فرنسا تشتعل مجدداً. مئات السيارات أُحرقت، عشرات آلاف المحتجين اعتقلوا، والمواجهات بين المحتجين والشرطة الفرنسية تمتدّ إلى مدنٍ فرنسية جديدة، وذلك خلال أيام قليلة. المشهد ليس جديداً في فرنسا، إلا أنه يثير الذعر في الأوساط السياسية، بعدما تحولت البلاد إلى مسرحٍ لأعمال عنفٍ لا تتوقف.
تعيش فرنسا حالاً من الفوضى المستمرة بعد مقتل القاصر الفرنسي من أصل جزائري نائل مرزوقي برصاص شرطي، الثلاثاء الماضي، في ضواحي العاصمة باريس. موجة احتجاجات كبيرة شهدتها البلاد غضباً لمقتل الفتى، أسفرت عن خسائر مادية جسيمة، وحوّلت شوارع المدن الفرنسية إلى مايشبه “ساحة حرب أهلية”.
بعد 5 ليالٍ من الاشتباكات والاحتجاجات، أسئلة كثيرة طفت إلى السطح، حول أسباب بقاء الشارع الفرنسي قابلاً للاشتعال في أي لحظة. الإعلام الغربي وصف الأمر بالقول إنّ “الثورة في هواء فرنسا”، لا سيما وأنّ المشهد هو أبعد من مجرد مقتل فتى على يد الشرطة، بل يمكن اعتبار أنّ هذا الحادث كان بمثابة الفتيل الذي أشعل غضباً هائجاً لفترة طويلة بين الفرنسيين، أسبابه متوفرة وحاضرة دائماً ضمن مسارات اجتماعية واقتصادية وسياسية.
أزمة اجتماعية
لم يكد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يخرج من أزمة تعديل نظام التقاعد الفرنسي حتى وجد نفسه أمام تحدٍّ خطير مفتوح على احتمالات عديدة، مع اشتعال أحياء الضواحي نتيجة مقتل الفتى نائل.
خلال الشهور الماضية، تابع العالم بأسره مشاهد التظاهرات والإضرابات العمالية التي شلّت البلاد، وشاهد مقاطع الشغب والتخريب في المدن الفرنسية، ناهيك عن صور جبال النفايات المتعفنة، التي تكدست لأيام في شوارع العاصمة باريس.
هذا الغضب الشعبي لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة توقيع ماكرون على قانون تعديل نظام التقاعد الفرنسي، يُرفع بموجبه سن التقاعد الوطني من 62 إلى 64.
وأدّى التعديل الذي لا يحظى بشعبيةٍ كبيرة في فرنسا إلى احتجاجاتٍ غير مسبوقةٍ في البلاد، بشكلٍ شبه أسبوعي، بلغت ذروتها في 7 آذار/مارس الماضي، مع أكثر من 1.3 مليون متظاهر، وشهدت توتراً واحتقاناً كبيراً بين المشاركين وقوات الشرطة والأمن الفرنسية.
كما شكّل التحدي الأضخم من نوعه الذي يعيشه ماكرون بعد احتجاجات “السترات الصفراء” عام 2019. في حينها، واجهت فرنسا أزمة أشدّ قسوة وأكثر عنفاً، عرفت وقتئذٍ باسم أزمة “السترات الصفراء” حين قرّرت الدولة رفع أسعار الوقود فأضرب السائقون، وباشروا احتجاجاتٍ بدأت سلمية، وتحولت إلى العنف، مع سلبية في التعاطي الرسمي معها.
ويرى محللون أنّ الخلاف تجاوز الجدل حول ما إذا كان ينبغي على الفرنسيين التقاعد في سن 62 أو 64، خاصة وأنّ ماكرون كان قد أوضح مطولاً خلال فترة ولايته الأولى أنه لن يتخذ مثل هذا الإجراء، لأنه كان “غير عادل”. وكانت الحكومة الفرنسية قد أجرت تعديلات لنظام التقاعد مراراً في أعوام 1993، 2003، وفي 2010، وفي كل مرة كانت الحكومة تعِد بأنّ هذا هو التعديل الأخير، وأنّ النظام سيكون آمناً لعقود. وفي كل مرة كان السيناريو نفسه يتكرر بعد بضع سنوات “لتقوية النظام” مرة أخرى.
منذ عام 2017، فكّك الرئيس الفرنسي قانون العمل وأضعف النقابات، وخفّض إعانات الإسكان للطبقة الفقيرة، كما حدّ من حقوق العاطلين عن العمل، ليأتي مشروع تعديل نظام التقاعد ويكون درّة تاج سياساته غير الشعبوية. في الوقت نفسه، قام ماكرون بتخفيض ضرائب الأغنياء ومضاعفة التخفيضات في ضرائب الشركات ومساهمات الضمان الاجتماعي. “إنها وصفة للثّورات”، بحسب تعبير منصة “social europe”.
