ولنقرأ معا النص التالي من الزيارة الجامعة لأهل البيت عليهم السلام المروية عن الإمام الهادي عليه السلام (أنتم السبيل الأعظم، والصراط الأقوم، وشهداء دار الفناء، وشفعاء دار البقاء، والرحمة الموصولة، والآية المخزونة، والأمانة المحفوظة، والباب المبتلى به الناس، من أتاكم فقد نجى، ومن لم يأتكم فقد هلك، إلى الله تدعون، وعليه تدلُّون).
وروى السيوطي والطبراني عن خالد بن عرفطة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي).
فالناس مبتلون أي ممتحنون بأهل البيت عليهم السلام وبإمامتهم على أن يعتقدوا بذلك ويطبقوه، ويبذلوا أموالهم وأنفسهم وأرواحهم في سبيل الثبات على أمر الله تعالى فيما يتعلق بأهل البيت.
وهذا الإختبار الإلهي قد أجج صراعا تاريخيا كبيرا وواسعا، قد يبدوا غامضا عند البعض من الناس، الذين لا يودون البحث عن الحقيقة والأحقية. ذلك الصراع الذي بدأ منذ العصور الأولى للإسلام، حيث ثارت الغيرة، وظهرت الضغائن والأحقاد، وانتشر الحسد ضد بني هاشم وأتباعهم من المؤمنين المخلصين، قال تعالى في سورة النساء. الآيتان: ٥٤ – ٥٥{أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما، فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا}.
عن بريد قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فسألته عن قول الله تعالى:
{أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}قال: فنحن الناس ونحن المحسودون على ما آتانا الله من الامامة دون خلق الله جميعا{فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما}جعلنا منهم الرسل والانبياء والائمة عليهم الصلاة والسلام، فكيف يقرون بها في آل إبراهيم ويكذبون بها في آل محمد عليهم الصلاة والسلام{فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا}. روي ذلك ابن حجر في الصواعق، وابن المغازلي الشافعي، وفي شواهد التنزيل للحسكاني.
وكانت النتيجة أن عصى أغلب المسلمين أمر الله، ولم ينجحوا في ذلك الإختبار الإلهي المتعلق بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ولده عليهم الصلاة والسلام، وكان أن تمكن من الحكم والسلطة، من نزع من أهل البيت حقوقهم وإمامتهم، ومن هجم على بيوتهم وحرقها، وأسقطت السيدة فاطمة الزهراء جنينها بضربة من مجرم متأله فاجر، أدت إلى عصرها عليها السلام بين الباب والحائط مما أدى إلى كسر أضلاعها وأذيتها، وأهين الإمام علي وتم عزله عن الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، ودأب المسلمون على سبه وشتمه، وبذل أولئك كل ما يملكون من قوة لطمس حقيقة أهل البيت وأحقيتهم ومظلومياتهم، وإخفائها وإنكارها إذا اقتضى الأمر، وملاحقة أتباعه وشيعته بالأذى والتشريد والتعذيب والقتل، وعلى ذلك سار أتباعهم إلى يومنا هذا. وهذا ما نشاهده اليوم من قتل وتشريد وإرهاب ضد أتباع أهل البيت عليهم السلام. وما نقم أولئك من أتباع أهل البيت وشيعتهم إلا أن آمنوا بالله وأطاعوه واتبعوا أمره، هذه هي تهمتهم العظمى.
أيوجد بلاء أعظم من هذا البلاء؟ أليس هذا الإبتلاء حجة على من شاهد أو سمع؟، فقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها – وقال مرة فأنكرها – كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها). ورواه السيوطي في الجامع الصغير وقال صحيح.
وقال صلى اللّه عليه وسلم: “إن اللّه لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب اللّه الخاصة والعامة” (رواه أحمد).
وروى في كنز العمال ومجمع الزوائد عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضي به كان كمن شهده).
وروى في كنز العمال عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ستكون أمور فمن رضيها ممن غاب عنها كان كمن شهدها، ومن كرهها ممن شهدها فهو كمن غاب عنها). ورواه أبونعيم وابن النجار.
أليس في مظلوميات النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين وبقية أهل البيت إثارة لعقول وعواطف المؤمنين، وحجة بليغة ضد الغافلين عن أهل البيت وضد الناصبين لهم العداء؟.
لاحظوا وفي الفترة الأخيرة عندما حوصرت كربلاء والنجف، وقصفت مراقد الأئمة في العراق، وتكرار تلك المشاهد من خلال المحطات الفضائية التي تنقل الحدث مباشرة، والإعتداء على مساجد أهل البيت، وحالات إغتيال أتباع أهل البيت عليهم السلام. أليس في تلك المشاهد حجة على المشاهد والمستمع، من أجل أن يسأل نفسه، ما هي تلك المراقد؟ ومن هم الشيعة؟. ومن هم أهل البيت؟. وماهي مظلومياتهم؟.
