الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ١٤١ – ١٦٠
وهذه تؤكد أن المشاورة هى أحد اساليب الفحص والبحث قبل اتخاذ الرأي النهائي والعزم الارادي في المسألة، وهو ما اشرنا اليه وأنه الفعل الأول للفكر.
ـ وأوضح من كل من مضى ما يذكره ابن فارس ان شور وضعت لأصلين مفردين الأول: ابداء شيء وأظهاره وعرضه. والآخر أخذ شيء(٣).
وكلا المعنين شاهدان على ما ذكرناه فالاول عملية استكشاف واختبار وفحص، والثانية أخذ الرأي الصائب من تصفح الاراء.
فتكاد كلمات اللغويين تشير الى هذه الحقيقة في الشورى ولم يرد منها ذكر واشارة الى جهة سلطة أو ارادة أو ولاية أو قدرة تتحلى بها الشورى.
ـ ومن كتب اللغة المتأخرة نرى ما ذكر في المعجم الوسيط شار الشيء عرضه ليُبدي ما فيه من محاسن، وأشار اليه بيده، أومأ إليه معبراً عن معنى من المعاني كالدعوة للدخول والخروج. اشتور القوم: شاور بعضهم البعض، والمستشار: العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام علمي أو فني أو سياسي او قضائي ونحوه، هو اصطلاح محدث (إلا انها ليست مرتجلة بل منقولة عن الاصل اللغوي لمناسبة بين المنقول منه والمنقول اليه بل قد يقال انه نفس المعنى القديم وليس معنى جديداً
٣- معجم مقاييس اللغة مادة (شور).
وكل ما تفيده الكلمة انها شبيه ما يسمى بـ (بنك المعلومات او بنك الخبرات).
ويمكن أن نضيف بعض الشواهد المؤيدة لما ذكره اللغويون:
١ ـ ان البشرية تعتمد على نظام المستشارين في ادارة اي عمل وقلما يوجد مدير أو مسؤول خال عن المستشارين وفي نفس الوقت لا يكون لهم أية سلطة على المستشير بل وظيفتهم مجرد ابداء الرأي والنصح.
٢ ـ ان الفقهاء من الفريقين يذكرون أن أحد أنواع الاستخارة هي الاستشارة وهذا يدل على أن فهمهم لمادة الشورى هو بمعنى انتقاء الرأي الصائب لا وجود سلطة للمستشار على المستشير.
٣ ـ سوف نشير فيما بعد الى التحليل الماهوي لمادة الشورى حيث نذكر انه لا ملازمة بين ابداء الرأي ووجوب الأخذ به. وانما الملزم هو حقانية الرأي واستصوابه.
٤ ـ أن الآية الشريفة في مقام بيان صفات خاصة يتحلى بها المؤمنون ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي وعدم نبذهم لاراء الاخرين، فهي تشير الى ما يجب أن يتحلى به المسلم في شؤونه الخاصة من تحريه للصواب والحكمة وهي ضالته أينما وجدها أخذها، وليس الامر محصوراً بالشؤون العامة التي تهم جميع المسلمين.
٩ ـ ما ورد في اول سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
اي لا تتقدموا على رسول الله فى البت في الامور فضلاً عن تنفيذها فانها ليست من وظيفتهم بل هي وظيفة القيادة في حسم الامر واتخاذ القرار النهائي. فهم تابعون حتى مع طلب المشورة منهم.
بل إن ملاحظة ما تقدم هذه الآية من قضية اخبار وليد بن عقبة حول بني المصطلق وتريث الرسول الاكرم في الاخذ بقوله، وعدم تريث المسلمين بل تصميهم على العمل بقوله، فالآية تنهاهم عن مثل هذا العزم المتقدم على عزم الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله).
١٠ ـ ان الحكمة من المشاورة بناء على هذا هو ربط القيادة بالقاعدة وتحفيز المواطنين على المشاركة في الشأن العام.
تلك عشرة كاملة تدعم وتثبت الاصل اللغوي لاصطلاح الشورى وهو مداولة الاراء وتكون جسراً للتفاهم والتحاور وايصال المرادات حتى يصل القائد والمستشير الى نتيجة أقرب الى الصواب ويقل احتمال الخطأ فيها.
