الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ٤١ – ٦٠
ويضيف أن ما ورد في تقسيم آيات القرآن إلى المحكمات والمتشابهات لا يعني أن الاية في نفسها مبهمة ولا يتضح منها معنى البتة، بل ان التشابه هو بلحاظ فهم السامع والقارىء وتردده بين معنى وآخر بحيث لايتعين المراد منها إلا بالرجوع إلى آية محكمة والتي هي بمنزلة الأصل الواجب الرجوع اليه عند تردد المعاني في المتشابهات.
وحصول التشابه لدى السامع او القارئ امر طبيعي، ومرجعه اُنس الإنسان بالامثلة المادية المحسوسة فيحمل الالفاظ لا على معانيها بحدها الماهوي بل يخلط بها المصداق المألوف لديه فيختلط عليه المراد، اما اذا التفت إلى أن الألفاظ موضوعة لروح المعاني دون النظر إلى المصاديق التي هي عرضة للتبدل والتغير، ارتفع لديه الاختلاط، فمثلا السجود موضوع لمنتهى الخضوع والخشوع وليس موضوعا للهيئة الخاصة المتداولة وعندها يمكن فهم امر الحق تعالى ملائكته بالسجود لادم.
وقد يشكل عليه بأن هذه الطريقة من التفسير هي ضرب القرآن بعضه ببعض، وقد نُهي عنها صراحة في قول الصادق (عليه السلام) ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض
ويستدل العلامة على نظريته بأدلة وشواهد عدة:
منها: ان القرآن وُصف بأوصاف متعددة منها إنه نور، وهدى، ومبين، وفرقان، وان فيه بيان لكل شيء وهذه كلها تدل على عدم اغلاقه وإنه لا يحتاج إلى مفسر خارج عنه.
ومنها: أن القرآن هو المعجزة الخالدة التي تحدى به الرسول (صلى الله عليه وآله) كافة الناس ان يأتوا بسورة أو آية مثله، ومقتضى التحدي كونه واضحاً غير مبهم فهو يبين نفسه بنفسه.
ومنها: وردت روايات عديدة ترشد إلى كيفية تمييز الحجة عن اللاحجة من الروايات بالعرض على كتاب الله، فهذا يعني ان في كتاب الله البرهان الواضح والمفاهيم الساطعة التي يمكن فهمها وعرض الروايات عليها.
ومنها: قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(٢) تدل على امكانية نيل المعارف القرآنية وأنه لا معنى لارجاع ذلك إلى بيان السنة لان ما بَيّنه إما أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام أو ان يكون معنى لا يوافق الظاهر، فإن كان الأول فهو مما يؤدي اليه اللفظ ويمكن التوصل اليه ولو بعد التدبر، وإن كان الثاني فهو مما لا يلائم التحدي.
ومنها: ما ورد من الروايات التي كالنص في ذلك كرواية الباقر (عليه السلام) فمن زعم ان
– ان حجية السنة منبثقة عن حجية الكتاب فبينهما طولية حيث قد ورد في القرآن حجية السنة {مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ…}(٢){وَلَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(٣).
ـ ويرى ان قوله: {إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد}(٤): يعني أنه لا يبطله شيء وبالتالي لا ينسخ القرآن إلا بالقران أما ما اتفق عليه العامة والخاصة من امكانية النسخ بالسنة القطعية فمدفوع بهذه الاية.
تقييم نظرية العلامة:-
إن أصل ما ذكره العلامة متين ونوافقه عليه، لكن النتائج التي رتبها على ذلك من استقلال الإنسان في تفسير القرآن بالقرآن بعد معرفة طريقة أهل البيت هذا غير صحيح، حتى أنه رضوان الله عليه لم يتبع ذلك في تفسيره.
وما ندعيه هو أننا دائما في تفسيرنا للقرآن نحتاج إلى الرجوع إلى السنة الشريفة، لأن المعصوم هو القيّم والحافظ للقران بدليل حديث الثقلين(٥)، والرجوع اليهم لا يعني نقصاً أو تقليلا من حجية القرآن، فلقد قُرر في علم الاصول
٣- الاحزاب ٣٣: ٢٥.
٤- فصلت ٤١: ٤٢.
٥- وسوف يأتي مزيد تفصيل في الفصل الثالث عند البحث في فقه الحديث.
