه، كما

١- راجع: تاريخ سياسي معاصر ايران (دكتر سيد جلال الدين مدني): ج ١، ص ٢٣ ـ باللغة الفارسية.

٢٥

في ثورة المشروطة نفسها فمع اهمية الحدث فاننا لم نجد انعكاسة على المجتمع النجفي او الكربلائي او غيرهما الابمقدار ضئيل بحدود رد الفعل النفسي والفكري، وغالباً ماكان يأتي متأخراً، كرد فعل المساندين للمشروطة في النجف الاشرف على اعدام آية الله الشيخ فضل الله النوري قدس سره.

ولم تجد الطريقة الصحيحة في العمل السياسي عند الكيان العلمائي في العراق استخدامها في الحركة السياسية الاّ متأخراً. فكان غالباً ما يتسم العمل السياسي بالفردية وعدم وجود جهاز سياسي مرتبط بالمجتهدين او المرجع الاّ بحدود ضيقة تفرضها الحاجة ولمدة مؤقتة كما حدث في موقف العلماء من حركة الجهاد لرد الغزو الاستعماري العسكري البريطاني على العراق. والى حدّ ما في ثورة العشرين في العراق ايضاً.

كما ان المواقف السياسية لم تبتنِ على اسس استراتيجيه وانما كانت تأتي في غالبها على شكل ردّ فعل حاسم لقضية مهمة في الأمة، كما في قضية ثورة التنباك والاحتلال البريطاني وغيرهما من الاحداث.

فكان طبيعياً عدم ظهور دور للحاشية (المستشارين ان صح التعبير) في حركة المرجع او المجتهد الاّ بحدود ما تفرضه طبيعة الحركة الفردية.

ومن خلال ذلك نفهم دور النوري قدس سره الثانوي في حركة التنباك باعتبار موقعه المتميز بمرجعية السيد الشيرازي. وحيث كان المجدد الشيرازي هو قائد الثورة.

ثورة التنباك:

في السفر الثالث للملك ناصر الدين القاجاري الى اورپا سنة ١٣٠٦ هجري قمري(١) عقد اتفاقية سنة ١٨٩٠ ميلادي الاقتصادية بسيطرة التجار البريطانيين على

١- راجع: تحريم تنباكو اولين مقاومت منفي در ايران (ابراهيم تيموري): ص ٢٣.

٢٦

تجارة التنباك(١)، وقد تضمنت الاتفاقية على ثلاثين فصلا(٢)، وقد اوقع الشاه القاجاري للتصديق على هذه الاتفاقية الأزمة النقدية الحادة(٣).

وقد استفاد الانكليز من هذه الاتفاقية اقتصادياً وسياسياً وفكرياً. فقد امكنهم السيطرة على هذه التجارة التي كانت تشكل اهمية خاصة في ايران فقد كان خمس الشعب الايراني يشتغلون في بيع وشراء وزراعة التنباك(٤).

وقد تضمنت المعاهدة اجحافاً بحق المسلمين واقتصاد احدى الدول الاسلامية، فقد نصت المعاهدة ان تحتكر جميع المصادر للتنباك الايراني من قبل الشركة البريطانية على ان تؤدي سنوياً حق الامتياز مبلغ خمسة عشر الف ليرة مع اعفاء الشركة من الضرائب الكمركية وغيرها، بالاضافة الى ذلك فلا يحق لأحد المتاجرة بالتنباك والتبغ ومشتقاته وحتى نفاياته، ويخضع المخالف للمتابعات القانونية الشديدة، وتلزم المعاهدة جميع المزارعين بيع جميع محاصيلهم الى الشركة المذكورة(٥).

وبالمقايسة الى حقوق الامتياز التركية (العثمانية) نجد الفوارق الكبيرة بينهما، فان حق الامتياز العثماني كان سنوياً (٦٣٠) الف ليرة(٦). مع الفوارق الامتيازية الاُخرى. اضف الى ذلك ان مجموع الصادرات من التتن والتنباك الى تركية والهند

١- تاريخ سياسي معاصر ايران (مدني): ج ١، ص ٢٤.

