ولما آلت الخلافة إلى الإمام علي بالطريق التي آلت فيها إلى الخلفاء الثلاثة الأول، كانت ولايات الدولة كلها تحت أمرة الطلقاء والمؤلفة قلوبهم وأصحاب السجلات الحافلة بمعاداة الله ورسوله عندئذ انبرى له معاوية الذي أكمل استعداداته وادعى بأنه أولى منه بالخلافة!!! وتمكن معاوية بالتقتيل والتطريد والتشريد والتنكيل وتبذير أموال المسلمين من الاستيلاء على منصب الخلافة بالقوة والقهر والتغلب، وتحويل الخلافة إلى ملك أموي خالص يتوارثه أبناؤه وأقرباؤه من بعده!! وبعد أن غلب الأمة، وسلب منها أمرها دون مشورة أصدر مراسيمه الجائرة ومنها مرسوم شتم الإمام ولعنه ومطاردة أولياء أهل بيت النبوة، واستمر العمل بتلك المراسيم البربرية حتى عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فألغى كافة هذه المراسيم!!وبعد أن ألغى عمر بن عبد العزيز تلك المراسيم رغما عن إرادة النواصب اعتبر فقهاء الدولة، أن مراسيم اللعن ومطاردة أهل بيت النبوة كانت من قبيل ” الاجتهاد ” ليس إلا!!! وأن الحروب الطاحنة التي شنها معاوية على الإمام الشرعي ما هي أيضا إلا اجتهاد!!! وصراع بين ” صحابيين ” هما ” علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ” ” رضي الله عنهما ” وهكذا ترضى الفقهاء عن علي تبعا لترضي الدولة عليه، وكانوا بالأمس قد لعنوه وأفتوا بلعنه والبراءة منه عملا بأمر الدولة!! لأنهم ليسوا أكثر من دمى أو حجارة شطرنج تلعب بهم الدولة المتغلبة كما تشاء، فلو أن الدولة قد أمرتهم بلعن رسول الله نفسه لنفذوا أمرها، ولأوجدوا لهذا الأمر عذرا!! لقد سبوا رسول الله فعلا كما قالت أم المؤمنين أم سلمة، فهم يعرفون قولا مستفيضا عن رسول الله ” من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله “.
وبالرغم من أن تلك الأفعال لا يمكن الاعتذار عنها إلا أنهم قد ادعوا بأنها من أفعال البر والخير!! التي تستوجب رضا الله وأجره، وأن معاوية
٤٢١
ومن معه كانوا مجتهدين والمجتهد مأجور سواء أخطأ أم أصاب!! واختلفوا حديثا على رسول الله مفاده ” أن أصحابي كالنجوم بأيهم اهتديتم اقتديتم ” وبما أن معاوية من الصحابة فإن كافة أفاعيله هي من قبيل الاجتهاد، وأن الذين أطاعوه وانتهكوا كل محرم في سبيل طاعته وتنفيذ أوامره كانوا من المهتدين!!!والخلاصة حسب رأيهم فإنه لا فرق إطلاقا بين علي ومعاوية على حد تعبير وفتوى ابن تيمية!!! ولا فرق بين من يتبع إمام الهدى أو من يتبع إمام الضلالة!! وهكذا جعل الآخر كالأول، وولي الله كعدوه!! ومن نصر الله ورسوله في كل المواقع تماما كمن حارب الله ورسوله في كل المواقع!!
وساروا بين من يقترف المحرمات وبين من يعمل الصالحات!! وعمموا هذه الأفكار المنحرفة حتى صارت قناعات مطلقة لدى العامة!!! وهكذا خلطوا الحق بالباطل، والحابل بالنابل، والدين بالتاريخ وسوقوا الجميع معا، فإما أن تقبل هذه الصفقة فتكون مسلما، أو تترك الباطل وتأخذ الحق وحده فتكون كافرا!! لأنهم أعطوا أنفسهم صلاحية إصدار صكوك الأجر والغفران!!