وعليه فإنا نقول إن الافهام بما انها متفاوتة في فهم القرآن واستظهار معانيه لذلك يحتاج إلى قيّم وحافظ، فهمُه محيط بكل معاني القرآن فيُسترشد بفهمه دائما واما ما استدل به العلامة:-
من الدعوة إلى التدبر الواردة في القرآن فيجاب عليها: بأن التدبر المشروط لا ينافي التدبر، والشرط هو الاسترشاد بروايات أهل بيت العصمة، بل ان العلامة كما ينقل من سيرته لم يبدأ التفسير حتى قرأ بحار الأنوار قراءة دقيقة بتفحص ثم بدأ في تفسير القرآن وما ذاك إلا من أجل مراعاة خط أهل البيت وفهمهم في تفسير القرآن.
نعم الدعوة إلى التدبر تقع في قبال السلب الكلي الذي ادعاه الاخباريون من عدم امكانية فهم القرآن إلا من خلال الروايات.
واما الاعجاز والتحدي فهو ممكن لكنه غير مشروط بأن يصل فهم الكافرين إلى كل بطون وأسرار القرآن بل مع الفهم البسيط إلى بعض أسرار القرآن وعجزهم
أما ما ذكره من روايات عرض السنة على الكتاب، فقد تقرر في علم الأصول بان السنة بعضها قطعي ولا معنى للعرض، اما الخبر الظني الصحيح فمعنى عرضه هو عدم مباينته للكتاب وليس المراد الموافقة التفصيلية وكذلك يعرض على السنة القطعية.
واما حديث النسخ وامتناعه فهو غريب منه لأن القرآن قد صرح بصدق الرسول وحجية خبره فما المانع من النسخ.
ونورد عليه نقضا بأن القائلين بهذه النظرية متعددون من العامة والخاصة، ومع ذلك لا نراهم يتفقون في تفسير الايات، وهذا الاختلاف إما راجع إلى الخطأ في
تنبيه:- يجب التفرقة بين طائفتين من الروايات احداهما هي الروايات المبينة لتفسير الآيات فمعها لا يمكن الاعتماد على الظاهر القراني، والاخرى هي الروايات المتعرضة للتأويل التي لا تمنع من حجية الظاهر بل يبقى الظهور على حجيته.
النقطة الثانية: في الملائمة بين الحجج وقد ذكرت في ذلك نظريات متعددة، والذي نراه أن الكتاب والسنة والعقل حجج متكافلة متضامنة فيما بينها تشير جميعها إلى حقائق واحدة، ويجب الرجوع في كل منها إلى المحكم منها لا المتشابه، ويجب الابتداء بالعقل لأن اليه ترجع كل الحجج وليكون هو الاساس. والاسترشاد بالادلة الواردة في القرآن الكريم في باب التوحيد. والسر في ذلك ان العقل مع كونه هو المبدأ في حركة الارادة إلا إنه ليس بالعقل المحيط ولا المرتبط بالوحي، فيجب حتى يأمن الخطأ ويسير في الجادة الصحيحة أن يرتبط بالوحي وهو على نحوين احدهما القرآن الكريم والاخر هو السنة النبوية والمعصومة.
وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.
المبحث الثاني
حجية السنّة
وكما تقدم في حجية الكتاب ليس البحث في اصل حجية السنة فإنه موكول إلى مباحث أخرى من علم الكلام وإلى علم الأصول بل البحث في نكات جانبية لم يثرها الاصوليون:-
أولاً – اقسام الحديث:
ذكروا للحديث اقساما متعددة منها المتواتر والمستفيض والاحاد وقسموا الاخير إلى اقسام منها الصحيح والحسن والموفق والضعيف والمعلل…
وليس الغرض التعرض إلى هذه الاقسام فهو موكول إلى علم الدراية بل الإشارة إلى عدد من المطالب يجب ملاحظتها في العمل الروائي:-
أ – ذكروا في تعريف المتواتر انه اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب، وقد قسم المتواتر إلى لفظي ومعنوي واجمالى – كما نبه اليه المحقق الخراساني – وقد ذكروا ان تعدد الجماعة يجب أن يكون في كل الطبقات وان اختلفوا في تحديد العدد المطلوب(١)، لكن الصحيح هو عدم التعبد بعدد معين بل الضابطة هي امتناع التواطىء على الكذب.