٢- راجع: تحريم تنباكو (ابراهيم تيموري): ص ١٦، ٢٢ ـ جميع بنود الاتفاقية.

٣- راجع: تحريم تنباكو (ابراهيم تيموري): ص ٢٥، قال ما ترجمته: ” ان ناصر الدين شاه كان يفكر ـ قطعاً ـ ان بهذه الاموال النقدية التي سوف يحصل عليها من هذا الطريق سوف يؤمن مصاريف سفره ذلك بل يؤمن مصاريف سفرة اخرى، فصمم ان يعطي ذلك الامتياز للانكليز… “.

٤- راجع: تاريخ سياسي معاصر ايران (مدني): ج ١، ص ٢٤.

٥- راجع: تحريم تنباكو (تيموري): ص ١٦، وما بعدها ـ تاريخ سياسي معاصر ايران (مدني): ج ١، ص ٢٤ ـ وقائع الايام (ماه ربيع الاول وربيع الثاني (شيخ ذبيح الله محلاتي): ص ٢٦٨.

٦- راجع: تاريخ سياسي معاصر ايران (مدني): ج ١، ص ٢٤.

٢٧

وافغانستان وصل الى (٤٣٥) طن للسنة الواحدة وقد قدرت عوائدها بـ (٥٠٠) الف ليرة للسنة الواحدة(١).

وقد استفاد البريطانيون من هذه المعاهدة لترسيخ نفوذهم في جميع مراكز المجتمع الايراني، فبعد توقيع المعاهدة مباشرة (جاء من لندن جماعة من الاجانب لايقل عددهم عن مائة الف نسمة من رجال ونساء، ودخلوا طهران، وشرعوا في تنفيذ مقاصدهم، وارسلوا في كل بلد من بلاد ايران عدة من هيئتهم، وقويت بذلك كل ملة الاّ ملة الاسلام، وكثرت الفواحش، وشرب الخمور فلم تزل كل يوم تكثر هذه الدواهي، وقد فتح الأجانب المدارس لدعوة الناس الى مذهب المسيح، وجعلوا المبشرين البروتستانت في جميع المستشفيات ينفقون اموالا جمة على الفقراء والمساكين، ويستخدمون بنات الاسلام وفتياتها، وصار المسلمون مقهورين تحت ايديهم، وفرقوا اربعمائة الف تومان بين الأمراء والحكام ليوافقوهم في تنفيذ مقاصدهم… واتصل باصحاب الامتياز كثير من الدجالين الذين يريدون التقرب اليهم ويدعون انهم من المسلمين، فكانوا يدلونهم على اعراض الناس ونواميسهم وما ادخروا من التنباك، وجعلوا يصرفون عوام الناس عن اطاعة العلماء، فاضطهد اهل الدين، وكانوا يحبذون السفور لبنات المسلمين، وينصبون الكراسي في المعامل الاسلامية ليجلسوا وينظروا الى بنات المسلمين اللاتي يشتغلن في معامل وهنسافرات، ووقع من امثال ذلك ما لا يحيط بيانه القلم…)(٢).

وكان ردّ الفعل الذي واجهه الاستعمار الرفض القاطع والشديد من قبل الشعب

١- تاريخ سياسي معاصر ايران (مدني): ج ١، ص ٢٤.

٢- راجع (علي الوردي) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: ج ٣، ص ٩٤٠ ـ وراجع وقائع الايام (الشيخ ذبيح الله المحلاتي) ربيع الاول وريبع الثاني: ص ٢٦٩ – ٢٧٠ ـ وراجع نهضت روحانيون ايراني (علي دواني): ج ١، ص ٨٩ ـ وما بعدها ـ تحريم تنباكو (تيموري): ص ٤٢ – ٤٣.

٢٨

الايراني المسلم(١) وقد قاد تلك الحركة الكبيرة العلماء الاعلام(٢) (واتخذ رجال الدين دور الزعامة في الكثير من المدن الايرانية فوقعت من جراء ذلك معارك بين الاهالي والقوات الحكومية سقط فيها عدد غير قليل من القتلى والجرحى)(٣).

