الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ٢٢١ – ٢٤٠
وكان النصب على نحو نصب خاص ونصب عام ونجد أن فقهاء الشيعة يجعلون المناصب ثلاثة: الافتاء ـ القضاء ـ المرجعية، حيث يرون لكل منها شروطاً تختلف عن الاخر وقد تتداخل بعضها وهذا التفصيل استفيد من روايات الائمة (عليهم السلام) فعن تقرير يرفعه أحد عيون الجاسوسية للدولة العباسية ـ يرويه لنا الكشي في كتابه الرجالي ـ يصف الشيعة في الكوفة انهم على ثمان طوائف أحدها زرارية بن أعين والاخرى مسلمية اتباع محمد بن مسلم وهشامية اتباع هشام بن الحكم وبصيرية أتباع ابي بصير وهذا يذكر في الحقيقة تعداد الجماعات الشيعية التي ترجع الى فقهاء الرواة عن الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) كما نجد أن الائمة قد أجازوا اقامة الحدود بما يتناسب مع هذه الحكومة الخفية كالاب على ابنه والزوج على زوجته والسيد على عبده.
ج ـ الممانعة من الجهاد الابتدائي مع السلطة الاموية والعباسية كما في رواية زين العابدين (عليه السلام) في الرواية المعروفة عندما اعترض عليه أحد أقطاب العامة قائلا تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجج وليونته والله تعلى يقول: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ…هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فأجابه (عليه السلام) اكمل الآية فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ
هـ ـ الاشراف على تولي المناصب في الدولة القائمة من قبل بعض الشيعة حتى يسهل ادارة امور الشيعة. كما في الامام الصادق (عليه السلام) مع داود الزربي والكاظم (عليه السلام) مع علي بن يقطين، والصادق (عليه السلام) مع النجاشي في توليه للاهواز والامام الرضا مع محمد بن اسماعيل بن بزيع.
و ـ الاذن لاصحابهم في التصدي للفتيا.
ز ـ تقنينهم لبعض التشريعات الولائية التي هي مقتضيات منصب الحاكمية وليست تشريعات ثابتة. فكما في احياء الموات والأمور الخاصة بها، والتفويض الخاص بالأراضي هو نوع من الممارسة الولائية وليس تشريعاً ثابتاً بدليل ما في بعض الروايات المشيرة الى أنه عند ظهور الحجة (عليه السلام) سوف يتغير هذا النظام في الاراضي.
ح ـ اعفاؤهم شيعتهم من اعطاء الخمس في بعض الموارد وفي بعض السنين كما في رواية علي بن مهزيار عن الجواد (عليه السلام). وما ورد عن الباقر (عليه السلام) في تقنين نظام التضمين وعدم ضمان الاجير.
ط ـ حث الشيعة على التمسك بالأحكام الخاصة بالمذهب من التولي والتبري،
ثانياً: الدين والسياسة:
اما ما ذكر من ان السياسة ليست من الدين وان الحكومة من الأمور الخارجة عن التكليف الالهي وان الكتاب غير حاو لاحكام السياسة فيجاب عنه:
أ ـ ان القران عالج جوانب عدة من كيفية اقامة النظام في المجتمع، فوضع نظام الاحوال الشخصية، وقواعد القضاء وهذه القواعد التي تتفرع منها الاف القضايا الفرعية، وكذا الحدود الجنائية والتعزيرات، والجهاد وأحكامه والذي هو نظام علاقة المسلمين بالكفار وبأهل الكتاب في الحرب والسلم، والخطوط العامة للنظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة في دائرة القتصاد الكل والجزء (الدولة والمدينة والريف) ونظام المنابع المالية العامة، وقد أعدت دراسات حديثة لاستخراج نظام القانون الدولي بين الدول من القران.
فهل يعقل ان يقال ان من اهتم ببيان هذه الموارد اغفل عن ذكر نصوص تتعلق بالحاكم وشروطه وتعيينه.
ب ـ ينقض على المستشكل بأن حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) في تلك الفترة الحرجة
ثم ان مقتضى أن الله سبحانه وتعالى مالك للمخلوقين ولأفعالهم أن مبدأ وأصل الولاية هو لله تعالى وان كل الولايات تتشعب من ولايته “الولاية لله الحق” و”ان الحكم الا لله”، وهذا أصل غاية الأمر حيث جعل للإنسان الاختيار لا القسر كانت الولاية الربانية عليه من نمط تكويني غير قاسر ونمط تشريعي اعتباري قانوني فمنطق التوحيد ومنطق الشرعية الالهية يبنى على أن أصل الولاية لله وأن كل شعبة لابد وأن تنتهي الى ذلك الأصل.