فمن ثم قسموا الضرورات في العلوم وعلم المنطق إلى ضرورات عامة عند عموم الناس وضرورات خاصة عند خصوص شرائح معينة. وهذا يدل على عدم
ونتيجة لما تقدم لا وقع للتعجب من تتواتر الخبر الواصل إلينا وإن اضيقت دائرة التواتر وهذا ما نراه في بعض الأحاديث التي هي مواد خلاف بين المسلمين كحديث الغدير والثقلين حيث نجد أن دائرة التواتر في الصدر الأول واسعة ثم تنحسر هذه الدائرة في العصور المتأخر حتى تكاد تقتصر في نطاق ضيق لدى المتخصصين في هذا الفن.
وأخيراً نشير إلى أن التواتر على درجات كما أن اليقين والجزم على درجات واختلاف الدرجات لا يعني عدم التواتر.
ب – ان النقطة المهمة في التواتر هو التكرار الذي يحصل في روايات مختلفة وهذا هو المحصل للتواتر اللفظي والمعنوي والاجمالي. ومن هنا تبرز اهمية الأخبارالضعيفة (غير الموضوعة او المدلسة) حيث انها تمثل المادة والمنبع الذي يحقق التواتر.
فما يدعيه البعض من وجوب غربلة الاحاديث وترك الضعيفة والاقتصار على
٢ ـ ان الأخبارالضعيفة اذا كانت محفوفة بقرائن توجب الوثوق بالصدور تجعلها معتبرة يعتمد عليها.
٣ ـ ان المطالع والمتتبع في تاريخ البشرية يلاحظ أن اعتماد الناس على الخبر الضعيف بلحاظ التواتر او الاستفاضة، وهذا هو الذي يجعل الخبر موثوقاً بصدوره، وخير مثال على ذلك الإخبار عن الأمم والقرون الماضية، حيث ان مادتها الأولى اخبار لا ترقى الى الصحاح مع قبول الناس لها بلحاظ ما تفيده من الوثوق بصدورها. وتحليل ذلك يعود الى ما يسمّى بعملية حساب الاحتمال وتصاعده البالغ لذلك الحد من الوثوق طبقاً للقواعد الرياضية البرهانية.
٤ ـ إن المباني في قبول الأخبار مختلفة ومتنوعة، فكم من خبر رفض الشهيد الثاني العمل به بينما صححه المتأخرون خصوصا بعد بزوغ طريقة التحليل المشابه للتحليل التاريخي، والاستفادة من طبقات المحدثين التي ابتكرها السيد البروجردي والمحقق الاردبيلي صاحب جامع الرواة. وعليه لا يمكن اعتمادها ضابطة عامة لتضعيف الخبر فالضابطة اجتهادية.
٥ ـ ان الخبر الضعيف (الذي لا يُعلم وضعه او تدليسه) يحرم رده وإن لم يجب العمل به، إذ بين حرمة الرد والحجية فرق، كما حرّر في علم الحديث والاصول، ولم يخالف في هذا الحكم أحد، وتلك الغربلة تعني الرد.
٦ ـ ان الخبر الضعيف ان لم يجب العمل على طبقه فإنه يفيد في مواطن عدة من باب توليد طرح الاحتمال، فهو ليس بأقل ـ بل يفوق ـ استدلالاً منقول عن احد الحكماء أو العلماء السابقين، فأي ضرر فيها ان اعتبرت اشارتها إلى احتمال من
فما ثبت وضعه وتدليسه من الأخبارالضعيفة يجب ردها وتركها اما الأخبار الضعيفة كلها فلا يجوز ردها خصوصاً ان لدينا ضوابط سهلة يمكن بواسطتها تمييز الوضع والتدليس كعرضها على المحكمات في الكتاب والسنة والعقل. وبالتالي لا يكون نقل الاحاديث الضعيفة تغريراً على المسلمين حيث ان الخبر الضعيف مهما بلغ شأنه لا يمكن ان يحرف المسلمين عن جادة المحكمات في الحجج الثلاث. ومن هنا تساهل القوم في نقل الضعاف لما لها من فوائد جمّة في الحجية، ولا مجال لتوهم اتحادها مع اخبار الوضع والدس(٢).