وعليه فقد فزع علماء ايران فوراً باطلاع اعلم علماء عصره المرحوم آية الله الميرزا محمد حسن الشيرازي الذي كان يسكن في مدينة سامراء في العراق(٤)(فاوجس ذلك الامام اليقظان خيفة على استقلال ايران ان يمسّ بسوء، فتلافى الخطر بفتوى اصدرها تقتضي تحريم التنباك معلناً غضبه وسخطه من الدولتين بما تعاقدتا عليه من الالتزام.

فهاج الشعب الايراني هياج البحر بعواصف الزعازع، وزلزلت الارض زلزالها، واعرض الشعب باجمعه عن استعمال التنباك وعاملوه معاملة الابرار للخمرواستمروا على ذلك)(٥).

وكانت نص ترجمة الفتوى:

بسم الله الرحمن الرحيم: اليوم ; استعمال التنباك والتوتون باي نحو كان بحكم محاربة امام الزمان عجل الله فرجه.

محمد حسين الحسيني(٦)

(فلم يكن للدولتين بد من فسخ ذلك الالتزام ونقض ذلك التعاقد على الرغم منهما معاً، وعلى ضرر تكبدتاه في الماديات والمعنويات و { ردّ الله الذين كفروا

١- راجع: نقش روحانيت پيشرو در جنبش مشروطيت (پروفسور انگادر) ترجمه الى الفارسية دكتر (ابو القاسم سري): ص ٢٧٨.

٢- راجع: تاريخ سياسي معاصر ايران (مدني): ج ١، ص ٢٤.

٣- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث (علي الوردي): ج ٣، ص ٩٣.

٤- نهضت روحانيون ايران: ج ١، ص ٩٢.

٥- راجع مقدمة تكملة امل الآمل (السيد عبد الحسين شرف الدين): ص ٢١.

٦- راجع نهضت روحانيون ايران: ج ١، ص ٩٢.

٢٩

بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً }(١).

واحد اهم الفوائد العظمى الذي انتجته تلك الحركة المباركة ردّ فعل الشارع الايراني المسلم من الغزو الاستعماري للبلاد الاسلامية تحت عنوان (الحضارة الاوروبية)، فكان لتلك الفتوى اثراً كبيراً في ايجاد حاجز نفسي وفكري بين الشعب المسلم والاساليب الاستعمارية الجديدة التي ارادوا بها ان يسيطروا على البلاد الاسلامية، وقد كَتَبَ الوردي ـ الذي هو من اركان دعاة التغريب في العراق ـ عن اثر الثورة بقوله:

” والملاحظ ان موجة من التعصب ضد الحضارة الاوروبية اخذت تظهر في اوساط الشعب الايراني اثناء ذلك، وصارت الاشاعات تدور بين الناس حول مفاسد الحضارة وآفاتها.

والظاهر ان رجال الدين انتهزوا فرصة الاستياء العام من اتفاقية التنباك فارادوا اقتلاع جميع النظم الحديثة التي دخلت الى ايران في عهد الشاه ناصر الدين “(٢).

وانطلق الوردي في مقولته هذه من المؤثرات الاستعمارية التي ترسخت في افكاره ومنهجه وطريقة فهمه للاشياء، ولذلك فهو لايهتم باستقلال البلاد وشخصية الانسان المسلم، ويخلط ـ عن عمد أو عن جهل ـ على احسن التقادير ـ بين (الحضارة الاوروبية) ومحاربة مفاسد الحضارة وآفاتها، وبين اقتلاع جميع النظم الحديثة، ويريد ان يقنع القاري بان (رجل الدين) يحارب النظم الحديثة والتقدم وتطور التكنلوجيا والعصرنة السليمة. وهذه النتيجة خلاف الواقع مائة بالمائة. وقد كفتنا التجربة الاسلامية الايرانية الحديثة مؤنة الرد على خزعبلاته واباطيله.

١- راجع مقدمة تكملة امل الآمل (السيد عبد الحسين شرف الدين): ص ٢١ ـ والتكملة من مؤلفات (السيد حسن الصدر) قدس سره.

٢- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث: ج ٣، ص ٩٣.

