الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ١٨١ – ٢٠٠
٢ ـ وقد يشكل انه اذا كان المراد {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} هو الامر المهم الذي يمس المجموع فهذا يعني انه من الامور الخطرة، فكيف ينسجم هذا مع كون الاستشارة فى نفسها مستحبة.
والجواب عنه ان الشورى تكون في كل مورد بحسبه فان كانت في الامور التي طبيعتها خطيرة وطبيعة الغرض الشرعي فيها بالغ الأهمية عند الشرع، فان الشورى والفحص عن الصواب وواقع الحال تكون واجبة، ولا يمكن للقائد غير المعصوم النائب من قبله أن يستبد برأيه، كما لاحظنا فى فتوى الفقهاء في باب الجهاد فمع ان الافتاء بالجهاد هو بيد الفقيه الا أنه ملزم بالرجوع الى اهل الخبرة العسكرية في ذلك، وإذا لم يكن الامر المجموعي بهذا الوقع والخطورة فتكون الاستشارة ندبية وتكون فوائدها هو ما ذكرناه سابقاً.
٣ ـ وقد استدل محمد رشيد رضا بذيل آية الشورى على سلطة الجماعة وولاية الشورى وذلك بقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} حيث ان متعلق العزم غير مذكور فهو مطلق، لكن لما كانت الآية في صدد بيان ما يميز رأي الجماعة فيكون المراد منه هو رأي الجماعة اي فاذا عزمت على ما يرون وما يريدون فتوكل على الله.
مضافاً الى أن الرسول الاكرم هو القسطاس المستقيم {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} والجادة الواضحة والذي يجب أن يتبعه الاخرون وقد امره الله عزوجل {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} عندما يحيدون عن جادة الصواب، فكيف يتصور بمن يكون بهذه المرتبة وبهذا المقام يلزم بأن يتبع رأي الاكثرية والاغلبية وإن كان على خطأ.
الخلاصة:
ان التعبير بلفظ الشورى المشتق من تشاور واشتور، والاشارة والمشورة هي اراءة المصلحة، وشاورته في كذا راجعته لأرى رأيه، وشرت العسل اشوره جنيته، واشار بيده اشارة أي لوح بشيء يفهم من النطق.
فمادة الشورى تعطي معنى الاستفادة من الخبرات والعقول الاخرى لكي يكون العزم على بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أن اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله، واعلم الناس من جمع علوم الناس على علمه، فهى توصية بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كل زواياه الواقعية عبر الاذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللغويين انها استخراج الرأي بالمفواضة في الكلام ليظهر الحق.
سواء كان الأمر بيد الفرد الواحد أم لا، كما هوالحال في سلطة الانسان على أمواله اذا اراد ان يقدم على بيع او عقد معاملي، فان استبداده برأيه يؤدي به الى الجهالة بخلاف ما اذا اعتمد المشورة والاستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط سلطة المشير على المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير وانما يعني اعتماد الوالي على منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة.
وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الاشارة والمشورة والاستشارة والشورى، أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع بل الفيصل والنقض والابرام والترجيح بين وجهاة النظر يكون للولي على الشيء بعد استطلاعه على الاراء المختلفة، كما هو دارج قديما وحديثا في
فمجيء مادة المشورة في قوله تعالى يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البت فيه بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الاخرى، اما مَن يكون له الرأي النهائي فليست الاية في صدده، لاختلاف ذلك التعبير مع {وَأَمْرُهُمْ شُورَى} حيث ان اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة،وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالى: {وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ}، وغيرها من التعبيرات القرآنية والمتعرضة للولاية في الاصعدة المختلفة.
ومما يعزز ما تقدم قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاض مِنْهُمَا وَتَشَاوُر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فانه تعالى ندب الى التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل مع ان
بل ان الامر بالتوكل فه اشعار بنفوذ عزمه وحكمه (صلى الله عليه وآله) وان خالف آراءهم، ولذلك ذكر أكثر المفسرين وجوهاً في امره بالمشاورة.
احدها: ان ذلك لتطييب انفسهم والتألف لهم والرفع من قدرهم.