٤٢٢
الباب الثامن
أهل بيت النبوة وسنة الرسول
٤٢٤
الفصل الأول
أهل بيت النبوة في سنة رسول الله
لم تركز سنة الرسول الأعظم على فئة معينة من المسلمين أكثر مما ركزت على أهل بيت النبوة، وهذا التركيز ليس مبعثه أو مصدره من الرسول بالذات، إنما كان تنفيذا لأوامر الله تعالى، والرسول كان يتبع ما يوحى إليه، وينفذ ما يؤمر به، ولعل العلة والسر في هذا التركيز الخاص يمكن في أن الله تعالى قد أراد أن يكون للمسلمين ملجأ يلجؤون إليه بعد وفاة نبيهم، أو نقطة يتجمعون حولها كلما تفرقوا وينطلقون منها كلما اجتمعوا، لقد أراد الله تعالى أن يكون وجود أهل بيت النبوة امتدادا لوجود الرسول بعد موته، أو بتعبير العصر لقد أرادهم الله أن يكونوا هيئة تأسيسية للأمة بعد وفاة رسول الله، ترشد الأمة إلى الخطوات الواجب أتباعها في كل موقف من المواقف التي تحتاج إلى خطوات، وفي كل مشكلة تعترض مسيرة الأمة بعد وفاة نبيها، أما لماذا اختار أهل بيت النبوة لهذه المهمة ولم يختر غيرهم!!
فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولكن كونهم الأقرب للنبي وصفوة أكثر الناس عناء في نصرة النبي، وأكثر فهما والتزاما بدين النبي كل هذا يجعل القرار الإلهي معقولا حتى بالنسبة للموازين البشرية القاصرة، فإن كان لا بد من إسناد هذه المهام إلى فئة معينة من الناس، فإسنادها لأهل بيت النبوة هي الأكثر منطقا، فليس منطقيا أن تسند هذه المهام إلى أهل بيت أبي بكر
٤٢٥
أو عمر أو عثمان أو معاوية لأن هؤلاء وإن طاروا أتباع ورسول الله هو المتبوع وهم وإن طاروا طلاب، ورسول الله هو المعلم، فمن غير المعقول أن يقدم التابع على المتبوع، وأن يقدم الطالب على المعلم!! هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الله تعالى قد أعد أهل بيت النبوة، وأهلهم للقيام بهذا الدور ولم يعد أو يؤهل غيرهم!! هذا الذي لم يفهمه العرب، ولم يفهمه قادة التاريخ الإسلامي!!! ولم تفهمه الأغلبية الساحقة من المسلمين حتى اليوم لقد تصوروا أن الرسول وبدون تفويض من ربه هو الذي اختار أهل بيت النبوة لهذا الدور!!! وجهلوا أو تجاهلوا بأن الرسول لا ينطق عن الهوى، وأنه عبد مأمور يتبع ما يؤمر به!!! وأقنعوا أنفسهم بتلك التطورات المختلة!! وكان ينبغي عليهم أن يتبعوا رسول الله، حتى وإن صحت تصوراتهم الخاطئة لأن رسول الله هو الأبعد نظرا، وهو الأكبر عقلا، وهو الأفهم منهم مجتمعين ومنفردين، فلقد أسند قادة التاريخ من تلقاء أنفسهم وسندا للقوة والتغلب الدور الذي أناطه الله بأهل بيت النبوة، لأشخاص لا يصلحون والله خداما لخدم أهل بيت النبوة، ولم يستغرب المسلمون ذلك على اعتبار أن هذا الإسناد صادر من مسؤول متغلب وواجب الطاعة!!!وهكذا يبدوا واضحا أن القوم أطوع لبعضهم من طاعتهم لله ولرسوله حتى في الأمور المتماثلة موضوعيا!! فلو أمر الله ورسوله القوم بأن يذبحوا بقرة لأغرقوا الدنيا بتساؤلاتهم، عن اللون، والعمر والشكل والمضمون، ولكن لو أمرهم أحد قادة التاريخ أن يذبحوا بقرة، فإنهم ينفذون أمره، ويذبحون أفضل البقر فورا وبدون أسئلة، وبلا تباطؤ!! لقد استمرؤوا ذلك وتعودوا عليه، واستثقلوا أمر الله ورسوله وتعودوا على النفور ومحاولة التهرب منه!!