وبناء على هذا التحقيق في المعنى اللغوي نصل الى ان التعبير السائد بولاية الشورى غير صحيح وذلك لأن الولاية تدل على القوة العملية والتنفيذية وجهة
الوجه الثاني:
ما استدل به في {وأمْرَهُم} من ان الاضافة دالة على أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين.
فجوابه بعد بيان مقدمة ان علماء اصول الفقه واصول القانون يتفقون على أن القضية لا تتكفل اثبات موضوعها بمعنى أن القضية تدل على ثبوت المحمول والحكم للموضوع ويكون الموضوع مفروض الوجود والتحقق، اما تحديد الموضوع وتعيين موارده ومصاديقه فهو قضية اخرى لا تتصدى لها نفس القضية.
وبناء عليه فاذا نظرنا الى الآية الكريمة التي تشير الى {وأمْرَهُم} فغاية ما تدل عليه ان الامر والشأن مضاف الى المسلمين ولكي يترتب عليه المحمول كما يدعيه المدعى يجب توفر امران:
احدهما: أن يكون الامر مما يهم جماعة المسلمين.
والثاني: أن يكون صلاحية النظر في هذا الأمر اليهم أي مضاف اليهم مختص بهم. وهذا شرط مهم حتى يمكن تطبيق الآية والحكم بشورائية الأمر. فيجب ان نحرز أن هذا الأمر المجموعي مفوض وموكل الى الجماعة ومما لا شك فيه ان تعيين الامام وثبوت النص وعدم اقحام الامة في اختيار قيادتها سيما في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) أمر مسلم لا يختلف في الأول أحد من المسلمين ولا في الثاني أحد من الشيعة، فانه يدل على أن هذا الشأن وهو اتخاذ القائد والزعيم ليس من الامور التي تعود صلاحيتها بيد الشورى وعلى كل حال فنفس الآية ومجرد
الوجه الثالث:
ملاحظة ذيل الآية {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}.
فان العزم يغاير الشور وهما ليسا بمعنى واحد، فالأول متأخر عن الثاني زماناً اذ أنه حاصل بعد الاستشارة في سياق الآية الكريمة، وهو بحسب بياننا لمراحل التفكير يمثل الفعل الثالث في افعال النفس للانسان الصغير أو الكبير، وهو عنوان للقوة الاجرائية والتنفيذية وهي تسند العزم له وحده (صلى الله عليه وآله) دون بقية المسلمين. فاتخاذ القرار بيده.
مضافاً الى أن الشورى جعلت فيها للمجموع أما هنا فانه مسند اليه وحده. فهذه مقابلة بين الفعلين مادة واسناداً.
وثالثاً: ان الأمر بالتوكل هو للنبيّ (صلى الله عليه وآله) والخطاب له وحده.
ورابعاً: ان مادة التوكل يؤتى بها لأجل استمداد القوة ورباطة الجأش، فهو يدل على انه (صلى الله عليه وآله) لو خالف رأيهم فعليه ان يعزم عليه ويتوكل على الله.
وخصوصاً اذا ما قارنا هذه الآية مع ما ورد في سورة الشعراء: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}.
ففيها ندب للرسول الاكرم ان يربي المسلمين ويجذبهم بلطيف المعاملة وحسن السيرة وخفض الجناح. وليس هذا معناه أن يكون لهم سلطة عليه بل يبقى الامر بيده وعليهم المتابعة والانقياد. فادراة شؤون الامة والحاكمية ليست أمراً فردياً يقوم به شخص واحد ولو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل هو واجب مجموعي يتقاسمه الحاكم والمحكوم كل حسب دوره، ولذا حرص الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) على
الوجه الرابع:
وهو جواب عما قيل انه لو لم تكن نتيجة الشورى ملزمة لكان الأمر بها مع الآية الكريمة عبثاً. وهذا يقودنا الى البحث عن الحِكَم والمصالح المترتبة على الشورى وهي كثيرة:
منها: تطييب القلوب وتآليفها.
ومنها: اختبار القيادة للقاعدة وتمحيصهم لمعرفة المؤمن الذي يشير من واقع الاحساس بالمسؤولية من غيره الذي يتبع هواه.