فمن ثبت على ولائهم فهو من أهل الرسوخ والتمكين ويزيده الله تعالى رفعة وعلوا، وأما من كان غافلا فربما يتنبه ويتوصل إلى الحقيقة، وأما الناصب العداء لهم ولشيعتهم، فلا تزيده مظلوميات أهل البيت وشيعتهم إلا سخطا وبغضا من الله تعالى، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ونار جهنم هي المصير.
إن الناظر في ابتلاءات أهل البيت ومظلومياتهم، يجد أنها كانت من أجلنا، حتى ينقذنا الله بهم من الضلال، ونسير بأمان وثبات على الصراط المستقيم.
فكلما تمعن العبد المؤمن في مظلوميات أهل البيت وابتلاءاتهم، وتضحياتهم، وحملهم الأمانة على أكمل وجه، وصمودهم أمام الطواغيت والجبابرة في سبيل المحافظة على الدين، يجد أن كل ذلك من أجلنا، حتى يصلنا منهاج الشريعة المحمدية طاهرا صافيا نقيا، لم تمسه أيدي العابثين والحاسدين والحاقدين.
فهم عليهم الصلاة والسلام قد قدموا أنفسهم عبودية لله تعالى من أجلنا حتى نكون في مقدمة الأمم، سباقين في كل المجالات، وحتى نكون معهم من الناجين
في سفينة النجاة، وحتى يرفعوا ونرفع معهم بإذن الله تعالى لواء الحق عاليا خفاقا فوق ربوع الأرض من دون إفراط أو تفريط.
لقد ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء في سبيل المحافظة على رسول الله ودعوته، وفي سبيل تعزيز الصلة بين العباد وربهم، فبثوا لنا تراث النور والهداية، وها هو تراثهم يملئ شرق الأرض وغربها، بالرغم من كل محاولات طمس نورهم وإخفاءه عن الناس، نجده يسطع متلألئا، وبشكل مطرد، منتظرا ظهور الأمام الثاني عشر الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكلما ازداد الظلم والجور، اقترب الوعد الحق بظهوره عليه السلام.
لقد استطاع الأئمة من أهل البيت وشيعتهم أن يحولوا ابتلاءاتهم ومظلومياتهم من تعرفات جلالية إلى مقامات جمالية وكمالية رائعة، وحلوا في مقامات الشكر العالية هم وأتباعهم المخلصون الموفون بعهدهم، وكشفوا عن مكنونات حقائقهم الجمالية أمام الله وأمام العباد، ونجدهم وكل أتباعهم دوما يرددون قوله تعالى{الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.
وروى الطبري والطبراني وابن كثير عن العتبي عن أبيه أن الأمام علي بن الحسين عليه السلام قال (إنا أهل بيت نطيع الله عز وجل فيما نحبه، ونحمده على ما نكره).
وعلى ذلك يكون هذا النوع من الإبتلاء هو من أجل رفعة وترقية المبتلين به، وإشهاد رسوخهم وتمكينهم وثباتهم، ومن أجل إظهار مكنونات حقائقهم، وحقيقة تمكنهم من الإيمان، والإستسلام لأمر الله تعالى، وبيان جاهزيتهم لخدمة الله تعالى وشريعته من على بساط العبودية الصادقة لله تعالى. ولذلك كان رسولنا الأكرم وأهل بيته الطاهرين القدوة في كل شيء، في الصبر والحلم والتقوى والشجاعة والعلم، والتحمل، وحمل الأمانة والتضحية والفداء، فها هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي رسول الله صلى الله عليه وآله عندما أجمعت قريش على قتله في مكة وبات في فراش النبي وهو يعلم أنه مقتول لا محالة، فأظهر الله حقيقة حبه وفداءه للنبي، وأنزل الله في ذلك قرآنا يتلى بعد أن باهى الله به الملائكة.
روى الحافظ العراقي عن ابن عباس بات علي عليه السلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختارا كلاهما الحياة وأحباها، فأوحى الله عز وجل إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل عليه السلام يقول: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب والله تعالى يباهي بك الملائكة فأنزل الله تعالى{ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد}. ورواه أحمد مختصرا، وهو عليه السلام أول من بارز في بدر وأحد، وهو وأهل البيت الذين بقوا في حنين بعد أن انهزم المسلمون، وهو الذي تصدى لعمروا بن ود العامري وقتله، بعد أن رفض الصحابة منازلته بعد أن ضمن رسول الله لمن ينازل عمروا بن ود الجنة، وبالرغم من ذلك الضمان النبوي، لم يتقدم سوى أمير المؤمنين.