وما يعنينا في هذا المقام هو التأكيد على أن الله سبحانه وتعالى قد اختار أهل بيت نبيه لهذا الدور ليقوموا به بعد وفاة رسول الله وطوال عمر التكليف وأمر الله رسوله أن يعد ويؤهل أهل بيته ليقوموا بهذا الدور بعد وفاته على الأكمل وجه، وصدع الرسول بأمر ربه فأعد أهل بيته وأهلهم لذلك
٤٢٦
كتاب أين سنة الرسول ؟!! للمحامي أحمد حسين يعقوب (ص ٤٢٧ – ص ٤٥٦)
٤٢٧
هذه الآية هم هم عترة النبي وأقاربه، وتاج العترة وناصيتهم هم ” محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ” فهم أول المعنيين بآية التطهير، والأئمة الأعلام من ذرية النبي ومن صلب علي.
ما هو الدليل على أن رسول الله قد بين هذه الآية في سنته الشريفة؟!!
لقد رأينا أن قادة التاريخ قد أحرقوا سنة الرسول المكتوبة، ومنعوا المسلمين من أن يحدثوا شيئا عن رسول الله طوال مدة مائة عام ونيف، ورأينا أن دولة الخلافة قد أباحت دم كل مسلم يروي شيئا من فضل أهل بيت النبوة، وأنها قد ألزمت المسلمين بأن يشتموا ويلعنوا أهل بيت النبوة في بداية أي عمل وعند نهايته!! وفي العشي والإبكار، وأن الأغلبية الساحقة من المسلمين كانوا يتعبدون بذلك، وينفذونه بدقة حتى في الصلاة، وأن الذين كانوا يوالون أهل بيت النبوة كانوا يتعرضون لاضطهادات أقلها الحرمان من كافة الحقوق المدنية والسياسية ” فقد كانوا يعاملون معاملة ” النور ” فلا تقبل من أحدهم شهادة وفي النهاية كانوا يهدمون دورهم ويقتلونهم إستنادا إلى أمر مباشر من الخليفة (١) وعلى ذلك شب الصغير، وعلى ذلك هرم الكبير، وعلى ذلك صنعت ثقافة التاريخ، وأشربتها الأمة، كما أشربت قلوب بني إسرائيل العجل!!!
بهذا المناخ بالذات أباح عمر بن عبد العزيز كتابة ورواية سنة الرسول!!! بعد أن كان من المفترض خلال مدة المائة عام أن ينقرض أهل بيت النبوة!! وأن يباد كل أعوانهم!! ومن المفترض أن تجتث سنة الرسول من الوجود، وأن لا يبقى لها أي ذكر، وأن تتبخر كافة الأحكام الشرعية التي بينها رسول الله والمتعلقة بأهل البيت.
٤٢٨
لكن مكر الله محيط بمكرهم، وكيد الله أكبر من كيدهم، وسنة الله أنفذ وأقوى من كل تدابيرهم، فبمجرد أن أباحوا كتابة ورواية سنة الرسول اخترقت سنة الرسول مائة عام، واخترقت المناخ المظلم، كأن نصوصها كواكب درية ووصلت إلى أسماع الجميع لتقيم الحجة على الجميع، ومع أن مجتمع دولة الخلافة كان بحالة تعبئة عامة ضد أهل بيت النبوة، الذين كان يلعنهم ويشتمهم بالعشي والإبكار، ويعاقب محبيهم بالموت، إلا أن ذلك المجتمع قد سمع الرواة يجمعون بأن آية التطهير خاصة بأهل بيت النبوة، وأن أحاديث الرسول قد تواترت على ذلك، ولشد ما دهشوا عندما شاهدوا أصح الصحاح حسب موازينهم تؤكد هذه الحقيقة وتثبت بأن رسول الله قد بين بأن المعنيين بآية التطهير هم عترة النبي أهل بيته وهذا ما أشرنا إليه عند ذكرنا للآية قبل قليل وبأدناه طائفة من مراجع أهل السنة التي تؤكد هذه الحقيقة (١) أما أهل بيت النبوة فهم مجمعون على أن رسول الله قد بين في سنته بأن آية التطهير خاصة، بأهل بيته.وقد شهدت أم المؤمنين أم سلمة بأن الرسول قد بين في سنته هذه الآية وسمى الخمسة الذين ذكرناهم، وعندما أرادت أم سلمة أن تدخل نفسها معهم، بين لها الرسول أنها على خير ولكنها ليست منهم، وقد ذكر هذه الشهادة، الكثير الكثير من علماء دولة الخلافة (٢).