نعم، المنطق الوضعي غير المتقيد بالملة والنهج السماوي وأن للكون خالقاً مالكاً، يجعل مصدر الولاية هو الانسان وسلطة الفرد على نفسه، فيجعل من العقد الفردي والاجتماعي مصدر السلطات والولايات كما يفصل ذلك الدكتور السنهوري في (الوسيط) فبين المنهجين بعد المشرقين.
د ـ إن أحدث النظريات في القانون الوضعي تشير الى أن تعيين القائد الذي
بل ان الدراسات القانونية في الفقه الوضعي تكاد تصل كما ذكرنا آنفا الى هذه النتيجة وهي أن الاساس في الحكومة هو حكم العقل الفطري، وذلك لأن العقد الاجتماعي (الانتخاب) الناشئ من سلطة الفرد على نفسه لا يبرر حكومة الأغلبية
وأما المنهج الوضعي فهو يترك مجال تعيين المصداق لاختيار الامة لكن يظل هذا التخيير له لون صوري غير واقعي في حالة تخلف الشرائط والمواصفات في الشخص الحاكم التي يعيّنها القانون، ويظل التخيير غير صائب في حالة توفر الصفات بنحو أكمل في شخص لم يقع عليه الاختيار، وهذا الجانب السلبي في المنهج الوضعي قد عالجه المنهج الربانى الالهي بجعل الانتخاب بيد العالم بالسرائر وبمعادن البشر {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}.
هـ ـ إن من الضروري معرفة الفرق الجوهري بين القانون الوضعي والقانون الالهي، ففي القانون الوضعي يكون المحور هو الفرد والانسان بما هو هو، وفي القانون الإلهي يكون المحور الله جل وعلا أو الفرد بما هو عبد لله، وهذا المائز مهم جداً في فهم عملية التقنين وما يمكن أن يوضع ويقنن إذ يضفي آثاره على بنوده والأهداف المتوخاة.
ففي القانون الالهي يكون الالتفات الى القوى الناطقية والالهية في الانسان، وفي الوضعي يكون الالتفات الى القوى النازلة والحيوانية له، ولذا تكون نظرية النص اكثر انسجاماً مع القانون الالهي. ونظرية الشورى تنسجم مع القانون الوضعي حيث تجعل السلطة للفرد.
وفي القانون الوضعي تختلف الرؤية الكونية، وفي القانون الالهي تراعى الكمالات التي توصل الى الحق تعالى وهي غير محدودة. ومن هنا يمكننا القول ان
ـ ان أصحاب نظرية الشورى يجدون فراغاً كبيراً في التشريع اذ انهم يعتمدون على ظاهر الكتاب وما ورد عن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله)، أما أصحاب نظرية النص فالتشريع لديهم مستمر عشرات السنين على يد الأئمة المعصومين الذين أثروا الفكر الاسلامي بالتشريعات المناسبة، وأكملوا مسيرة الرسول الأكرم واستخرجوا كنوز القران الكريم التي لا تفتح للأذهان العادية ولذا يكون اندماج الدين في السياسة واضح وجلي.
و ـ ما ذكر من خلو الكتاب الكريم من النصوص المتعلقة بالسياسة العامة باطل، لكن قد يقال بأن السياسة ليست هى معرفة تلك الأمور الكلية، بل هي فن من الفنون قائم على الفصل بين الجزئيات المختلفة التي تحتاج الى كياسة وخبرة وتجربة والسائس يكون مؤهلاً إذا حصلت لديه تلك الممارسة، ولذا صنف الحكماء السياسة في باب الحكمة العملية.
والجواب عن هذا:
ـ أن السياسة كما لها جانب عملي فإنّ لها جانب نظري أيضاً، وتحكمه اصول كلية وهذه الأصول الكلية موجودة في الدين (وقد أوضحنا ذلك مفصلاً في بحث الاعتبار والحسن والقبح) ثم ان الدين لا يختص بالأمور النظرية العقائدية فقط بل يرتبط بالجانب العملي وفروع الدين تمثل هذا الجانب.