روى السيوطي عن ابن عباس قال قتل علي بن أبي طالب عمرو بن ود ودخل على النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما رآه كبر وكبر المسلمون فقال اللّهم أعط علياً فضيلة لم تعطها أحداً قبله ولا تعطها أحداً بعده فهبط جبريل ومعه أترجة من الجنة فقال إن اللّه يقول حي بهذه علي بن أبي طالب فدفعها إليه فانفلقت في يده فلقتين فإذا حريرة بيضاء مكتوب فيها سطرين تحية من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب. وفي ذلك الموقف قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (برز الإيمان كله إلى الشرك كله) وقال (ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين). وكذلك في يوم خيبر عندما لم يفلح أبو بكر ولا عمر بفتح حصون خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله).
وها هو الإمام أبي عبد الله الحسين عندما خرج إلى كربلاء، كان يعلم أنه مقتول هو وأبناءه وأصحابه، وأخذ معه نساءه، وبالرغم من محاولة ثنيه عن
ذلك من بعض المسلمين، قال عليه السلام” لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وأنما خرجت لطلب الإصلاح في أمتي جدي، آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب. فذهب مضحيا في كل شيء من أجل بعث دين جده محمد من جديد، راضيا بقضاء الله مستسلما لأمره، روى النووي في بستان العارفين عن الإمام الشافعي قال (مات ولد للحسين بن عليٍّ عليهما السلام، فلم يرى عليه كآبةٌ! فعوتب في ذلك، فقال: إنا أهل بيتٍ نسأل الله تعالى فيعطينا، فإِذا أراد ما نكره فيما يحب، رضينا).
وأما السيدة فاطمة الزهراء سلام الله تعالى عليها، سيدة نساء العالمين، بضعة رسول الله، فكانت القدوة في الثبات أمام المحن والإبتلاآت التي تعرض لها رسول الله صلى الله عليه وآله، في بداية الدعوة وأثناء مراحلها كلها، فقد كانت الأولى في كل شيء، فاستحقت أوسمة الشرف الربانية بعد أن حققت أسمى معاني العبودية، فكانت ولازالت وستبقى سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، حتى أن الله تعالى لطهارتها وفنائها في الله تعالى قد منحها وساما عاليا رفيعا، أن من آذاها فقد آذى الله، ومن أغضبها فقد أغضب الله، وأن الأئمة من ولدها وغير ذلك من الأوسمة العالية الرفيعة.
روى السيوطي وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من حملة الإبل، فلما نظر إليها قال: يا فاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا فأنزل الله{ولسوف يعطيك ربك فترضى}.
وكذلك سيرة الإمام الحسن عليه السلام وبقية الأئمة من أهل البيت وأصحابهم المخلصين، والعلماء الصادقين الذين اتبعوا نهجهم، بصدق وأمانة وتحملوا كل أنواع الإبتلاء والأذى والظلم، عبودية لله تعالى، وطاعة له ولرسوله، فكانت كل ابتلاءاتهم رفعة وترقية لهم عند الله، وحجة علينا.
الوسيلة بين العبودية والربوبية:
وأعتقد أنه من الضروري جدا للعبد المؤمن، حتى يزداد قربا من الله تعالى، وحبا وولاء لأحباب الله أهل البيت عليهم السلام، أن يتفكر دائما في ابتلاءاتهم ومظلومياتهم، حتى تزاد عوامل الصلة الوثيقة بينه وبينهم، ففي الحزن لأحزانهم، والفرح لفرحهم، آثار كبيرة وواضحة في تطهير النفس البشرية من حجاب الغفلة الكثيف عنهم، وعن موقعية الوسيلة بيننا وبين ربنا أثناء تحقيق معنى العبودية لله تعالى، فكلما تعمقنا في معانيهم عليهم السلام، فإننا نتطهر ونطهر، ونزداد إيمانا وروحانية تجعلنا مؤهلين لحضرة القرب والفتح الإلهي والمدد الرباني الواسع، عسى الله أن يرضى عنا فمن أرضاهم فقد أرضى الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن والاهم فقد والى الله، وعسى الله أن يفتح علينا بتعجيل فرجهم وفرج المؤمنين.
في الحقيقة، فأنا أخجل من نفسي وأنا العبد الفقير العاجز وأنا أحاول التعريف بأئمتي الهداة المهديين، ولازلت أجهل حقيقتهم، يعجز القلم أن يكتب وكذا يعجز الوصف عن أولئك العظماء، القدوة والأسوة في كل شيء، وفي كل مثل أعلى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأتوسل إلى الله تعالى أن يعرفني أئمتي، فإنني إن لم أعرفهم لم أعرف ديني، حتى أكون بين يدي ربي متحققا بأوصاف العبودية التي ارتضاها لمخلوقاته، وجعل أهل البيت عليهم السلام الوسيلة بين العبودية والربوبية، إنه قريب مجيب.
النوع الثاني من الإبتلاء:
قال تعالى في سورة المائدة الآية١١٩{قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم}.