٤٢٩
وقال الرسول مشيرا إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ” اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وإلى هذا المعنى أشار الرسول في مناسبات متعددة وبصيغ متعددة، ولكنها تفصح عن ذات المضمون (١).وشهدت السيدة عائشة بنت أبي بكر بأن الرسول قد بين في سنته بأن المراد بأهل البيت الواردة ذكرهم في آية التطهير ” هم علي وفاطمة والحسن والحسين ” (٢).
وطوال مدة سنة شهور كان الرسول يمر بباب علي وفاطمة إذا خرج للصلاة ويقول ” الصلاة يا أهل البيت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (٣) وطوال حياة الرسول المباركة كان أهل بيته يسكنون وإياه في منزل واحد!!!
بيان الرسول لآية المودة في القربى
قال تعالى: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (٤) لما نزلت
٤٣٠
هذه الآية، بينها رسول الله كما بين غيرها من الآيات وأكدت سنته المباركة أن القربى المقصودة في هذه الآية هم قرابة الرسول وعلى رأسهم علي وفاطمة والحسن والحسين.وأهل بيت النبوة وفي كل الأزمان قد أجمعوا على أن رسول الله قد بين بأن المقصود من كلمة القربى الواردة في هذه الآية هو قرباه وعلى رأسهم علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة الكرام.
وإجماع أهل بيت النبوة حجة على العامة والخاصة حسب الموازين الشرعية الحقيقة، ولا يحتاج مع إجماعهم إلى دليل آخر، ومع هذا نسوق طائفة من مراجع القوم المؤيدة لإجماع أهل بيت النبوة حول بيان الرسول لهذه الآية فيها (١).
بيان رسول الله لآية المباهلة
قال تعالى: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين) (٢).
لما نزلت هذه الآية بينها رسول الله على الفور في سنته الطاهرة،
٤٣١
فخرج للمباهلة ومعه علي والحسن والحسين وخلفهم فاطمة، ولم يشرك معهم بهذه المباهلة أحدا من المسلمين. لقد أجمع أهل بيت النبوة على أن الرسول قد خرج للمباهلة ومعه علي والحسن والحسين وخلفهم فاطمة ولم يشرك مع هؤلاء الأربعة أحدا من المسلمين، ففعل الرسول سنة بمثابة قوله، وأجمعت على ذلك الأمة أيضا (١) فالرسول يصدع بأمر ربه، ويتحدى معانديه أن يباهلوا، ثم يأخذ بيد علي والحسن والحسين، ويأمر فاطمة أن تسير خلفهما، ثم يقول أمام المسلمين والمعاندين هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا، فادعوا أبناءكم وأنفسكم ونساءكم ودعونا نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين!!!فهل كان اختيار الرسول لهؤلاء الأربعة بالذات تدبيرا منه أم أمرا من الله، فهل كان بيان الرسول للآية وحيا من الله أم اجتهادا شخصيا منه!! فإن قالوا بأن بيان الرسول لهذه الآية كان بمثابة الاجتهاد منه فقد جادلوا بالمحسوس وأنكروا الواضحات، وحكموا على أنفسهم بالبلاهة وقلة
٤٣٢
العقل، وإن قالوا أن بيان الرسول لهذه الآية كان وحيا من الله فقد أدانوا أنفسهم، لأنهم فجعوا الرسول ببعض نفسه، وبولده، وبالنساء اللواتي عناهم الله وهي فاطمة، أما فاطمة فقد ماتت كمدا، وأما علي فقد أخروه ثم خرجوا عليه وحاربوه وقتلوه، وأما الحسن فقد سموه، وأما الحسين فقد ذبحوه وأبناءه وأحفاده وأبناء عمومته كما تذبح الأضاحي، وبأعصاب باردة كما يفعل القتلة المحترفون!!! غضب الله عليكم، وسود الله وجوهكم في الدنيا والآخرة، إن الإنسان لا يكاد يصدق أنكم بشر، فكيف يصدق بأنكم مسلمون!!! والأنكى من ذلك هو ادعاء الأولين بأنهم أولى بالنبي وبسلطانه لأن النبي من قبيلة قريش، وهم من قريش!!! ألا بعد للظالمين كما بعت ثمود!!! والأشد نكاية هو إشاعتهم بأن الذين فعلوا ذلك من المبشرين في الجنة، بل ومن أهل الجنة!! وأنهم مأجورون على ذلك أجرا واحدا لأنهم مجتهدون!!! فويل لهم مما كسبت أيديهم، وويل لهم مما يفترون!!!