٣٠

والوردي يخلط ـ عن عمد او عن جهل ـ بين الحضارة وبين مفاسد الحضارة وآفاتها.

ان الدين منهج حضاري ضد الفساد سواء جاءنا من الحضارة الاوروبية او من غيرها. واما الذين ادخله الاستعمار الاوروبي في تلك الفترة انما كان نقل الاوبئة الحضارية الاوروبية التي كانت سبب انهيار الحضارة الاوروبية، وكان المخلصون لبلدانهم في اوروبا يسعون جاهدين للتخلص منها. بينما كانوا أنفسهم يبذلون نفس تلك الجهود او اكثر منها من اجل نقل تلك الاوبئة والآفات والامراض الى البلدان الاسلامية من اجل القضاء على الحضارة الاسلامية وتفتيت قوى المجتمع المسلم، وتسهيل سبل السيطرة عليه.

وقد تمكن الاستعمار من خداع مجموعة من اصحاب القلم والمناصب الحكومية في ان يكونوا دعاة له في البلاد الاسلامية وكان احد ابرز اولئك الوردي الذي اعترف بدور الفتوى في محاربة الاستعمار في البلاد الاسلامية.

دور النوري في ثورة التنباك:

ولا يكاد يذكر للنوري دور في هذه الثورة الجليلة ولكن المصادر التي كتبت عن هذه الثورة سجلت اسم النوري في اوراقها ايضاً، وجاء ذلك برسالة بعثها الشيخ النوري قدس سره الى ابن اخته الشهيد الشيخ فضل الله النوري في طهران، وكان من ابرز علماء طهران ومن العلماء المجاهدين الذين كان لهم دور كبير في حركة التنباك في ايران.

وذلك ان عموم المسلمين في طهران فزعوا الى بيت آية الله الميرزا محمد حسن الاشتياني يستوضحونه خبر فتوى التحريم، وكان الناس على اشدّ من النار، وكان الاشتياني ينتظر وصول مثل تلك الفتوى، وكانت الفتوى لم تصل من سامراء، ولكن

٣١

حديث حرمة استعمال التنباك قد انتشر بين الناس، وقد منعت السلطات الحاكمة الحديث بفتوى حرمة الاستعمال، وكانت تعاقب كل من يتحدث بها، وينسبونها الى اختراع المتحدثين، ويقولون بان الامام الشيرازي لم يحرم ذلك ابداً، وفي هذه الأثناء وصل موزع البريد الى بيت آية الله الاشتياني، وسلّمه نصّ الفتوى وقرأها الاشتياني على الجماهير المتجمعة، فارتفعت اصواتهم بالصلوات، وقد طبعت منها مائة الف نسخة على الفور على نسخة الاصل، ووزعت في البلاد والقرى وجميع المدن الايرانية، وقد اعلنت في المحافل والمساجد وعلى المنابر، ولم يأتِ الليل الاّ والفتوى قد انتشرت بجميع ايران، فامرت الحكومة بجمع نسخ الفتوى وسحبها من ايدي الناس، وكذبوا صدور الفتوى من الامام الشيرازي، ولكنهم لم يحصلوا على فائدة تذكر من ذلك فسعوا للحصول على نسخة الاصل فجاءوا عند آية الله الاشتيانيوطلبوا منه نسخة الاصل ولكنه قال لهم: ماذا تفعلون بنسخة الاصل اكتبوا الى سامراء. فكتبت في ذلك الوقت عدة برقيات الى الحاج الميرزا حسين النوري(١)فجاء الجواب من الشيخ حسين النوري الى آية الله الشيخ فضل الله النوري بما ترجمته:

” جناب شريعتمدار الآقا الشيخ فضل الله النوري سلمه الله تعالى.

سأل جماعة من أهالي طهران عن حكم حضرة حجة الاسلام في خصوص الدخانيات، وهو عجيب. نعم الحكم قد صدر منه، وسوف يصلكم مرة اخرى بخطه المبارك بالبريد. حسين النوري “(٢).