وهؤلاء الصادقون منهم من يرتقي إلى أقصى درجات ميزان أهل اليمين، ومنهم من يتوسطه، ومنهم من يتجه إلى درجاته الدنيا عند حدود ميزان الكاذبين.
ولذلك كانت الإبتلاءات في هذا النوع من أجل أن يحقق العباد موقعهم على ميزان أهل اليمين، فتكون الإبتلاءات وبشكل عام لتمييز العبد على درجات
الميزان، من ناحية أعلى درجاته وهي الأقرب إلى ميزان السابقين، أوفي أوسط الميزان أو في أدنى درجاته وهي الأقرب من ميزان الكاذبين.
ولذلك كان هذا النوع من الإبتلاء والإختبار حتى يحدد العبد موقعيته على ميزان أهل اليمين، ويكشف عن حقيقة ما يدعيه مما يعتقده ويؤمن به على بساط العبودية لله تعالى.
وموقعية العبد على هذا الميزان ترتفع نحو السابقين أو تنخفض نحو الكاذبين، أي أنها تزداد وتنقص حسب فهم العبد لمعنى الإبتلاء والإختبار والتعرفات الإلهية التي يتعرض لها، فإذا كان العبد صادقا في عبوديته ظاهرا وباطنا، فيبتليه ربه ليطهره ويرقيه، وربما يكون صادقا لكنه يعيش بعض الغفلة فيبتليه ليذكره وينبهه، أوربما يكون العبد صادقا في ظاهره مدعيا كاذبا في باطنه فيبتليه ربه ليميزه عن الصادقين وليكشف حقيقته حتى يتبين أنه من المدعين لمقامات الصادقين، فينزل إلى ميزان الكاذبين المنافقين ليحدد له موقعا عليه.
وعلى ذلك يكون هذا النوع من الإبتلاء، ابتلاء تأديب وتنبيه، وابتلاء إنذار وتذكير، وابتلاء تمييز وتطهير.
وهذا النوع من الإبتلاء يعتبره العلماء العارفون منة ونعمة من الله تعالى لعبده، وهو رسائل تذكير وتنبيه من أجل التأديب والتهذيب، أو تمييز وتحقيق وتطهير. ومن أجل حماية المؤمن من الإفتتان والركون إلى الدنيا.
ويبتلى في هذا النوع أغلب المسلمين، خصوصا منهم المؤمنين، ومن عرف عن الحقائق الإلهية ولو القليل.
وحيث أن شؤون الحياة والجسد والنفس تتغلب على غيرها من الشؤون، فكثيرا ما ينزع الناس إلى الدنيا وملذاتها والطمع في الحصول على الحد الأعلى من موجوداتها، من أجل تحقيق رغبات وشهوات الإنسان، فلربما يغفل الإنسان عن آخرته وعن دينه وشريعته، ويكون التوجه إلى الدنيا في تلك الحال على حساب العمل للآخرة.
ما يجب معرفته وتذكره
وعلى رأس ما يجب على المؤمن المحافظة على تذكره والتنبه له، هو المحافظة على الصلة الوثيقة بالأئمة من أهل البيت عليهم السلام، من خلال معرفتهم ومعرفة حقوقهم وأحقيتهم، وكذلك معرفة محبيهم ومبغضيهم، ومعرفة مظلومياتهم وظالميهم، بالإضافة إلى معرفة ما بينوا من الأوامر والمنهيات الربانية والأوامر والنواهي النبوية الصحيحة من خلال متابعتهم والإقتداء بهديهم، ومن المهم أيضا تذكر الموت والمصير الذي سوف يؤول إليه العبد بعد هذه الحياة، وباختصار يجب أن يعرف عقيدته التي فيها رضى الله ورسوله وكذلك الأحكام الشرعية المأمور بتحقيقها والنواهي المأمور باجتنابها.
الإعتبار من القصص القرآني
ومن المهم أيضا قراءة القرآن الكريم والحديث النبوي الصحيح، حتى يعرف العبد ما فيه من تنبيهات وتحذيرات وعبر، وسوف نلقي الضوء على بعض الآيات المتعلقة بموضوعنا من أجل توضيح بعض المعاني المتعلقة بالإبتلاء.
قال تعالى سورة الأعراف الآية ١٣٠{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون}.
وقال تعالى في سورة الأعراف الآية ٢٦{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون}.
وقال تعالى في سورة الأنعام الآية ٤٢{ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون}.
وقال تعالى في سورة الأعراف الآية ٩٤{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون}.
وقال تعالى في سورة الأعراف. الآية: ١٦٨{وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون}.
وقال تعالى في سورة الروم. الآية: ٤١{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}.
وقال تعالى في سورة السجدة. الآية: ٢١{ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون}.
وقال تعالى في سورة الزخرف. الآية: ٢٨{وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون}.
وقال تعالى في سورة الزخرف الآية ٥١{وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون}.