بيان الرسول لآية الإطعام
قال تعالى: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (٥) عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (٦) يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا (٧) إلى قوله تعالى: (إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا) (١).
لما نزلت هذه الآيات المباركات قام الرسول الأعظم ومن خلال سنته الطاهرة ببيانها كما بين غيرها من آيات القرآن فأكد أن الذين قصدهم الله في هذه الآيات هم: علي وفاطمة والحسن والحسين وقد أجمع أهل بيت النبوة على صدور هذا البيان من رسول الله، وبالرغم من الستار الحديدي الذي كان مفروضا حول أهل بيت النبوة، وبالرغم من أن دولة عظمى بكل إمكانياتها كانت تقف ضدهم إلا أن هذا البيان قد تسرب إلى العامة وذكره الكثير من
٤٣٣
علمائهم (١) وأنت تلاحظ بأن الله تعالى قد شهد – وكفى بالله شهيدا – بأن أهل البيت أبرار وأنهم عباد الله حقا، والعبودية الحقيقية لله هي أرفع مرتبة يصلها الإنسان، وأنهم يوفون بالنذر، ويخافون يوم القيامة، وأن الله قد أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فقد أكد الله دخولهم الجنة قبل أن يعرف أولئك الذين قد أشيع في ما بعد بأنهم من المبشرين بالجنة.
بيان الرسول لآية أولي الأمر
قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (٢).
عندما نزلت هذه الآية بينها رسول الله من خلال سنته الشريفة كما بين غيرها من الآيات، فأكد بأن أولي الأمر هم أئمة أهل بيت النبوة الطاهرين الاثنا عشر وعلى رأسهم الإمام علي والإمام الحسن، والإمام الحسين وبقية الأئمة الذين سماهم رسول الله قبل أن يولدوا (٣) لقد أجمع علماء دولة الخلافة على أن الأئمة من بعد النبي اثنا عشر وأن رسول الله هو الذي أخبر بذلك (٤).
٤٣٤
وقد حاولوا وبكل قواهم أن يفصلوا هذا النص على وقائع التاريخ، ولكنهم والحمد لله قد فشلوا فشلا ذريعا، فلم يقبل هذا النص أي فترة من فترات الخلافة التاريخية، وكانت تلك الفترات نابية عليه، ومن المستحيل أن تأتي على مقاسه!!! فالإمام هو القدوة، وهو الأعلم، وهو الأفضل ومن المستحيل أن يأمر الإمام بهدم الكعبة المشرفة، وأن يستبيح مدينة الرسول، وأن يشرب الخمر، وأن يجهر بفسوقه كيزيد بن معاوية، ومن المستحيل عقلا أن يلعن الإمام الله ورسوله!! كما فعل معاوية عندما أمر المسلمين وفرض عليهم لعن الإمام علي، وكيفما عد علماء دولة الخلافة، فمعاوية ويزيد في منتصف هذا العدد!! فهل يعقل أن يجعل الله ورسوله الإمامة والولاية والرئاسة في أعداء الله ورسوله السابقين، وفيمن ناصبوا أهل بيت النبوة العداء!!لقد أجمع أهل بيت النبوة على أن الأئمة الاثني عشر منهم، وإجماع أهل بيت النبوة دليل كاف للمؤمنين، ولا يحتاجون معه إلى دليل آخر، ومع هذا فقد تسربت أنباء من السنة النبوية التي عالجت هذه الناحية عن طريق الكثير من علماء دولة الخلافة (١).
فأئمة أهل بيت النبوة هم أولي الأمر الذين أمر الله الذين آمنوا بطاعتهم كما بين ذلك رسول الله في سنته.
قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)(٢)
لما سئل رسول الله الحنفي عن أهل الذكر، بين أن أهل بيت النبوة وعلى
٤٣٥
رأسهم الأئمة علي والحسن والحسين هم أهل الذكر، وأهل البيت مجمعون على ذلك، وقد ذكر الكثير من علماء دولة الخلفاء بيان الرسول في هذا الموضوع (١).
بيان الرسول لآية القربى
” لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) بين الرسول بأن القربى في هذه الآية هم فاطمة وزوجها وأولادها ” (٢).
وبين الرسول في سنته الشريفة، آية الإنذار، وآية القربى، وآية الفئ، وآية الخمس، وآية سلام على آل ياسين، وآية الوراثة، ومن خلال بيان الرسول لهذه الآيات، أبرز مكانة أهل بيت النبوة عند الله وعند رسول الله وحقهم الثابت بالتقدم على الجميع، وواجبهم الملقى عليهم لقيادة الجميع وتوجيه الجميع (٣).
وقد بين رسول الله آية الخصومة، وآية المتقين والفجار، وآية المؤمنين والفاسقين، وآية الأعراف، وآية الصادقين، وآية المصدق الأول وآية الإنفاق في السر، وآية المؤمن والفاسق، وآية شراء النفس، وآية خير البرية، وآية الهادي، وكلها آيات نزلت في أهل بيت النبوة، وبينها الرسول وكشف من خلال بيانه، المراتب السنية التي خص الله بها أهل بيت نبيه مجتمعين ومنفردين ” (٤).
٤٣٦
وبين الرسول بأن أهل بيت النبوة في المسلمين كسفينة نوح من قومه من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وأنهم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له، وقال لأصحابه ” النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ” فإذا خالفتها قبيلة من قبائل العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس، وقال: النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي ” وأكد الرسول في سنته بأن الفضل والشرف والمنزلة لرسول الله ولذريته، وحذر الناس من أن تذهب بهم الأباطيل، وأكد الرسول للصحابة قائلا: ” في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدون “.وقال لأصحابه يوما ” واجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد ومكان العينين من الرأس ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين ” (١)… الخ.
أهل بيت النبوة أحد ثقلي الإسلام
لخص النبي الأعظم الموقف للأمة قبل التحاقه بالرفيق الأعلى، ولإضفاء الأهمية على هذا التلخيص أعلن الرسول في أكبر تجمع سياسي شهدته الجزيرة أنه يوشك أن يدعى فيجيب، بمعنى أنه موشك على الموت، وقد أراد أن يلقي هذا القول معذرة إلى الأمة، حتى لا تؤخذ على حين غرة، فلا نجد من تفزع إليه بعد موت النبي.
لقد بين الرسول في هذا التلخيص وبكل وسائل البيان بأن الإسلام يقوم على ثقلين وهما كتاب الله وعترة النبي أهل بيته، وأن الهدى لن يدرك
٤٣٧
إلا بالتمسك بالثقلين حقا وأن الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسك بهذين الثقلين معا، فهما تأمين للهدى وتأمين ضد الضلالة، وبعد أن كشف الفوائد العظيمة للتمسك بالثقلين تشوق الناس لمعرفة هذين الثقلين وأضفى على الأمر أهمية خاصة عندما أعلن ذلك بعد عودته من الحج، وقبل أن تتفرق الوفود المشاركة بالحج وعندما أعلن بأن حجته تلك هي آخر حجة له وهي حجة الوداع. وعندما اختار منطقة غدير خم لتكون المكان الذي يعلن فيه أخطر تصريحاته على الإطلاق. فحشد النبي الأعظم كل وسائل التشويق، وكل مقومات التذكر لتعي الأمة الإسلامية وليعي العالم كله ” تلخيص النبي الموقف ” وبعد ذلك حدد النبي وبين من هما الثقلان فقال الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل، فاستمسكوا به ولا تضلوا ولا تبدلوا، أما الثقل الثاني فهو عترتي أهل بيتي، فإنه قد أنبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.
أعظم تلخيص للموقف
كلما أمعنت ودققت النظر بما قاله رسول الله في غدير خم، تكتشف أنه ليس بالإمكان تلخيص الموقف، بأوضح ولا أعظم من تلخيص النبي، فالقرآن الكريم هو القانون النافذ في مجتمع الأمة الإسلامية وهذا أمر يعرفه المسلمون جميعا ويعرفه العالم كله.