وهكذا أبرق علماء باقي مدن البلاد الى سامراء يستفتون الميرزا الشيرازي عن حكم التحريم، فكتب الشيخ حسين النوري قدس سره الى السيد علي المدرس في يزد

١- راجع: وقائع الايام ـ ماه ربيع الاول وربيع الثاني (الشيخ ذبيح الله محلاتي): ص ٢٧٧ – ٢٧٨ ـ وراجع: نهضت روحانيون ايران (علي دواني): ج ١، ص ١٠٩ – ١١٠ ـ وراجع: تحريم تنباكو (ابراهيم تيموري): ص ١١٦.

٢- تحريم تنباكو (ابراهيم تيموري): ص ١١٦.

٣٢

ما ترجمته:

” يزد ـ الى جناب القائم على حفظ الشريعة الآقا المير السيد علي المدرس دام علاه.

من المعلوم اطلاعكم على تفصيل الاحكام المحكمة لحضرة المستطاب حجة الاسلام دام ظله العالي بحرمة استعمال الدخان باي نحو كان. ولكن الحكم المذكور باق لحد الآن، وافاد انه ما لم يتحقق عنده على نحو التحقيق رفع الامتياز بالمرة منالداخل والخارج، وما لم يعلن جديداً برفع الحكم السابق ; فان حكم الحرمة باق ويجب الاجتناب، ولايرخص في ذلك وسوف يصل لكم خطه المبارك بهذا المضمون. حسين النوري “.

وكتب الشيخ حسين النوري قدس سره الى الميرزا ابراهيم الشريعتمدار في سبزوار ما ترجمته:

” سبزوار ـ الى جناب المستطاب عماد الاسلام الاقا الحاج الميرزا ابراهيم الشريعتمدار دام علاه.

لأجل تدخل الأجانب ببلاد الاسلام فقد حكم حضرة حجة الاسلام دام ظله العالي بحرمة استعمال مطلق الدخانيات بأي نحو كان. ومن الطبيعي فقد وصلكم انه لمحض أعلاء الكلمة الحقة، وما زال حكم الحرمة باقياً وما لم يتحقق عنده رفع يدهم تدخلهم من الداخل والخارج، فانه لايعلن السماح، ويبقى حكم الحرمة، ويلزم الاجتناب، ولا رخصة فيه. حسين النوري “(١).

وقد ورد ذكر النوري قدس سره في عدة اماكن اخرى بهذا النحو الذي يظهر له مشاركة في هذه الثورة الكبرى، ولعل منشأ هذه المشاركة هو قرب النوري قدس سره من زعيم الثورة، فقد سجل المؤرخون ان الله اسعد ” هذا الامام بوزراء من اركان

١- راجع: تحريم تنباكو: ص ١٨٧.

٣٣

حوزته كانوا من ذوي العقول الثاقبة والاحلام الراجحة من كل ذي رأي جميع، وقلب واع… ابتلاهم سيدهم فما وجد فيهم الاّ مشير صدق ونصح واخلاص وشفقة، فناط بهم ثقته والقى اليهم مقاليده في تلك الزعامة العظمى، والرئاسة العامة، فاخلصوا له النصح واجتهدوا له المشورة، وكان امره شورى بينه وبينهم “(١).

كما ان المؤرخين سجلّوا قرب النوري قدس سره الى الميرزا الشيرازي قدس سره ننقل بعض اقوالهم:

١ ـ قال المؤرخ الكبير العلامة المحقق الشيخ اغا بزرگ الطهراني ” من اعاظم اصحاب السيد المجدد الشيرازي وقدمائهم وكبرائهم، وكان يرجع اليه مهام اموره، وعنه يصدر الرأي، وكان من عيون تلامذته المعروفين في الآفاق فكانت مراسلات سائر البلاد بتوسطه غالباً واجوبة الرسائل تصدر عنه وبقلمه، وكان قضاء حوائج المهاجرين بسعيهِ ايضاً، كما كان سفير المجدد ونائبه في التصدي لسائر الامور كزيارة العلماء والاشراف الواردين الى سامراء واستقبالهم، وتوديع العائدين الى اماكنهم، وتنظيم امور معاش الطلاب وارضائهم، وعيادة المرضى، وتهيئة لوازمهم، وتجهيز الموتى وتشييعهم، وترتيب مجالس عزاء سيد الشهداء عليه السلام، والاطعامات الكثيرة، وسائر اشغال مرجع عظيم كالمجدد الشيرازي… وكانت له عند السيد المجدد مكانة سامية للغاية فكان لايسميه باسمه بل يناديه بـ (حاج اقا) احتراماً له، وورث ذلك عنه اولاده فقد كان ذلك اسم النوري في ايام سكنانا بسامراء “(٢).