د ـ إن المسألة المهمة التي يجب الالتفات اليها هي مسألة تجميع القرائن حتى يوثق بصدور الرواية عن المعصوم، حيث من النادر ان تكون قرينة واحدة كافية
ومن القرائن التي تذكر في هذا الباب الشهرة العملية والروائية بل حتى الفتوائية وهي ممكنة الحصول في باب الاعتقادات من ملاحظة كتاب الاعتقادات للصدوق والامالي، والشهرة وإن نوقش في مدى جبرها للضعف، لكن على ما ذكرناه في المقام تكون قرينة من القرائن لا انها قرينة مستقلة.
ومنها: ان يرد الخبر في بعض الكتب المعتبرة ككتب صفوان بن يحيى او محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الزيات، والحسن بن محبوب المعروفين بضبطهم.
ومنها إنه يروي الخبر راو هو على مذهب مخالف لما يرويه من مضمون. وغيرها من قرائن توثيق الصدور المحرّرة في تلك المسألة.
هـ ـ نشير اخيراً إلى قسم من اقسام الحديث هو المستفيض، وهو الخبر الذي يقرب من المتواتر ويرتفع عن الآحاد، حيث أن رواته لم يبلغوا حد التواتر لكنه يكون مؤيدا ومدعوماً من جهة القرائن الداخلة والخارجة فيصبح مستفيضاً والخبر المستفيض أو الموثوق الذي بدرجته يصح الاستناد اليه كما هو مقرر في علم الأصول، بل درجة حجيته تفوق الخبر الصحيح.
ثانياً: احوال الكتب الاربعة والمصادر الروائية:
وفي بحث الكتب توجد مسألتان يجب معالجتهما قبل الاستناد إلى اي كتاب:
اولا: إثبات نسبة هذا الكتاب إلى المؤلف.
وثانياً: اثبات ان هذه النسخة الواصلة الينا هي النسخة التي ألفها المؤلف، ولم تصل لها يد التحريف.
وعلم الدراية هو العلم المختص بمعالجة هاتين المسألتين، لكنهم لم يذكروا سبيل العلاج على نحو مفهرس، لكنّا نستطيع عملاً اقتناص بعض النقاط لتوضيح منهجهم في العمل:-
١ ـ الالمام بكتب الفهارس حيث أنها تختص بذكر كتب الطائفة واسماء مؤلفيها.
٢ ـ التعرف على سلسلة اسناد وطرق صاحب الفهرست للكتاب أو صاحب المجاميع الروائية المتأخرة أو المتقدمة، فيُعرف انه لم يذكره في فهرسته اعتمادا على الشياع ونحوها بل بطريق مسلسل مسند.
٣ ـ التعرف على مدى اشتهار الكتاب بين طبقات المحدثين والفقهاء وذلك بملاحظة:-
أ ـ سلسلة الاجازات المعروفة كإجازات العلامة المجلسي، واجازة العلامة الحلي لابن زهرة، وكذلك اجازات صاحب الوسائل.
ب ـ متابعة كتب الاستدلال في الاحكام الفرعية ـ بحسب القرون المتعاقبة ـ حيث يعلم منها مدى اشتهار الكتاب، وهذا يفيدنا فيما نحن فيه باعتبار ملاحظة روايات الاعتقاد المذكورة فيه.
٤ ـ من خلال ملاحظة المجاميع الروائية في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، فانه يعلم منها ان لكل منها طريق خاص إلى الكتب الروائية الأم مع افتراق
٦ ـ ملاحظة الحواشي والتعاليق والتملكات الحاصلة على النسخ الخطية حيث يتبين من خلالها مدى معروفية النسخة وموثقيتها.
٧ ـ يجب على المتتبع والباحث ان يلفق ويقرن بين الطرق المختلفة ويستعين بكتب مختلفة من اجل ان يحرز صحة رواية او صحة نسبة كتاب لمؤلفه، فمثلاً في العصور المختلفة إلى اصحاب المجاميع يستعان بكتب الذريعة، ورياض العلماء، واعيان الشيعة، وطبقات الشيعة وغيرها، ومن اصحاب المجاميع كالوسائل والبحار والوافي وتفسير البرهان وغيرها، ويستعان بما يذكره المؤلف في مشيخته او فهرسته او كتبه الاخرى، وقد ترد طبقات مجهولة تقريباً وهي ما بين اصحاب الكتب الاربعة وما بعدهم فهذه يجب ان يتم التتبع والمقارنة والتلفيق بين كتب مختلفة.