الثاني: ان يقتدى به في المشاورة، كي لا تعد نقيصة ليتميز الناصح من الغاش، وكتشاوره (صلى الله عليه وآله) قبل واقعة بدر ـ الكبرى والصغرى ـ وغيرها من الوقائع.
الرابع: لتشجيعهم وتحفيزهم على الادوار المختلفة والتسابق الى الخيرات والاعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكى يتعرفوا على حمة قرارات الرسول وافعاله (صلى الله عليه وآله).
ومن الغفلة الاستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد على كون الشورى ملزمة له (صلى الله عليه وآله)، بدعوى أن رأيه (صلى الله عليه وآله) كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه على الخروج ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج الى جبل أحد. وقدمنا مفصلاً خطأ هذا الاعتقاد.
ومما يستأنس لكون معنى الشورى بمعنى المشورة والاستشارة لا تحكيم السلطة الجماعية أن الآية مكية ولم يكن ثمة كيان سياسي للمسلمين، بل ان ظاهر
مناقشة الاستدلال على نظرية التلفيق بين النص والشورى
قام بعض المفكرين بمحاولة الجمع بين ادلة التعيين والنصب ـ ككثير من الايات القرآنية الدلة على ان الامامة عهد وجعل الهي، وان المنصوب هو علي (عليه السلام) وذريته ـ وبين ما يزعم من مفاد آية الشورى ودلالتها على أن السلطة للامة، بأنّ مورد الادلة الاولى هو مع وجود المعصوم (عليه السلام) وتقلده للزعامة الاجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده (عليه السلام) كما في زمن الغيبة.
وهذا الرأي مردود لأنه ان جعل المدار لسلطة الامة والشورى عدم تقلد المعصوم الزعامة بالفعل فذلك يعني شرعية سلطة الامة في الفترة التي كان فيها علي (عليه السلام) مبعدا عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن (عليه السلام) الى عصر الغيبة، حيث انهم (عليهم السلام) لم يكونوا متقلدين بالفعل زمام الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص.
وان جعل المدار على وجودهم (عليهم السلام) وان لم يتقلدوا زمام الامور والحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الارض “اللهم بلى لا تخلو الارض من قائم لله بحججه اما ظاهر مشهور او خائفاً مغمور لكي لا تبطل حجج الله وبيّناته”(١).
وهل يتعقل ان يكون لله حجتان بالاصل في عرض واحد بالفعل، بان يكون الحجة في غيبته حجة بالاصل، ومنتخب الامة حجة اخرى بالاصل ولكن بالانتخاب لا بالنيابة عنه، ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية على ضوء مبدأ النص والتعيين ان ولاية الفقيه مستمدة منه (عليه السلام) وعجل الله فرجه الشريف فى الغيبة لا انها للفقيه بالاصالة مع خلعه (عليه السلام) عن ذلك المنصب.
هذا ولا يغفل عن ان سبب عدم تقلده (عج) زمام الامور والحكم وعدم الظهور هو المذكور في قوله (عليه السلام) “لو كنتم على اجتماع من امركم لعجل لكم الفرج” ولذلك قال السيد المرتضى والخواجة وغيرهما ان سبب غيبته منا.
نعم اذا أمكن ان تخلو الارض من الحجة المعصوم، وان يترك الله البشر وحالهم مع قوانين دينه على اوراق وتكون يد الله مغلولة ـ والعياذ بالله تعالى ـ امكن حينئذ ذلك الاحتمال والجمع المزعوم بين الادلة.
ومن الطريف ان الدعوى المزبورة تذعن في طياتها بشروط المرشح بالانتخاب
ولا يتوهم ان تولية الامة ذلك يلزمه امكان توليتها السلطة على نفسها بالاصالة من الله تعالى في اختيار خليفة الله في ارضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق، حيث انه لابد من العصمة في قمة الهرم الاداري للمجتمع دون بقية درجات ذلك الهرم، اذ بصلاح القمة يصلح مجموع الهيكل.