تطهير وتمييزوتمحيص
وهناك قسم آخر من الناس يتعرضون لهذا النوع من التعرفات الجلالية، وهذا ما يختص به المؤمن الصادق الذي يريده رب العالمين أن يكون مؤهلا للعناية الإلهية والعطاء والمدد، وهذا لا يقبل منه أن يكون في مستوى المسلمين العاديين، فحسنات الأبرار سيئات المقربين. فتنزل بهم التعرفات الجلالية من أجل تطهيرهم، وتمييزهم وتمكينهم من القيم الأخلاقية والأدبية الفاضلة. ومن أجل الإعتبار والتأسي. بل وربما يحميهم الله من كثير من درجات الدنيا، فيبتليهم بالفقر لأنهم لا يصلحون بالغنى، ويبتليهم بالمرض لأن الصحة تفسدهم، لأن الله تعالى هو الذي يعلم الحال الذي ينفع العبد المؤمن ويصلحه أو يضره، قال تعالى في سورة البقرة الآية: ٢١٦{عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: فيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن: يا موسى ما خلقت خلقا أحب إلي من عبدي المؤمن، وإني إنما أبتليه لما هو خير له، وأعطيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليرض بقضائي، وليشكر نعمائي، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري.
وعلى ذلك فإن دور العبد المؤمن الصادق في هذا المعنى من الإبتلاء أن يرضى بقضاء ربه له، وأن يستسلم لإرادته، وأن يشهد الله على صدق
عبوديته له، وعلى العبد المؤمن الصادق أن يتيقن أن الله ممتحنه ومختبره في كل ما يدعيه، وهذا ما نشاهده عند المؤمنين التائبين الآيبين إلى الله حديثا، فإن الدنيا تكون مفتوحة عليه من كل أبوابها حتى إذا ما تاب وعاد إلى بساط العبودية حقيقة، تلاحقه الإختبارات الإلهية والتعرفات الجلالية، حتى يكشف حقيقة توبته وصدق أوبته ويشهد الله على إيمانه ومجاهدته في الله ولله. فيطهره الله تعالى حتى يهيأه للمنزلة التي أعدها له في الجنة.
قال تعالى في سورة آل عمران الآية ١٤٠{وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين}.
وقال تعالى في سورة محمد الآية ٣١{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين}.
وقال تعالى في سورة الحديد الآية ٢٥{وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز}.
قال تعالى في سورة آل عمران ١٣٩-١٤٢{ولاتهنوا ولا تحزنوا وإنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}.
وقال أبو عبد الله الإمام الصادق عليه السلام: إنه ليكون للعبد منزلة عند الله عز وجل، لا يبلغها إلا بإحدى الخصلتين، إما ببلية في جسمه، أو بذهاب ماله.
تمييز الخبيث من الطيب
وقسم ثالث من العوام، وهم الذين يدعون الأحوال الدينية وهم ليسوا من أهلها، فيظهرون للناس مدى إهتمامهم في دينهم، وحبهم لله ولرسوله وأهل بيته، ويتنسكون ويلبسون مسوك الضان، ويتحلون بحلية الصالحين، ولكن قلوبهم خاوية على عروشها، خالية من مقومات الإيمان، فهم قوم أصلحوا
ظواهرهم للناس وخربوا بواطنهم أمام الله،{إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم}.
وهذا القسم يشمل طبقات متعددة من المسلمين منذ بداية الدعوة الإسلامية في مكة والمدينة وفشى واستشرى بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى، وما زال هذا القسم مستمرا حتى يومنا هذا، فتنزل بهم التعرفات الجلالية لتكشف حقيقتهم، ولتنضح قلوبهم بما فيها، لتفضحهم وتظهر كذبهم ونفاقهم. فمن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الإمتحان. فكانت الإبتلاءات لهم تمييزا لهم وفضحا لأحوالهم، وكشفا لحقيقتهم، فتجدهم عند سكرات الموت، يظهرون كثيرا مما كان منهم في حياتهم من ظلم واعتداء على عباد الله تعالى، وتهجم على بيوت أولياء الله، وحرقها والإعتداء على المسلمين، فيظهرون ندمهم في اللحظات الأخيرة من الحياة، فمنهم من قال (وددت أني كنت نسياً منسيا (ومنهم من قال (وددت أني لم أكن أكشف بيت فاطمة وتركته). ومنهم من يقول (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) ومنهم من يقول (يا ليتني كنت ترابا).
بينما تجد المؤمن الصادق في شوق إلى لقاء ربه ولقاء نبيه وأئمته، هذا حالهم عند الموت، فهذا بلال رضي الله عنه كان يردد وهو في حالة النزاع يقول (واطرباه، غداً نلقى الأحبه، محمداً وصحبه) وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قولته المشهورة (فزت ورب الكعبة) بعدما ضربه ابن ملجم لعنة الله عليه.