ثالثا:
ان الانبياء لم يكونوا هداة ومبلغين فقط بل يديرون دفة الحكم والاية المذكورة في سورة المائدة (٤٤) أوضح دليل على ذلك غاية الأمر ان الانبياء في اداء هذه الوظيفة بالذات يحتاجون الى مؤازرة الناس واقدارهم وبدون رجوع الناس اليهم لا تتم هذه الوظيفة.
رابعاً:
ما ذكر من أن الحاكمية خارجة عن معنى الامامة والنبوة باطل وجوابه يتضح من قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُول إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ}، {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ}، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ}، {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم} فكل المنابع المالية العامة والضرائب المالية هي بيد الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام، مضافاً الى آيات الولاية العامة
خامسا: النص والعقل:
ان القول بالحاكمية التعينية يلازم ويسوق إلى الحجر على عقل الانسان وفكره وتقييد لسلطة العقلاء، فحتى في المعصوم يحتاج الى انتخاب الناس وإلا فالولاية عليهم من دون الانتخاب هو حكم بقصورهم العقلي. وبتعبير آخر فإن النص يحمل في طياته التناقض وذلك لأن جعل الولاية يقتضي التعين، والقيمومة موردها القصور والحجر وكونهم قُصر يعني عدم جواز توليتهم وتنصيبهم مع أنها وظيفتهم، فالتولية يلزم منها عدمها. ومع افتراض ان الناس عقلاء فلا معنى لجعل الولاية عليهم فالعصمة التي في الأئمة هى عصمة ا لتبليغ والهداية لا الولاية الحاكمية، والجانب السياسي في حياة الانسان أمر دنيوي لا يرجع فيه الى السماء والحاكم ليس إلا وكيل عن الجماعة في ادارة شؤونها.
وجوابه: ان يكون الانسان عاقلا لا يعني أن له الولاية المطلقة على نفسه وعلى كل جزء من بدنه، بل ان الولاية المطلقة هي لله عزوجل وتتصل به ولاية الرسول والامام أي المعصوم فبمجرد كونه عاقلاً لا يعني عدم ثبوت ولاية عليه من أحد، بل إن هذا العقل ينقصه الكثير الكثيرلكي يحيط خبرا بكافة الامور غير المتناهية سواء المحيط به أو داخل ذاته، فولاية الله ورسوله وخليفته هي ولاية الحكيم المطلق على العاقل بعقل محدود في حدود نسبية يسيرة.
فلو قلنا ان الولاية تابعة لمدى عقلائيته لازمه أن تعطى الولاية للاخرين في الامور التي لا يحيط بها عقله. فتبين أن صرف ثبوت الولاية لأحد على أحد لا يعني أن الاخر محجور عليه. بل للفرد العاقل ولاية في حدود عقلائيته، والمعصوم عقله محيط بجميع الأمور فولايته أقوى من ولاية الانسان على نفسه. {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، مضافاً الى أن المستشكل يرى أن الفرد عندما ينتخب اخر
مضافاً الى العديد من الشواهد التي لا تنسجم مع الوكالة الاصطلاحية كالتعبير عنها بالنيابة والتولية. والقَسَم الدستوري الذي يؤديه الحاكم، وعدم امكان الحاكم الثاني ابطال أعمال الحاكم الأول. وغيرها من الشواهد الكثيرة التي تبطل كون الحاكم وكيلا عن الفرد.
وعلى كل تقدير يبقى المجال امام الولاية فاذا كان القول بأنّ نقل ولاية الفرد على نفسه بنفسه لا تنافي عقلانيته فكذلك جعل الوالي من قبل الله لا ينافي عقلائيته.
سادساً: النص والاستبداد:
إن البعض ذكر أن نظرية النص تؤدي الى الاستبداد والاستبداد من المعاني المذمومة في القران والسنة، اذ قد وردت كثير من الآيات التي تذم ظاهرة الفرعونية التي تجعل المحور ذات الفرد ولذا قال البعض فراراً من هذا الاشكال ان المعصوم ملزم بالشورى والاستشارة وملزم ايضاً بنتيجة الشورى.
والجواب عنها:
أ ـ ان الاستبداد ينشأ تارة من أصل النظرية وتارة ينشأ من تطبيق النظرية. ولاجل ابطال النظرية يجب اثبات الاول.
ب ـ ان المشرع في نظرية النص وضع وسائل تمنع حصول الاستبداد وذلك عن
ومنها: لزوم التقيد بالأحكام الالهية بعيداً عن الهوى والاحاسيس، وهذه قاعدة فوقانية تشبه المواد الدستورية والتي يبطل كل تصرف مخالف لها.