كما لا يتوهم انه حيث لابد للناس من امير برّ او فاجر تدار به رحى ادارة النظام الاجتماعي البشري وهذه اللابدية والضرورة العقلية التي نبه عليها علي (عليه السلام) في النهج تقتضي تنصيب الامير على الناس بالذات بالاصالة من دون حديث النيابة عن المعصوم.
ووجه اندفاع التوهم: أن الضرورة العقلية تقتصي الزعيم، أما شرائط كونه امير برّ لا فاجر هو كون امارته من تشريع الله تعالى واذنه اذ الولاية لله تعالى الحق، والامارة تجري على يد الفرد البشري المخول منه تعالى في ذلك.
ولذلك ترى أن عدة من الفقهاء(قدس سرهم)استدلوا بتلك الضرورة في الكشف عن اذنه وتنصيبه للفقهاء باعتبار انهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة
والمهم التركيز على هذه الجهة في الاية ان مادة الشورى هي لاستطلاع الرأي الصائب والمداولة مع بقية العقول،وفرق بين استطلاع رأي الاخرين وبين جمع ارادة الاخرين، فالاول هو موازنة بين الافكار والاراء من المستطلع والمستشير، والثاني سلطة جماعية، فلا يمكن اغفال التباين الماهوي بين الفكر والارادة، وان الشركة في الاول لا تعني الشركة في الثاني بتاتاً.
فالتوصية في الاية هى في اعتماد التلاقح الفكري في اعداد الفكرة، أما مرحلة البتّ والعزم والارادة فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرد اضافة الامر الى ضمير الجماعة لا يعني كونها في المقام الثاني، بعدكون مادة المشورة صريحة في المقام الاول.
بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخص وتتعلق بمجموعهم، هذا لو جمدنا على استظهار الموضوع المتعلق بالمجموع من لفظة (امرهم)، ولم نستظهر معنى الشأن من الامر ـ كما استظهره كثير من المفسرين ـ أي بمعنى شأنهم وعادتهم ودأبهم على عدم الاستبداد بالرأي واعتماد طريقة الاستعانة بالمستشارين.
ونكتة الاضافة الى ضمير الجماعة هى وحدة سوق الافعال في الايات كما في
فهو امر لكل المسلمين بأن تكون منهم جماعة خاصة وقوة معينة تأمر بالمعروف وتدير فيهم دفة الامور حيث ان الامر بالمعروف عام يشمل كل ما فيه صلاح الأمة الاسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درجاته الأولى مثبت لنحو من الولاية من للآمر وللناهي على الطرف الآخر، فكيف في درجاته القصوى المستلزمة للضرب او المنع الخارجي بالقوة.
وبتقريب آخر أن الأمر بالمعروف له صورتان، أحدهما: صرف الامر والنهي الانشائي والقولي والاخر: ان يراد منه الأمر التنفيذي وتطبيق ذلك المعروف والردع عن المنكر. فإن كان الأمر الأول فلا خصوصية فيه حتى تختص به طائفة معينة بل هو عام شامل لجميع المسلمين. فلابد أن يكون المراد منه هو الصورة الثانية وحينئذ يتعقل تخصيصه بجماعة خاصة تقوم بهذا الامر.
بل ان محمد رشيد رضا(٢) يرى أن هذه الآية في دلالتها على كون الشورى اصل الحكم في الاسلام اقوى من دلالة آيتي الشورى.
وفي كل ما ذكر نظر بيان ذلك:
١ ـ مادة (اولياء) و(ولي) ورد استعمالها في القران فى موارد كثيرة جداً(٣)
٣- راجع معجم الفاظ القرآن الكريم ٢: ٨٤٠.
فالمنافقون يأمرون بالمنكر والمؤمنون يأمرون بالمعروف.
والمنافقون ينهون عن المعروف والمؤمنون ينهون عن المنكر.
والمنافقون يقبضون ايديهم والمؤمنون يؤتون الزكاة.
والمنافقون نسوا الله فنسيهم والمؤمنون يطيعون الله ورسوله وسيرحمهم الله.
والمنافقون وعدهم نار جهنم والمؤمنون وعدهم جنات تجري من تحتها
فالآية الكريمة غير ناظرة الى الولاية بمعنى الحكم وادارة الشؤون كما هو مورد الاستشهاد بها.