٢ ـ وقال اعتماد السلطنة، ما ترجمته بالمعنى: ” وكان هذا العالم العامل والفقيه الفاضل والمحدث الكامل محل ثقة حضرة حجة الاسلام وثقة الانام مجدد الاحكام نائب الامام عليه السلام الحاج الميرزا محمد حسن ومعتمداً عليه ومؤتمناً لديه “(٣).

١- مقدمة كتاب امل الامل (السيد عبد الحسين شرف الدين): ص ٢٣.

٢- نقباء البشر: ج ٢، ص ٥٤٩.

٣- راجع: الآثار والمآثر (اعتماد السلطنة): ص ١٥٦، الطبعة الحجرية.

٣٤

٣ ـ وقال الباحث المؤرخ الشيخ علي دواني: ” الفقيه الجليل الكبير الحاج الميرزا حسين النوري المستشار الخاص للميرزا الشيرازي… “(١).

ومهما يكن التحليل فلا يمكن تجاهل ان لقربه الى زعيم الثورة اعطاه مشاركة في هذه الحركة التاريخية المهمة من تاريخ الأمة.

*  *  *

١- راجع: نهضت روحانيون ايران: ج ١، ص ١١٠.

٣٥
حياته العلميّة

٣٦

٣٧

دراسته واساتذته

بدأت حياته العلمية منذ نعومة اظفاره فحين بلغ أوان حلمه لازم العالم الجليل الفقيه النبيه الزاهد الورع النبيل المولى محمد علي المحلاتي(١).

وهاجر الى النجف وبقي اربع سنوات يواصل سيره الدراسي، ولكنه لم يكشف عن دراسته ومدرسيه الذين درس عندهم في هذه الفترة الزمنية.

وبعد اربع سنوات من الدراسة رجع الى بلاده، ثم عاد سنة ١٢٧٨ هـ. ق ولازم الآية الكبرى الشيخ عبد الحسين الطهراني الشهير بشيخ العراقين وكان أول من أجازه(٢).

وفي حياة استاذه الطهراني حضر بحث الشيخ مرتضى الانصاري اشهراً قلائل الى ان توفي الاستاذ الجديد في سنة (١٢٨١) هـ. ق.

ومنذ سنة ١٢٨٦ هـ. ق لازم درس السيد المجدد الشيرازي حتى توفي سنة (١٣١٢)(٣).

١ و ٢- راجع خاتمة المستدرك: ج ٣، ص ٨٧٧، الطبعة الحجرية ـ اعيان الشيعة: ج ٦، ص ١٤٣ ـ نقباء البشر: ج ٢، ص ٥٤٤.

٣- راجع المستدرك: ج ٣، ص ٨٧٧، ٨٧٨ ـ اعيان الشيعة: ج ٦، ص ١٤٣ ـ نقباء البشر: ج ٢، ص ٥٤٤.

٣٨

وعدّ من شيوخه واساتذته الفقيه الشيخ عبد الرحيم البروجردي قرأ عليه في طهران(١).

وعدّ من شيوخه الشيخ فتح علي السلطان آبادي(٢).

وقد تتلمذ على الحاج الملاّ علي كني(٣).

ومن مشايخ اجازته السيد مهدي القزويني(٤).

وكذلك فقد تتلمذ على الفقيه الكبير المولى الشيخ علي الخليلي(٥).

ولأهمية الاحاطة بمجمل احوال اساتذته نسجل ذلك بشيء من الايجاز، فان لشخصية الاستاذ اثره على تركيبة شخصية التلميذ ولو ان بعض من سجل ضمن قائمة الاساتذة كانوا شيوخاً له بالاجازة فحسب، ولم يكونوا من اساتذته.