كذلك فإن أهل بيت محمد يعرفهم المسلمون ويعرفهم العالم كله وهم فئة متميزة عن غيرها من فئات المجتمع، وفي الوقت نفسه هم القاسم المشترك بين كل المسلمين لأنهم الأقرب إليه والألصق به، ومستودع علم البيان النبوي، وهم الأولى به وفق المعابير العقلية والشرعية.
وهم المقبولون بدون إكراه لقيادة الأمة. وبدون تأثيرات الكل يرضى بهم وهذا يعني بأن القانون النافذ في مجتمع الأمة الإسلامية هو القرآن،
٤٣٨
وأن أهل بيت النبوة هم جهة التوجيه أو القيادة أو المرجعية للأمة الإسلامية، لأنهم عاشوا مع النبي طوال حياته المباركة في بيت واحد وتحت سقف واحد، وانتهى إليهم علم البيان النبوي، وأسرار علوم النبوة وهي من لوازم فهم القرآن الكريم، ولأنهم خيرة الخيرة بعد نبيهم، فإذا حسمت مسألة القانون، وحسمت مسألة القيادة أو المرجعية، فلم يعد هنالك أي سبب للخلاف أو الاختلاف. في مجتمع يتمسك بفكرة الشرعية والمشروعية، وحسم هاتين المسألتين يقطع دابر الخلاف والاختلاف في أي مجتمع من المجتمعات.وبالفعل وعمليا فإنه ليس بإمكان أحد المسلمين في أي زمان من الأزمان أن يدعي بأنه أقرب للنبي من أهل بيته، ولا أولى به منهم، ولا أعلم بالدين منهم، لأن علوم الدين تلقاها هذا المدعي أو ذاك من النبي، فأهل البيت سمعوا من النبي ما سمع هذا المدعي أو ذاك، وزادوا عنه بأنهم سمعوا زيادة على ما سمع لأنهم عاشوا وإياه في بيت واحد بعكس هذا المدعي أو ذاك، ثم إن المكانة الدينية والاجتماعية التي احتلها أهل بيت النبوة دونها بالضرورة أية مكانة أخرى لأي مسلم قط.
هذا كله يجعل تلخيص النبي للموقف محكما من جميع الوجوه العقلية والشرعية، ولا يمكن نقض هذا التلخيص لا عن طريق العقل، ولا عن طريق الشرع دون أن يوقع الناقض نفسه بمطبات تكشف حقيقته، وبطلان دعواه، ودون أن يستعين الناقض بوسائل أخرى تفرض بالقوة وجهة نظره، أو بالكثرة، الآن وبعد مضي أربعة عشر قرنا على هذا التلخيص تبين لنا أن سبب الخلاف والاختلاف يكمن في التنازع على القيادة والمرجعية، والمتنازعون يؤولون القرآن تأويلات تخدم توجهاتهم في غياب الفهم اليقيني للنص.
٤٣٩
حديث الثقلين وأهل بيت النبوة
رواة حديث الثقلين
روى حديث الثقلين جمع كبير من الصحابة (٣٥) صحابيا وصحابية، منهم علي بن أبي طالب، والحسن بن علي بن أبي طالب، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري وابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو الهيثم بن النبهان، وحذيفة بن اليمان وحذيفة بن أسيد الغفاري، وخزيمة بن ثابت، وذو الشهادتين وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبو هريرة، وعبد الله بن حنطب وجابر بن مطعن، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك، وطلحة بن عبد الله التميمي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعمرو بن العاص، وسهل بن سعد الأنصاري، وعدي بن حاتم، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو شريح الخزاعي، وعقبة بن عامر، وأبو قدامة الأنصاري، وأبو ليلى الأنصاري، وحمزة الأسلمي، وعامر بن ليلى بن حمزة، وفاطمة الزهراء، وأم سلمة زوج الرسول، وأم هاني أخت الإمام وابنة عم الرسول (١).
فهل يعقل أن يجتمع هذا العدد الكبير من الصحابة على الكذب ” حاشاهم ” في موضوع خطير كهذا الموضوع، ثم إنه لم يجمع الرواة على