ومما يدل على ما ذكرناه أيضاً أن اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واعمال فردية وليست متفرعة عن ولاية البعض على البعض، مضافاً الى أن ذيل الآية ويطيعون الله ورسوله فإذا كانت بصدد بيان سلطة الجماعة على مجموع الأمة فكيف يلتئم مع الحث على طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وانصياعهم ومتابعتهم.
٢ ـ اما الاية الثانية فإن غاية ما تدل عليه أن الامة يجب عليها تشكيل مثل هذه الجماعة لتدير دفة الدولة، ولكن هذا لا يفيد أن السلطة من الامة بل السلطة تكون من قبل الله تعالى وأن التولية الفعلية العملية هي بيد الامة وهذه وظيفتهم من حيث أن الحكم وظيفة يقوم بها الحاكم والمحكوم، فالحاكم تكون سلطته من قبل الله تعالى وعلى المحكوم الرجوع وتمكين الحاكم من ذلك.
وبتعبير آخر أن الآية تبين الدور الذي يجب أن تقوم به الامة في مجال الحكومة وهو تمكين صاحب الصلاحية والسلطة لا ان التشريع والقدرة هو بيد الامة. فالآية لا تتعرض لهذا المقام بل تذكر ما هو تكليف الامة وكيف تتعامل مع مسألة الحكم وتمكين الحاكم.
٣ ـ أن هذا الدور لا يعني أنّ لها تخويل من تشاء وتسلطه على نفسها، كيف والآية تصف الجماعة الآخذة بزمام الأمور انها داعية الى الخير كل الخير لمكان اللام الجنسية أو الاستغراقية، آمرة بالمعروف كل المعروف لمكان اللام أيضاً، ناهين عن المنكر كل المنكر لذلك أيضاً عن المنكر الاعتقادي او الاقتصادي او المالي او
٥ ـ ان في الآية احتمالاً آخر وهو كونها في صدد بيان الوجوب الكفائي للآمر بالمعروف غير المشروط بالعلم بالمعروف بل العلم قيد واجب فيه وهو مغاير للوجوب الاستغراقي المشروط بالعلم بالمعروف نظير وجوب الحج الكفائي غير المشروط على كل المسلمين في كل سنة أن يقيموا هذه الشعيرة لئلا يخلو البيت هو مغاير للوجوب الاستغراقي العيني المشورط بالاستطاعة.
ويمكن تقريبه بأن الشرط العام الذي يذكره الفقهاء في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بأحكام الشريعة فالجاهل لا يتأتى منه ذلك. فاشتراط العلم هو شرط وجوب وبضميمة أن التعلم لجميع الاحكام أو غالباً غير ما يبتلى به نفس المكلف واجب كفائي فهذا يعني ان الواجب هو قيام فئة من المجتمع بالتعلم المزبور فيتحقق موضوع الوجوب الآخر المشروط به وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالآية الكريمة محتملة أن تكون بصدد الاشارة الى ضرورة حصول ذلك التوجه لدى فئة من المجتمع للقيام بهذه الوظيفة نظير الوجوب الكفائي لإقامة الحجج غير المشروط بالاستطاعة لئلا يخلو بيت الله الحرام عن إقامة هذه الشعيرة ولئلا يعطّل.
وبتعبير آخر اننا تارة ننظر الى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى اقامة
ثالثاً: البيعة:
١ ـ {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}(١).
٢ ـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوف فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(٢).
تقريب الاستدلال:
ينطلق المستدل من المعنى اللغوي للبيعة. فالبيعة الصفقة على ايجاب البيع وبايعته من البيع، والمبايعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع
وقد استدل من الروايات:
ـ عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ثلاث موبقات نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة(٢).
وقال العلامة المجلسي نكث الصفقة نقض البيعة وانما سميت البيعة صفقة لأن المتبايعين يضع احدهما يده في يد الاخر عندها. ويؤيد ما مضى السبر التأريخي حيث نرى الالتزام بالبيعة، فبيعة العقبة الاولى والثانية، وبيعة الامام علي وابنه الحسن والحسين (عليهم السلام). ومبايعة الامام الرضا (عليه السلام) وما ورد في مبايعة الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)(٣).