قال تعالى في سورة العنكبوت الآيات ١ – ٣{الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}.
وقال تعالى في سورة العنكبوت الآيات: ٤ – ٧{أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون}.
وقال تعالى في سورة العنكبوت الآية ١٠ – ١١{ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين، وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين}.
لاحظ الآيات كيف توضح أن الناس أنواع بحسب ادعاءاتهم وأحوالهم، فمنهم الصادق ومنهم المنافق ومنهم الكاذب ومنهم الضعيف الذي بميل مرة مع المؤمنين ومرة مع الضائعين في الدنيا، فجاءت التعرفات الجلالية لتضع كل واحد منهم في موقعه الذي يستحقه، وكشفت عن حقيقته والتزامه بما يقول ويدعي، فيطهر من كان من المؤمنين الصادقين من كان من السابقين، وأما إن كان من أهل اليمين، تكو ن التعرفات بالنسبة له تنبيه وتذكير وتأديب، وعى كل فكلا الحالتين هي تمييز لهما عن أهل العقوبة والطرد.
ابتلاء المال والبدن وما يرتبط بهما
و لبيان تلك الأقسام من التعرفات الجلالية وبيان أماكن تأثيرها، نقول أنها ربما تكون في نفس العبد وبدنه وما يخصه من مال أو أهل أو ولد أو عرض، ويكون ذلك تأديب وتهذيب وتطهير.
أخرج ابن عدي والبيهقي وضعفه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن الله ليبتلي عبده بالبلاء والألم حتى يتركه من ذنبه كالفضة المصفاة” وأخرج أحمد عن أبي الدرداء “سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الصداع والمليلة لا يزال بالمؤمن وإن ذنبه مثل أحد فما يتركه وعليه من ذلك مثقال حبة من خردل” وأخرج أحمد عن خالد بن عبد الله القسري عن جده يزيد بن أسد أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: المريض تحات خطاياه كما يتحات ورق الشجر.
وأخرج ابن أبي شيبة عن سلمان قال: إن المؤمن يصيبه الله بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفارة لسيئاته ومستعتبا فيما بقي، وإن الفاجر يصيبه الله بالبلاء ثم
يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله، لا يدري لم عقلوه ثم أرسلوه فلا يدري لم أرسلوه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عمار أنه كان عنده أعرابي، فذكروا الوجع فقال عمار: ما اشتكيت قط؟ قال: لا. فقال عمار: لست منا، ما من عبد يبتلى إلا حط عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها، وإن الكافر يبتلى فمثله مثل البعير عقل فلم يدر لم عقل، وأطلق فلم يدر لم أطلق.
روى الحاكم في المستدرك قال، قال النبي -صلَّى الله عليه وآله وسلم-: (ما يزال البلاء بالمؤمن في جسده وماله، حتى يلقى الله -تعالى- وما عليه خطيئة).
ومن الضروري أن يتذكر القارئ العزيز أن هذا الثواب العظيم، المذكور في الأحاديث، يختص بالمؤمنين، فليس كل مبتلى يكون ابتلاءه تطهير وتزكية بل ربما يكون عقوبة، ولذلك تصف الأحاديث العبد المبتلى بالمؤمن، وحتى أعزز المعنى أضيف مجموعة من الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، توضح معنى هذا النوع من الإبتلاء.
قال الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: فيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يا موسى ما خلقت خلقا أحب إلي من عبدي المؤمن، وإني إنما أبتليه لما هو خير له، وأعطيه لما هو خير له، وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليرض بقضائي، وليشكر نعمائي، أكتبه في الصديقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري وعن أبي الحسن عليه السلام قال: ما أحد من شيعتنا يبتليه الله عز وجل ببلية فيصبر عليها إلا كان له أجر ألف شهيد وعن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى إذا كان من أمره أن يكرم عبدا وله عنده ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ابتلاه بالحاجة، فإن هو لم يفعل شدد عليه عند الموت، وإذا كان من أمره أن يهين عبدا وله عنده حسنة أصح بدنه، فإن هو لم يفعل وسع في معيشته، فإن هو لم يفعل هون عليه الموت.
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال الله تبارك وتعالى: وعزتي لا إخرج لي عبدا من الدنيا أريد رحمته، إلا استوفيت كل سيئة هي له، إما بالضيق في رزقه، أو ببلاء في جسده، وإما خوف أدخله عليه، فإن بقي عليه شيء، شددت عليه الموت.