ومنها: رقابة الامة تحت اطار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحرمة طاعة المخلوق في معصية الخالق. ورقابتها بالنسبة الى حكومة نائب المعصوم ظاهرة وأما بالنسبة الى حكومة المعصوم فأجنحة الدولة وأفراد جهاز الدولة ليسوا بمعصومين، فتكون الامة معينة للمعصوم على مراقبة جهاز الدولة كما هو الحال في سيرة علي (عليه السلام).
ومنها: لزوم اتصافه بالمواصفات المؤهلة له كالعدالة والامانة والكفاءة هذا في غير المعصوم الذي ينوب عنه وإلا فهي في المعصوم بالنحو الكامل المتصاعد الى العصمة العملية والعصمة العلمية. وقد قال الامام (عليه السلام): لا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة.
ومنها: ان الحاكم في نظرية النص له في الجانب التشريعي ـ مضافاً الى الجانب التكويني الخاص ـ حيثيتان حقوقية بما هو رسول او امام او نائب امام، والاخرى حقيقية ومن هذه الحيثية يعتبر كسائر افراد المجتمع، له ما لهم وعليه ما عليهم، وهذا لما مر في النائب عن المعصوم واما فيه فانه كذلك سوى ما خصّ به من امتيازات في التشريع الالهي مما شرّف وفضّل به على سائر الناس. فكل تصرف ينبع من شخصيته الحقوقية يكون نافذاً، وكل تصرف ينبع من الاخرى لا يكون نافذاً هذا في النائب غير المعصوم والا ففيه لا مجال لاحتمال التصرف الاقتراحي. وبتعبير آخر ان ولاية شخص ما ينوب عن المعصوم هي لعقيدته وفقاهته وعدالته
ومنها: المحورية في نظرية النص ليس للفردي بما هو هو بل بما هو عبد الله بينما في القانون الوضعي تكون المحورية للفرد بما هو هو، وقد ذكرنا سابقاً ما يترتب على هذه التفرقة وأهمها أنها في التقنين تُؤمن ما يسد رغباته وحاجاته الشخصية وغرائزه الدانية من ملكية وحرية.. وهذه كلها تعتبر من درجات الانسان السفلى.
بينما في التقنين الالهي يكون الانطلاق من الجهة العقلية والتألهية أي قوى الانسان العليا وهى المحور في التقنين، فمصلحة المجموع قبل المصلحة الشخصية والحرية ليس في اشباع الإنسان لرغباته وشهواته، بل الحرية الحقيقية هى في سيره اللامحدود نحو الكمال المطلق ونيل الكمالات اللامحدودة، والاستبداد يأتي من حرص الانسان على نفسه وخصوصيته وهذا إنما يرد في النظريات الاخرى لا نظرية النص التي تجعل الله هو الأصل والمقصد والغاية.
فهذه الأمور والضمانات الاجرائية المانعة من الاستبداد، وهي كالقواعد الدستورية التي بيطل كل تصرف يخالفها.
أما الاستبداد فإن نشأته تعود الى عوامل:
آ ـ جهل وقلة وعي بالقانون.
ب ـ وجود طبقة من العلماء والمفكرين يروجون لمحورية ذاتهم والصلاحيات المعطاة لاصحاب المناصب. ومحورية الفرد.
هـ ـ جعل منابع الثروة بيد طبقة معينة مما ينشأ استبداد طبقي.
وهذه العوامل تجد أرضية خصبة في عالمنا اليوم في الانظمة الغربية المدعية للديمقراطية ولانتخاب الأمة وسيادتها حيث تجد الفارق الطبقاتى شديدواسع الهوة والمال دُولة بين الاغنياء وفرعنة للطبقة الثرية تحت عنوان سيادة الأمة وتحكيم آرائها (ولاية الشورى)، وهذا ما اطلعنا عليه التاريخ قديما فان اكثر من جاء تحت هذا الغطاء الى سدة الحكم كان في الحقيقة بالتغلب والفتك بينما تقاوم نظرية النص نشأة مثل هذه العوامل بعد كون مركز القوى السياسية والمالية والقضائية والعسكرية والامنية هى بيد من عصم علما وعملا كما بيناه مفصلاً وكما اطلعنا التاريخ على حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) والامير (عليه السلام) وبرهة من حكم الحسنين (عليهما السلام).