وتقريب الاستدلال بالروايات:
١ ـ نفس المعنى اللغوي المتقدم والذي يجعل البيعة نوع تولية وانشاء ولاية فالطاعة وانشاء الولاية للحاكم في مقابل تقسيم بيت المال والغنائم كما يظهر من مفردات الراغب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته الفصل الثالث ـ فصل ٢٩ ان
٣- سيرة ابن هشام ٢: ٦٦ / ٧٣ ـ الكامل لابن الاثير ٢: ٢٥٢ ـ الارشاد ص ١١٦ / ١٧٠ / ١٨٦ ـ الاحتجاج ١: ٣٤ ـ نهج البلاغة الخطب ١٣٧ / ٢٢٩ ـ وفي الغيبة للنعماني ص ١٧٥ ـ ١٧٦ في أمر الحجة (عليه السلام): فوالله لكأني انظر اليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء.
٣ ـ ان السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الاسلام مقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم. وهذه الحقيقة والماهية أمضاها الاسلام.
٤ ـ من تكرر السيرة على أخذ البيعة عند الاستخلاف يدل على ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط وتأمير الآخرين، وهذا يدل على أنه كما ننشئ بالتأمير والولاية بالنص فإنها تنشأ بالبيعة فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف أحدهما النص والاخر البيعة، فإذا ما وجدا معاً فإن يكون من باب التأكيد والثبوت. كما في تولية الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) حيث لم يقل أحد أن توليه كان بالبيعة بل بنص الله عزوجل الذي أوجب حاكمية الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أوجب رسالته ونبوته، أما كون البعية له هي المنشئة لتوليه وإمرته فهى بعيدة عن أقوال العامة والخاصة، ومن ادعى ذلك من المتأخرين فهو غن غفلة عن تلك النصوص ومخالفة لضرورة الذين عند الفريقين.
وفي هذا الاستدلال نأمل من جهات:
١ ـ اننا ننطلق من نفس مدلول البيع. فان المحققين والفقهاء(١) نصوا على ان البيع ليس من الاسباب الاولية لحصول الملكية فهو ليس كالحيازة والابتكار
اننا نلاحظ انه في الآيتين وفي غيرها لم يرد ذكر للحاكمية على الاطلاق، بل وردت المبايعة على المناصرة والالتزام بأمور أوجبها الاسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم عليهم تركها فما الذي أفادته البيعة؟ اذن البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام. فهي أولاً: لم يكن موردها الحاكمية فإن حاكمية الرسول هى من الله، وثانياً: لم تكن فيه عملية نقل او انشاء ولاية على الاطلاق، وهذا يعني ان للبيعة معنى آخر ليس هو نفس المعنى المأخوذ فى البيع.
٦ ـ ان القائل بالبيعة لا يقول بها بنحو مطلق بل يجعلها مقيدة بقيود أوجبها الشارع والعقل فلا تجوز بيعة الظالمين، وكذلك يجب توافر الشروط التي أوجبها الشارع في الوالي وتدور حول محورين هما الكفاءة والأمانة، وهاتان الصفاتان لا تكونان بنحو واحد عند كل الأفراد بل تختلف بنحو متفاوت، فإذا انطبقت على أحدهما دون الآخر فإن العقل سوف يعين من هو أكفأ وأكثر أمانة. وإذا ثبت توفر الصفتين بنحو تام الكمال الى حد العصمة بأدلة أخرى ونصوص تامة السند والدلالة ـ طبقاً لنظرية النص ـ فإنها سوف تكون هى المعينة. وعلى كل حال فإنّ التعيين إما أن يكون للعقل أو الشرع.
فيعود الامر الى ان الشارع هو الذي يعطي الصلاحية لا الفرد ويكون دور الفرد هو الكاشفية فقط.
٧ ـ ان الروايات طافحة بعبائر امثال “الأمر لله يضعه حيث يشاء”، وهذا يعني ان البيعة ليست تولية وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين الرسول (صلى الله عليه وآله) وبين عامر بن