ومنها: اشراكهم في الأمر وأن للأمة دور في ادارة دفة الحكم وأنّ القرار الصادر وإنْ كان بيد القائد إلا أنّ لهم دور في صنعه مما يجعلهم يتعاملون معه في تنفيذه ونشره والدفاع عنه بين الناس بشكل أكبر وحماس أكثر حيث يكون عملهم على بصيرة وقناعة.
ومنها: أن الاستشارة تكون نوعاً من تربية القائد للامة على كيفية التعامل مع الحوادث المختلفة وأن المحور في كل الاستشارات هو الرأي الصائب والحقاني.
ومنها: أن في الاستشارة حداً من الاستبداد البشري والدكتاتورية المطلقة التي
فهذه الحِكَم وغيرها التي تظهر بالتأمل يتضح ان لا لغوية في البَين وهي حكم ومصالح مهمة في نفسها يهتم بها الشارع ومن أجلها يكون تشريع الاستشارة والحث عليها. وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة في البحث العقلي.
فاتضح من خلال هذه الوجوه الاربعة أن المستدل اذا استدل بالآية الكريمة على لزوم رأي الاكثرية من اصطلاح (الشورى وشاورهم) فهو غير دال على ما ذكر.
اما اذا استدل على مراده من خلال بيان ان الولاية هي للمجموع فإنه لم يقم الدليل عليه ونفس الآيتين لا تثبتان موضوع نفسهما. كما تقدم بيانه بل يجب أن يقيم دليلاً آخر على أن هذا الامر والشأن هو لمجموع الأمة وحينئذ يكون لهم الولاية. والمستدل يستفيد من هذه المغالطة في الاستدلال بالآية الكريمة.
الوجه الخامس:
لو أغمضنا العين عن حقيقة معنى الشورى، وسلمنا أنها بمعنى الارادة والولاية
الوجه السادس:
فقد استشهد بالعديد من الوقائع والحوادث التي تمسك بها الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) برأي الاكثرية المشاورة ولم يخرج عنها. وفي مقام الجواب نشير من باب المقدمة الى حقيقة تأريخية يجب أن يلتفت اليها عند تحقيق الحال في الحوادث التأريخية. بيان ذلك:
أن المدقق في سيرة النبي الأكرم وما جرى بعد انتقاله الى الرفيق الاعلى يلاحظ ان الملتفين حول الرسول الاكرم لم يكونوا على نسق واحد من الجهة الايمانية بل كانوا على درجات مختلفة وأهواء متعددة، وان كان وجود النبي (صلى الله عليه وآله) قد منع البعض من اظهار ما يكنّه لكنه بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) رأى متسعاً لاظهار حقيقة أمره واتباعه لاهوائه فظهر خطان مختلفان تمام الاختلاف، وكان من تقدير الله عزوجل أن يتولى قيادة الامة طيلة سنوات متمادية بل قرون طويلة الخط المناوئ لعلي (عليه السلام) وأهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله).
أنّه لمّا سمع الرسول (صلى الله عليه وآله) بخروج قريش قال للمسلمين: اني قد رأيت والله خيراً. رأيت بقرا ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني ادخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة.
ثم انه استشار قومه في قتال المشركين وكان رأي عبدالله بن أبي بن سلول مع رأي النبي (صلى الله عليه وآله) وهوالبقاء في المدينة. وقال له: يارسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج
هذا هو التقرير الرسمي لما جرى في حادثة الاستشارة في غزوة أحد. ونشير مصادر اخرى كما في الكامل في التاريخ ابن كثير في (٣: ٢٣) وأبى كثير من الناس إلا الخروج الى العدو ولم يتناهوا الى قول رسول الله ورأيه ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر وعامة من أشار اليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً قد علموا الذي سبق لاصحاب بدر من الفضيلة.
ويدل ما ذكره ابن كثير أنّ كبار الصحابة كانوا يرون رأيه والشباب المتحمس هو الذي أصر على الخروج.
اذن فالآية وردت في هذه الغزوة وقد طبقها الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث استشار قومه
وعدم الاخذ بالأمر على عواهنه من دون غربلة وتحقيق ومن خلال تشعبنا واستخدامنا لهذا المنهج اعني العرض على القرآن الكريم ومقارنة الروايات المختلفة نستنتج:
١ ـ ان رأي الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) لم يكن البقاء في المدينة بل الخروج منها.