الامر الرابع: الأدلة العقلية على الشورى:
وله تقريبات ثلاثة:
التقريب الاول:
ينطلق من أن الانسان مدني بطبعه، ويعلم من ضرورة العقل انه لابد في كل اجتماع مدني من نظام وادارة تقيم هذا الاجتماع وهو المشار اليه في قوله (عليه السلام): لابد للناس من أمير بر أو فاجر. كما ان الواجبات الكفائية الملقاة على عاتق المسلمين لا يمكن تعطيلها في زمان ما، فهذه الحكومة التي تدير شؤون هذا الاجتماع لا تخلو إما ان تكون منصوبة من قبل الله عزوجل، أو تنصبها الامة، أو تنال الحكم بالقهر والغلبة، وهذا الثالث باطل بالتأكيد لأنه ظلم واستئثار، فينحصر الأمر بين الاولين والفرض ان النصب من قبل الله منتف اما مطلقاً أو على الاقل في عصر الغيبة فيتعين انتخاب الامة.
التقريب الثاني:
ان السيرة العقلائية والبناء العقلائي جاريان على ان الناس ينتخبون حُكَّامهم بانفسهم، ولا يوجد ردع عن هذا البناء العقلائي، وهي سيرة عقلائية جارية حتى زماننا هذا، وهي ليست سيرة فحسب بل تقنين مركوز في عالم الاعتبار لدى العقلاء.
التقريب الثالث:
وحاصله انه قد ثبت أن الناس مسلطون على أموالهم، والسلطنة على المال فرع من السلطنة على فعل النفس، فهذا كاف في اثبات سلطنة الناس على أنفسهم، وقد يقال استدلالا على هذه المقدمة ان الانسان مسلط على نفسه بحكم العقل العملي، حيث ان الانسان مسلط على نفسه تكوينا فهو مالك لتصرفاته وحركاته وسكناته بيده ومع وجود تلك الملكة التكوينية لا حاجة للاعتبار، ومن هنا قالوا في الاجارة ان عمل الاجير لا يملكه المؤجر قبل عقد الايجار، وهذه المقدمة قد يستدل عليها بنحو آخر بالقول ان الله تعالى ذكر ان الرسول اولى بالمؤمنين من انفسهم، فهو يثبت ولاية الانسان على نفسه في مرتبة سابقة، غايتها ان الشارع جعل الرسول أولى منه بذلك وهذا خاص بالرسول او المعصوم، ومقتضى تسلط كل فرد على نفسه أنه لا يجوز لأحد أن يقهرهم، وعندما تقام الحكومة لابد من حصول تنسيق بين حريات الافراد المقتضي للحد من اطلاقها، وهذا التحديد لحرية الفرد يخالف تلك السلطنة المطلقة التي للفرد على نفسه فلابد ان يحصل ذلك بإذنه أو بتوكيل منه.
ويرد على هذه التقريبات:
اما الاول فإنا مع التسليم بالمقدمات ولكنا نختار من شقوقه نصب الله عزوجل بل نفس لابدية الحكم نستخدمها لقلب الاستدلال لصالح نظرية النص، حيث أن تعيين الحاكم والقائد من الامور التي يتحقق بها لطف الله حيث انه يدخل في الهداية، وهو ألطف بالبشر وأكثر عناية بهم، وهذا وان كان ينطبق على المعصوم
وما يقال من أن الامة الاسلامية قد وصلت الى مرحلة الرشد العقلي التي به تستغني عن الهداية الالهية المباشرة من خلال المعصوم أو نائبه مردود بأن الكمالات الالهية والهداية الربانية لا حدود لها، وأن الحامل لهذه الكمالات لابد أن يكون شخصاً لا محدود فينحصر العترة الطاهرة، وبعدهم تصل النوبة لهؤلاء الذين يهتدون بهداية العترة، وهذا التقريب حينئذ لا يتأتى إلا في نيابة الفقيه عن المعصوم. مع أن ما يشاهد حالياً في الأمة من تحكيم الاهواء والامراض الفكرية والاجتماعية الفتاكة خير شاهد على ضرورة المعصوم.
والجواب:
أ ـ في التقنين الاقتصادي الاسلامي يعتبر الخراج ضريبة توضع على الأراضي، وهي ملك المسلمين وليست ملكاً للإمام ولا الحاكم، فمن يكون على أموالهم له نوع من التوكيل وهذا غير من نحن فيه، وهذا التقنين غير وارد في الفيء والانفال حيث انها ملك لولاية المعصوم نظير ما يقال حاليا ملك الدولة لا الامة.