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: مر نبي من أنبياء بني إسرائيل برجل بعضه تحت حائط وبعضه خارج منه، فما كان خارجا منه قد نقبته الطير ومزقته الكلاب، ثم مضى ووقعت له مدينة فدخلها، فإذا هو بعظيم من عظمائها ميت، على سرير مسجى بالديباج حوله المجامر، فقال: يا رب إنك حكم عدل لا تجور، ذاك عبدك لم يشرك بك طرفة عين، أمته بتلك الميتة، وهذا عبدك لم يؤمن بك طرفة عين أمته بهذه الميتة. فقال الله عزوجل: عبدي أنا كما قلت حكم عدل لا أجور، ذاك عبدي كانت له عندي سيئة وذنب، فأمته بتلك الميتة لكي يلقاني ولم يبق عليه شيء، وهذا عبدي كانت له عندي حسنة، فأمته بهذه الميتة لكي يلقاني وليس له عندي شيء.
عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه رفعه قال: بينما موسى يمشي على ساحل البحر، إذ جاء صياد فخر للشمس ساجدا، وتكلم بالشرك، ثم ألقى شبكته فأخرجها مملوءة، فأعادها فأخرجها مملوءة، ثم أعادها فأخرج مثل ذلك، حتى اكتفى ثم مضى.
ثم جاء آخر فتوضأ ثم قام وصلى وحمد الله وأثنى عليه، ثم ألقى شبكته فلم تخرج شيئا، ثم أعاد فلم تخرج شيئا، ثم أعاد فخرجت سمكة صغيرة، فحمد الله وأثنى عليه وانصرف.
فقال موسى: يا رب عبدك جاء فكفر بك وصلى للشمس وتكلم بالشرك، ثم ألقى شبكته، فأخرجها مملوءة، ثم أعادها فأخرجها مملوءة، ثم أعادها فأخرجها مثل ذلك حتى اكتفى وانصرف، وجاء عبدك المؤمن فتوضأ وأسبغ الوضوء ثم صلى وحمد ودعا وأثنى، ثم ألقى شبكته فلم يخرج شيئا، ثم أعاد فلم يخرج شيئا، ثم أعاد فأخرج سمكة صغيرة فحمدك وانصرف!؟
فأوحى الله إليه: يا موسى انظر عن يمينك، فنظر موسى فكشف له عما أعده
الله لعبده المؤمن فنظر، ثم قيل له: يا موسى انظر عن يسارك فكشف له عما أعده الله لعبده الكافر فنظر، ثم قال الله تعالى: يا موسى ما نفع هذا ما أعطيته، ولا ضر هذا ما منعته. فقال موسى، يا رب حق لمن عرفك أن يرضى بما صنعت.
إبتلاء العبد بما يسمع ويشاهد
وأيضا يكون الإبتلاء فيما ينزل من تعرفات وتنزلات جلالية بغيره، كالتي يراها أو يسمع عنها تقع لغيره ليكون عبرة وتذكرة للمشاهد والمستمع، كأن يرى شخصا مبتلى بمرض معين، أو حادث سير، أو زلزال، أو ظلم هنا أو هناك يقع في منطقة يسمع عنها أو يراها من خلال المحطات الفضائية. أو كأن يقرأ أو يسمع عن مظلوميات أهل البيت عليهم السلام وحقوقهم وأحقيتهم، فيكون ذلك عبرة لتنبيه العبد وتذكيره بحقيقة نفسه وعبوديته، ومن أجل التمسك بتعاليم دينه أو العودة إليها. فيستفيد من تلك التعرفات التنبيه والتذكير.
فإذا كان المشهد الذي سمعه أو رآه يتعلق بظلم أو إيذاء لمن حرم الله إيذاءهم وظلمهم، فإن الإبتلاء هنا يكون من حيث الرضى أو السخط، ومن حيث الولاء والبراء. لأن من رضي بأفعال الظالمين أو المستكبرين الخاطئين فهو منهم حتى وإن كانت الفترة الزمنية بينه وبين فعل الظالمين المستكبرين طويلة، فمن ابتلي بسماع قصص المستكبرين الظالمين الفاسقين ورضي بها وأقرها فهو منهم بدون أدنى شك. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها – وقال مرة فأنكرها – كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها).
أو ربما يكون العبد في الأصل من أهل الإيمان والإعتبار فيزداد بالتعرف الإلهي والإبتلاء معرفة وخشية من الله تعالى، أو يستفيد معرفة حقيقة كانت غائبة عنه فيتوب ويتطهر.
قال تعالى في سورة طه الآيات ١ – ٤{طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى، تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى}.
لاحظ عند استماع أو قراءة الآيات التالية، كيف يكون التأثير على العبد عند اعتقاد ضرورة معرفة ما جرى في تاريخ الأمم عموما وتأريخ المسلمين خصوصا، لابد وأن يقف على الكثير من المحطات والمواقف التي تدعوا للتفكر والتذكر من خلال العبرة والتبصر.
قال تعالى في سورة الحاقة الآية ١١ – ١٢{إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية، لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية}.