٢ ـ ان الصواب من الناحية الحربية والقتالية هو الخروج لحرب المشركين خارج المدينة.
٣ ـ ان سبب هزيمة المسلمين في أحد لم يكن الخروج من المدينة ـ كما يظهر من بعض الكتّاب ـ بل هو تخلف المسلمين عن التوصيات العسكرية لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
٤ ـ أن البقاء في المدينة كان رأي عبدالله بن اُبي بن سلول وهو رأس المنافقين والذي اثنى ثلث جيش المسلمين عن القتال مع الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله). وقد وافقه على ذلك أكابر الصحابة وهم الذين كانوا على رأس عقد البيعة لأبي بكر وهم اصحاب الصحيفة السبعة، اثنين من الانصار وخمسة من المهاجرين.
٥ ـ ان القرآن امتدح القتال خارج المدينة وذم البقاء داخلها.
٦ ـ أن الله عزوجل قد وعد المسلمين بالنصر المؤزر قبل غزوة أحد اذا هم خرجوا للحرب.
أما القرائن التي يستفاد منها هذه المدعيات:
ـ ان دعوى الانصار كانت مستندة الى دلائل على أن الخروج افضل منها:
أ ـ أن بقاءنا يطمع فينا أعدائنا ويضعف شوكة المسلمين من الجهة السياسية والعسكرية.
ب ـ أن ذلك سوف يحرمنا من الاراضي التي حول المدينة حيث سوف يمنعونا من الاستفادة منها مضافاً الى طمع كثير من القبائل في هذه الأراضي.
ج ـ ان عدتنا في بدر كانت أقل من ذلك وكان النصر حليفنا، فكيف في هذه المعركة التي تضاعف فيها عدد المسلمين وقويت شوكتهم.
هذا مضافاً الى أن بعض كتب السير قد عبرت عن أصحاب الرأي بالخروج أنهم من ذوي البصائر والرأي وعن اصحاب الرأي في المكث والبقاء في المدينة بالمتخاذلين فكيف يكون الصواب هو المكث وكيف يكون ذلك هو رأي الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله).
القرينة الثانية: وهي العمدة في الباب حيث نستنطق الآيات الواردة في هذا الباب وهي في سورة آل عمران (١٢١ ـ ١٦٠).
وهذه الآيات الكريمة تتحدث عن الواقعة بنحو مفصل وسوف نورد أهم النقاط الواردة حسب ترتيبها:
١ ـ {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} حيث أن الله عزوجل يذكّر النبي (صلى الله عليه وآله) عندما خرج يهيئ أماكن القتال، ومواضع الرماة والفرسان في غزوة أحد، فهذا مدح لما فعله النبي (صلى الله عليه وآله) من الخروج للقتال وتحريضه للمؤمنين على ذلك، وفي ذيلها يشير الباري عزوجل الى أنه سميع
٣ ـ {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَف مِنَ الْمَلاَئِكَة مُنزَلِينَ.. لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}، ففي هذه الآيات تذكير للرسول بما جرى يوم بدر حينما خرج لمحاربة الكفار وكانوا قلة ومع ذلك انتصروا ودحروا الكفار وذلك بالامداد الغيبي وبالملائكة الذين كانوا يقاتلون ويدخلون في قلوب الكفار الرعب.
فهذه الآيات وان كانت نازلة بعد غزوة أحد إلا أنها تعكس الموقف الذي جرى قبل الغزوة وتخاذل بعض المسلمين وتذكير الرسول لهؤلاء ان الخروج للقتال هو الافضل حيث ان الامداد الإلهي حاصل بلا شك كما حصل في غزوة بدر، فما كان البعض يصر عليه من ضرورة البقاء في المدينة لأنه أحفظ للأنفس وأمنع لا داعي له إذ أن المدد الإلهي متيقن والله يعد رسوله بالنصر في حال الخروج لمقاتلة الكفار.
ثم تتعرض الآيات (١٢٩ ـ ١٣٨) الى مواضيع اجنبية عن البحث ويعود الى محل الكلام في الآية ١٣٩.