ومثال ذلك رواية القطب الراوندي في باب ترجيح الروايات رواها صاحب الوسائل في باب ٩ من ابواب صفات القاضي، ومشكلة هذه الرواية مع اهميتها ان صاحب الوسائل يرويها عن رسالة للقطب الراوندي في رسالة ألفها في احوال احاديث اصحابنا، ولم يرد ذكر هذه الرسالة في كلام مَن عدد وذكر مصنفات الراوندي، لا سيما تلميذه ابن شهر اشوب ومنتجب الدين، وقد توسل السيد الشهيد الصدر بطرق عدة للتصحيح هذه الرواية والتلفيق بين اسناد وطرق مختلفة(١).
ثالثاً – العلم الاجمالي بوجود الدس:
من المسائل المثارة في علم الحديث هو دعوى وجود علم اجمالي بحصول دس ووضع في الاحاديث والروايات، وقد ذكرها الشيخ الانصاري في كتاب الرسائل في حجية خبر الواحد. ومن القرائن على دعوى حصول هذا الدس:-
ـ ما ورد من روايات عن الائمة بوجود كذابين:
منها: ما رواه الكشي في ترجمة عبد الله بن سبأ عن الصادق (عليه السلام): انا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) اصدق الناس لهجة واصدق البرية كلها وكان مسيلمة يكذب عليه(١).
ـ ما رواه في ترجمة المغيرة بن سعيد(٢).
عن الرضا (عليه السلام): ان ابا الخطاب كذب على ابي عبد الله (عليه السلام) لعن الله أباالخطاب. وعن ابي عبد الله (عليه السلام): كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان اصحابه المستترون بأصحاب ابي يأخذون الكتب من اصحاب أبي. فيدفعونها إلى المغيرة لعنه الله، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى اصحابه ويأمرهم ان يبثوها في الشيعة، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة ابن سعيد في كتبهم.
وقد وصف الرضا (عليه السلام) وهب بن أبي وهب البختري: لقد كذب على الله وملائكته ورسله.
وهذه القرائن وغيرها تكون محققة لعلم إجمالي بوجود الدس والوضع والتزوير في الأخبارالتي بين أيدينا، وهذا العلم الاجمالي هو الذي دعا البعض إلى
١ ـ ما ورد من عرض الكتب على الائمة.
منها: ما رواه الكشي عن داود بن القاسم ان ابا جعفر الجعفري قال: ادخلت كتاب يوم وليله الذي الفه يونس بن عبد الرحمن على ابي الحسن العسكري (عليه السلام) فنظر فيه وتصفحه كله، ثم قال: هذا ديني ودين ابائي وهو الحق كله(١).
ومنها ما رواه الكشي(٢) في ترجمة الفضل بن شاذان من ان ابا محمد (عليه السلام) دخل عليه حامد بن محمد ـ الملقب بغورا ـ الذي بعثه الفضل بن شاذان فلما اراد ان يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف برداء له، فتناوله (عليه السلام) ونظر فيه وكان الكتاب من تصنيف الفضل، وترحم عليه.
ومنها: ما ورد في عرض كتاب سليم بن قيس على السجاد (عليه السلام).
ومنها: عرض كتاب ظريف بن ناجح في الديات على ابي عبد الله (عليه السلام) والرضا (عليه السلام)(٣).
ومنها: ما ذكره الحر العاملي(٤) حول عرض كتب يونس بن عبد الرحمن، وكتب بنى فضال، والفضل بن شاذان، وعبيد الله بن علي الحلبي على
٣- الوسائل باب ٨ من ابواب صفات القاضي ح ٣٢.
٤- في الوسائل في الباب ٨ من ابوب صفات القاضي ح ٧٣ – ٨١.
٢ ـ ان اصحاب الكتب كانوا يدققون في الكتب والروايات ولا يودعونها إلا بعد ان يتيقنوا عدم الدس. كتشدد القميين في قبول الرواية، واخراجهم الضعاف او من يروي عن الضعاف من قم. وكاستثنائهم لروايات كتب الحديث كالذي استثنوه من نوادر محمد بن أحمد بن يحيى الاشعري وما نقل من تشدد محمد بن الحسن بن الوليد معروف. ومن يتصفح تراجم القميين يراه حافلاً بعملية تصفية وغربلة الأحاديث.