فالأذن الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت، وهي أذن أمير المؤمنين على ابن أبي طالب عليه السلام، ومن له أسوة وقدوة برسول الله وأمير المؤمنين وأهل البيت، فإنه ولاشك ينتفع بما يسمع، لأنه يعلم أن السمع والطاعة لرسول الله وأهل بيته المعصومين من أهم مظاهر العبودية لله تعالى.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والواحدي وابن مردويه وابن عساكر وابن البخاري عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: “إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك، وأن تعي، وحق لك أن تعي” فنزلت هذه الآية{وتعيها أذن واعية}.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قال رسو ل الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يا علي إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعي” فأنزلت هذه الآية{وتعيها أذن واعية}”فأنت أذن واعية لعلمي”.
قال تعالى في سورة المزمل الآية ١٥ – ١٩{إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا، فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا، السماء منفطر به كان وعده مفعولا، إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا}.
قال تعالى في سورة ق الآية ٣٦ – ٣٨{وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
التنبه لابتلاء أهل البيت عليهم السلام
وأهم ما يجب على العبد معرفته مما يسمع ويشاهد، معرفة ابتلاءات النبي وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
لأن في معرفتها والتنبه الدائم والمستمر لها، والاعتبار من تفاصيلها، وتحديد خط السير للعبد المؤمن في الحياة الذي فيه النجاة والتطهير والتزكية، فإن العبد يطهر بولايتهم ونصرتهم واتباعهم كما بينت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عند كل المسلمين، فهم الطاهرون المطهرون، قال تعالى{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}.
ومن اتخذ الطاهرين المطهرين قدوة وأسوة فلاشك أنه يطهر ويتطهر، يطهر بحبهم وولايتهم واتباعهم، ويحقق رضى ربه وسيده ومولاه، فقد كان ميزان الطهارة هذا ظاهر في تصرفات الصحابة المؤمنين منذ العصر الأول للإسلام، فقد ورد عن عدد كبير منهم رضي الله عنهم أنهم قالوا (كنَّا نَبُور أولادنا بَحُبّ علي عليه السلام).
ورد في الزيارة الجامعة (وجعل صلواتنا عليكم، وما خصّنا به من ولايتكم، طيباً لخلقنا، وطهارة لأنفسنا، وتزكية لنا، وكفّارة لذنوبنا، فكنّا عنده مسلمين بفضلكم، ومعروفين بتصديقنا إيّاكم). وورد في زيارة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام (فاشهدي أنّي طاهر بولايتك وولاية آل نبيّك محمد صلى الله عليه وآله).
فإما أن يسير العبد مع الناجين، ويتجنب الآثار السلبية للإبتلاء، ويوالى من أمر الله بولايتهم واتباعهم والإقتداء بهديهم، فيركب سفينة النجاة سفينة أهل البيت عليهم السلام، فتكون ابتلاءاته تطهيرا له وتزكية من الله ورسوله، وفوزا عظيما في الآخرة.
وأما من لا يتنبه إلى أئمته من أهل البيت، فإنه يضيع مع آثار الإبتلاء السلبية، ويبتعد عن ربه ودينه لأنه عليهم السلام الصلة بين العبد وربه. وربما كان موقفه مع الظالمين الذين ظلموا أهل البيت واعتدوا على حقوقهم وأحقيتهم التي فرضها الله تعالى لهم، فيحرم من الورود على الحوض يوم القيامة، مثل الصحابة الذين غيروا وبدلوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتركوا
أوامر الله تعالى في ولاية أهل البيت عليهم السلام، فيجدوا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام بينهم وبين الحوض يحجزهم عنه.
الوفاء بالعهود تمييز للصادق من الكاذب
إن الوفاء بالعهد من أهم ابتلاءات تمييز الصادقين من الكاذبين، والمتمكنين من المدعين، وتمييز الخبيث من الطيب.
قال تعالى في سورة الأحزاب الآية: ٢٣ – ٢٤{من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما}.
قال تعالى في سورة الرعد. الآية: ١٩-٢١{أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب}.
فلطالما قطعت العهود على إتباع وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أمام رسول الله صلى الله عليه وآله، خاصة في يوم الغدير عندما بايعوا عليا عليه السلام بإمرة المؤمنين، وهنأه المسلمون على ذلك، وشهد كل المسلمين بولايته عليه السلام، ولقد ورد حديث الغدير يوم أخذت العهود لولايته عليه السلام في كل كتب المسلمين وهو حديث متواتر مقطوع بتواتره عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأورد للقارئ العزيز رواية مجملة منه.
حج رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة من الهجرة حجة الوداع، وخرج معه خلق كثير من المدينة وممّن توافد على المدينة ليخرجوا مع رسول للحج في تلك السنة. ويتراوح تقدير أصحاب السير لمن خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ للحج بين تسعين ألفا ومئة وأربعة وعشرين ألفا، عدا من حجّ مع رسول اللّه في تلك السنة من مكة المكرمة وممّن التحق برسول اللّه في مكة من اليمن ومن العشائر الذين توافدوا إلى مكة للحج.