ب ـ ان الامام قال: “وكلاء الأمة وسفراء الأئمة”. فهؤلاء لهم لحاظان فمن حيث كون المال للمسلمين فهو بمنزلة الوكيل، ومن ناحية الولاية على التصرف والتدبير فهو بيد الحاكم وهو سفير له.
ج ـ الايكال له معنى آخر غير الاصطلاحي وهو يحصل بأن يوكل الانسان أمراً الى آخر مع أنه ليس تحت يده كما في التوكل على الله وايكال الأمر إليه، وإنما يعني جعل همّ وتدبير ذلك الشيء بيد الآخر.
وما قيل من دلالة قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
ويجاب عن هذا التصوير أن حكم العقل العملي بتحسين او تقبيح التصرف يعود ويدور مدار الكمال الواقعي وهو مدى أحقية هذا الفرد بالتصرف وهذه الأحقية تعلم من كتاب الله. في مثل هذا المورد الخفي جهاته مع تكثرها.
أما لو اريد الاستدلال بالتقريب على الشورى في طول النص فجوابه انه مع وجود النص فهو تقييد وتخصيص للرواية وللقاعدة العقلية فيجب أن يعلم ان هذا التخصيص هو استثناء طارئ او استثناء دائم، مضافاً الى انه في عصر الغيبة لا نعدم وجود الامام فالولاية له وليست منقطعة او متوقفة كما هو ضروري مذهب الامامية ومقتضى الأدلة كتاباً وسنة. مع ان لازم هذه الدعوى من كون منتخب الأمة له الولاية بالأصالة من قبل الامة لا من قبل المعصوم لعدم بسط يده في الخارج، هو أنه في فترة الخمس والعشرين عاما التي لم يتسلم كان الامير (عليه السلام) مقاليد السلطة فيها وكذا بقية الأئمة (عليهم السلام) تكون الولاية للأمة ولمنتخبها لا للإمام المعصوم (عليه السلام)، وهو كما ترى يناقض أوليات المذهب والأدلة القطعية.
إشكالان ودفعهما:
من الأدلة على الشورى وهي في كنهها اشكالات على نيابة الفقيه عن الإمام، وأن النيابة انما تكون للمجموع، أي أن النيابة عن المعصوم لابد أن تكون هى المجموع لا الفرد (الفقيه) فالشورى ان لم تكن صياغة بديلة عن النص فى الغيبة
الاول: عدم تمامية أدلة النيابة للفقيه.
الثاني: أن أدلة النيابة توكل الأمر الى الامة.
ـ الاشكال الثاني الذي اعترض على نظرية نيابة الفقيه هو عدم امكان حصر السلطات بيد الفقيه لأنه ليس بمعصوم، وقد يقرب الاشكال بنحو آخر وهو أن يقال ان الشيعة في تجويزهم للفقيه بتولى السلطات مع انه غير معصوم يكونون قد تراجعوا عما دافعوا عنه في زمن ظهور الائمة من وجوب تولي المعصوم سدة الحكم، وعليه فاذا جاز للفقيه تولي الحكم، فالعصمة ليست شرطاً فبطلت ضرورة خلافة الائمة، و اذا كانت العصمة شرطاً كيف يجوز للفقيه تولي السلطة.
والجواب عن كل ذلك ان هذا الاشكال يرد لو قلنا بالولاية المطلقة للفقيه نيابة عن الامام وأن ما للامام له، أما على ما يقوله مشهور علماء الإمامية من أنّ تولي الحكم ليس يعني توليه لكل الصلاحيات الثابتة للمعصوم، بل الفقيه في توليه للسلطة في زمن الغيبة حاله حال الولاة النواب في زمن ظهور الامام (عليه السلام) من كون صلاحياته النيابية هي في تطبيق الأحكام الشرعية في مجال الولاية التنفيذية كما له منصب القضاء ومنصب الافتاء واستنباط الاحكام.
ثم ان اختيار مصداق وفرد الفقيه الذي يتولى سدة الحكم اوكله المعصوم للأمة، فهم الذين يختارون من تجتمع فيه الشرائط لكن منشأ ولايته تكون بإنابة المعصوم له بالنيابة العامة، والأمة بعد ذلك تظل في رقابتها للفقيه وحيازته وواجديته للشرائط العلمية والعملية.