٣ ـ ما ورد في ترجمة العديد من الرواة من أنه لا يروى ولا يرسل إلا عن ثقة كابن ابي عمير وغيره.
٤ ـ اهتمام الاصحاب بكتب الفهارس والتي غرضها تصحيح السند إلى صاحب الكتاب، وقد بدأ تصنيف الفهارس من الحسن بن محبوب.
٥ ـ ما ورد في طريقة رواتهم حيث لا يعتمدون على التلقي فقط بل يروون عمن سمع من الثقات اما من وجد في الكتب فقط فيتحرزون في الرواية عنه حتى ان علي بن الحسن بن فضال لم يرو كتب ابيه الحسن عنه مع مقابلتها عليه، وانما يرويها عن اخويه احمد ومحمد عن أبيه، واعتذر عن ذلك بأنه يوم مقابلة الحديث عن ابيه كان صغير السن ليس له كثير معرفة بالحديث.
وملاحظة ديدنهم في كتب الامالي، وما ذكره الميرزا النوري من ان التهذيب وصل اليه وعليه توقيع تلامذة الشهيد الثاني وأنهم قرأوه عليه وكذا ما ذكره الفخر في الايضاح عن التهذيب، يظهر مدى عناية المحدثين في النقل والرواية.
٦ ـ ما هو منقول في كيفية تصنيف كتب الحديث فالكليني قضى عشرين سنة
مضافاً إلى أن خصوص القرائن المولّدة للعلم الإجمالي الأول هي بنفسها مذيلة بما يوجب انحلالها، فإن الأئمة (عليهم السلام) كانوا على ترصّد ومراقبة لما يدلّسه أولئك الكذبوان، وذكروا ضوابط لمعرفة الحديث المدلس والموضوع من أولئك بحيث تمت عملية الغربلة في ذلك الحين. مضافاً إلى ضوابط روايات العرض على الكتاب والسنة القطعية.
فيتحصل ان القرائن الكاشفة عن اهتمام الاصحاب في تنقيح الأخبار كثيرة جدا، مما يدعو إلى انحلال العلم الإجمالي الأول. وهذه الاحاديث التي بين دفتي كتب المتأخرين صادرة عن المعصومين (عليهم السلام). بالاضافة إلى قرائن الدس المزعومة ما هو حاصل في مسائل معروفة معينة، وهذا إن ادى إلى الانسداد فانه يسده في بابه لا في كل الأبواب كما ذهب اليه البعض، فدائرة العلم الإجمالي الأول ليست واسعة حتى تشمل كل الروايات. ويؤدي إلى القول بالانسداد في جميع ابواب الفقه.
المبحث الثالث:
حجية العقل
وينقسم العقل إلى قسمين نظري وعملي.
١ ـ اما النظري فهو القوة الموجودة في الإنسان المجردة عن المادة والتي بواسطتها يحصل الادراك وهي تنطلق من رأس مال البديهيات والفطرة وهو معصوم فيها ومنها ينطلق إلى النظريات والتي لا يكون معصوما فيها. وتجدر الإشارة إنه في بديهياته لا يكون خالقاً لها وانما تصل اليه عن طريق اتصاله بالعوالم العالية عن طريق الالهام الفطري او الايحاء.
ـ والحقائق التي يقوم على اثباتها العقل النظري غير متناهية بل متطورة فبعض الحقائق عجز عن اثباتها بالبرهان الفلاسفة المتقدمون كابن سينا بينما اثبتها المتأخرون نحو المعاد الجسماني فقد عجز عن ذلك ابن سينا بينما اثبتها صدر المتألهين مسترشداً بالدليل النقلي، وكذلك مسألة الرجعة فقد اثبتها من المتأخرين بالبرهان ابو الحسن الرفيعي(١)، فعدم اقامة السابقين الدليل العقلي علي مسألة لا يعني عدم امكان المتأخرين على ذلك، فليس من سبق كُمّلي العقول حتى يمتنع على المتأخرين اقامة البرهان بل العقول في سير تكاملي إذ الفحص والاسترشاد بالوحي يفتح ابواباً واسعة من العلوم والمعارف العقلية.
ـ ما ثبت بالقطع من الوحي المحمدي يعتبره فلاسفة العهد الاسلامي وسطاً