٥ ـ ثم يبين الحِكَم والمصالح التي تظهر من تلك المداولة والفوز والخسارة فانها امتحان للمسلمين {وَلِيُـمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } فالحكمة واضحة والابتلاء ظاهر، فليس جميع المسلمين في مرتبة واحدة من الايمان والاعتقاد فيجب تمحيصهم وابتلاءهم بشتى صنوف الاختبار واذا ما انتصر الظالمون يوماً فهذا مؤقت ولا يدل على حب الله لهم، بل هو امتحان وابتلاء للمؤمنين، ودخول الجنة ليس بالايمان اللفظي بل بالعمل والجهاد والصبر.
فما حصل من تضعضع في صفوف المسلمين يجابهه القرآن ويرفعه ويذكرهم {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} وقد ورد ان المؤمنين عندما اخبرهم الله تعالى بمنزلة شهداء بدر قالوا: اللهم ارنا قتالاً نستشهد فيه. وقد نقلت كتب السير بعض مواقف هؤلاء الثابتين والمشتاقين الى لقاء الله.
٥ ـ {وَمَا مُحمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}.
وهذا هو الامتحان الأهم فبعد أن سيطر الكفار على ساحة المعركة لأسباب سوف تشير اليها الآيات القادمة. ولم يبق مع الرسول الاكرم إلا الخلّص مثل أمير
وفشا في الناس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً الى عبدالله بن أبي فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان، يا قوم ان محمداًقد قتل فارجعوا الى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم”(٢).
ومنهم عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان وهما رجلان من الانصار فقد فروا حتى بلغوا الجلَعب جبلاً بناحية المدينة، فأقاموا به ثلاثاً(٣) ومن اراد المزيد (الصحيح من سيرة الرسول الاعظم ٢ / ٢٤٠ ـ ٢٥٠).
فالاية الكريمة تصف فرقتان من المسلمين.
احدهما المنقلبة والاخرى الثابتة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد وصف الله عزوجل الاولى انها لا تضر الله شيئاً بل الضرر لأنفسهم أما الثانية فمنهم الشاكرون الذين سيجزيهم الله.
وفي الآيات التالية يؤكد على ذلك ويكرر الباري تعالى {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } ويستمر القرآن في وصف الفئة التي ثبتت مع النبي (صلى الله عليه وآله) على قول الحق ولا يصيبهم
٣- تاريخ الامم والملوك ٢ / ٢١.
{قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ} وهو مالك كل شيء.
فيتضح أن الله قد وبّخ المسلمين في ثلاثة مواضع:
١ ـ عصيان الرماة لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) وتركهم لمواقعهم.
٢ ـ الفرار عندما أُشيع موت الرسول (صلى الله عليه وآله).
٣ ـ ظن البعض بالله ظن الجاهلية ونسبة العجز إليه جلّ عن ذلك وعلى علواً كبيراً.
٩ ـ ثم يتعرض الحق تعالى لما يقولون {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
وهذا التصريح بأنهم في ساعة الهزيمة كرروا قولهم أن لو كنا في المدينة لكنّا أمنع وأحصن متناسين تقدير الله وقضاءه الذي لا راد له حتى لو كان في أمنع الحصون فهذا ذم لهم على تفكيرهم، وسوف يرد ذم آخر لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الارْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ
وبعد هذا التوبيخ تبين الآيات مصير المجاهدين والمستشهدين هو الجنة والقرب الالهي، ثم في هذا السياق تردآية وشاورهم في الامر في سياق بيان صفات النبي التي تحلى بها من حسن الخلق ولين الجانب.
١٠ ـ تعود الآيات للتذكير بين واقعة أحد وواقعة بدر.
{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} حيث نسب البعض الى النبي هذه الخيانة في المغنم {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَط مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} وذلك في غزوة بدر حيث انكم قد اصبتم الكفار بعض ما اصابوكم الان {قُلْتُمْ أَنَّى هذَا} اي من أين هذا اصابنا وظننتم بالله ظن الجاهلية {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} اي بسبب فعلكم وعصيانكم {إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ}.
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاِْيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ…}
ثم تبين الآيات صفات المؤمنين من الثبات ورباطة الجأش وعدم الخوف ثم