١ ـ الشيخ عبد الحسين الطهراني:

الشهير بشيخ العراقين وبقي معه في كربلاء مدة وذهب معه الى مشهدالكاظمين عليهما السلام فبقي سنتين ايضاً(٦).

وهو: ” عالم عامل رباني فقيه دقيق النظر صائب الفكر، عالي الهمة، متقن ضابط لعلم الحديث والرجال وعلوم اللغة العربية. عاد الى طهران مكتفياً عن الحضور، ورجع الى العراق وتوطن كربلاء وصارت له مكانة سامية فيها، رجع اليه

١- راجع: اعيان الشيعة: ج ٦، ص ١٤٣.

٢- راجع: نقباء البشر: ج ٢، ص ٥٤٤.

٣- راجع: ريحانة الادب: ج ٣، ص ٣٩٠.

٤- راجع: الكنى والالقاب (الشيخ عباس القمي): ج ٣، ص ٥٠ ـ ريحانة الأدب (المدرس) ج ٣، ص ٣٩٠.

٥- راجع مقدمة كشف الاستار: ص ٢٣ ـ معارف الرجال (حرز الدين): ج ١، ص ٢٧٣.

٦- نقباء البشر: ج ٢، ص ٥٤٤.

٣٩

في التقليد الكثير من اهل كربلاء، وملك مكتبة فيها من الكتب الخطية النفيسة الشيء الكثير “(١).

وكان حضوره ” في النجف على الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر حتى اجازه في الاجتهاد وعاد الى طهران فاصبح زعيماً دينياً كبيراً في طهران، له مرجعية عظيمة ونفوذ كبير، وهو من عباد الله الصلحاء الابرار الذين لاتأخذهم في الله لومة لائم، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مهما كلفه الامر، ولا يخشى السلطان بل كان السلطان يخشى صولته، وقد عارض ناصر الدين شاه القاجاري في كثير من القضايا التي كان يرى انها لاتوافق الشرع الشريف حتى ضجر منه وضاق به المخرج ورغب في نفيه الى العراق لكنه خشي صولته ومكانته في النفوس.. “(٢).

وقال تلميذه الشيخ النوري قدس سره:

” شيخي واستاذي ومن اليه في العلوم الشرعية استنادي، افقه الفقهاء، وافضل العلماء، العالم العلم الرباني الشيخ عبد الحسين بن علي الطهرني، اسكنه الله تعالى بحبوحة جنته، كان نادرة الدهر، واعجوبة الزمان في الدقة والتحقيق وجودةالفهم وسرعة الانتقال وحسن الضبط، والاتقان، وكثرة الحفظ في الفقه والحديث والرجال واللغة، حامي الدين، ودافع شبه الملحدين، وجاهد في الله في محو صولة المبتدعين، أقام اعلام الشعائر في العتبات العاليات وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات، صاحبته زماناً طويلا الى ان نعق بيني وبينه الغراب، واتخذ المضجع تحت التراب في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة الف ومائتين وسنة وثمانين له كتاب في طبقات الرواة… “(٣).

١- معارف الرجال: ج ٢، ص ٣٤.

٢- الكرام البررة: ج ٢، ص ٧١٣ – ٧١٤.

٣- راجع مستدرك الوسائل: ج ٣، ص ٣٩٧، الطبعة الحجرية، ولكلامه تكملة تركناها خشية الاطالة.

وراجع في ترجمته: المآثر والآثار: ص ١٣٩ ـ مستدرك الوسائل: ج ٣، ص ٣٩٧ ـ كفاية الموحدين: ج ٢، ص ٦٢٩ ـ جنة النعيم: ص ٥٢٨ ـ ريحانة الادب: ج ٢: ص ٤١٠ ـ ط ١: ج ٣: ص ٣٢٩، ط ٢ ـ الروضة البهية: ص ٤٩ و ٥٠ ـ الكرام البررة (آقا بزرگ): ج ٢، ص ٧١٣ – ٧١٤ ـ معارف الرجال: ج ٢، ص ٣٤، وغير ذلك من المصادر.

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...