بسياساته هذه، تسبّب ماكرون بتفاقم التوتر في البلاد وتأجيج الخلافات في المجتمع الفرنسي. من المرجح أنّ المضي بتعديل نظام التقاعد سيتواصل، لكنه سيوسع الفجوة بين المواطنين والنخب الفرنسية، وسيزيد من نسبة الاستياء الشعبي ضد حكومة البلاد، لتتعمّق الأزمة الاجتماعية التي تغرق فيها البلاد، وتصبح قابلة للاشتعال مع أي حدث.
أزمة اقتصادية
هذه المطالب الاجتماعية التي حملها الغضب الشعبي ضمّت في طياتها خلفيات اقتصادية، بسبب الأزمة المالية التي يمرّ بها ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا. فخلال الشهور الماضية، تظاهر عشرات الآلاف من الفرنسيين احتجاجاً على عدم رفع الأجور، وارتفاع الأسعار، وتفاقم أزمة الطاقة.
وشهدت فرنسا في عهد ماكرون الكثير من المطبّات والأزمات الاقتصادية، إذ عانت من ارتفاعٍ قياسي لمستويات التضخم، الذي مسّ أسعار المواد الغذائية، هذا إلى جانب الركود الذي يهدد اقتصاد البلاد.
وأدّت السياسة الخارجية والداخلية لماكرون دوراً كبيراً في تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، فموقفه من حرب أوكرانيا المعادي لروسيا، واستبدال مصادر الطاقة الروسية الرخيصة بأخرى مرتفعة، أثّرت جميعها سلباً على الاقتصاد الفرنسي.
إلى جانب ذلك، تعرَّض اقتصاد فرنسا لضربة أخرى جاءت على أيدي وكالات التصنيف الكبرى، إذ خفّضت وكالة “فيتش” في أبريل/نيسان التصنيف الائتماني لفرنسا إلى (AA-). ولم تكتفِ الوكالة بذلك، بل أشارت إلى أنها لا ترى حلاً قريباً لأزمة ارتفاع الدين العام في البلاد، لأنّ صناع القرار السياسي عاجزون عن كبح جماح الإنفاق.
هذه الأزمة الاقتصادية تسببت في اتساع الفجوة في المداخيل في فرنسا، بين الأثرياء والفقراء، حيث يملك 1% من الأثرياء حصة 20% من ثروة فرنسا، ما زاد من حدة الصراع الطبقي في البلاد.
وفي هذا الشأن، ذكر موقع “UNHERD” البريطاني، أنّ ماكرون، ليس وحده من يعاني من الغضب الشعبي، إذ إنّ أصحاب المليارات في فرنسا تعرضوا أيضاً لهتافات بذيئة موجهة إليهم خلال الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها البلاد أخيراً، باعتبارهم داعمين لسياسات ماكرون.
وبحسب الموقع، فإنّ الصناعيين وماكرون يمّثلون سبباً مقنعاً بشكل متزايد لانضمام العديد من الفرنسيين إلى الاحتجاجات، مشيراً إلى أنّ الكثيرين يعتقدون أيضاً أنّ الشركات الكبرى هي عدو للنظام الاجتماعي الفرنسي بأكمله في فترة ما بعد الحرب.
وأورد الموقع أنّه يُطلق على ماكرون لقب “رئيس الأثرياء”، ومثله مثل العديد من أسلافه، يُنظر إليه على أنه يعطي الأولوية لتربّح المقربين على حساب المواطنين ذوي الأجور المنخفضة، موضحاً أنّه “يُنظر إلى أصحاب المليارات على أنّهم شركاء في مؤسسة سياسية تخدم مصالحها الذاتية”.
لذلك، فإنّ كره هذه “الأقلية المدللة” من قبل باقي فئات الشعب، والتهديد الذي تشكله على أنماط الحياة الفرنسية التقليدية، يعدّان دافعاً قوياً للانتفاضة على مستوى البلاد، وفق الموقع.
أزمة حُكم
يرى مراقبون أنّ الغضب الفرنسي يتجاوز تعديل النظام التقاعدي و”تعالي” ماكرون، وما تشهده المدن الفرنسية حالياً من احتجاجات، حيث يوجد غضب عام طويل الأمد ضد الدولة الفرنسية وتجسيدها بشخصية الرئيس.
ولم يسبق لرئيس فرنسي في تاريخ الجمهورية الخامسة، أن حاز إجماعاً على عدم شعبيته من اليسار واليمين والوسط، كما هو عليه إيمانويل ماكرون. وتبدو الفوضى التي ضربت فرنسا، بمثابة استعراض لمشكلات أعمق يعانيها “النموذج” الفرنسي.
وحول ذلك، لفتت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، إلى أنه مع انتشار الغضب في فرنسا، قد يكون الوقت قد حان لإعادة التفكير في نظام البلاد الرئاسي. وبعد 20 عاماً من العيش في فرنسا، فإنّ الافتراض الفرنسي يقول إنه بغض النظر من يُنتخب كرئيس فهو شرير، والدولة بدلاً من أن تكون منقذتهم، تقمعهم، وفقاً للصحيفة.
وأوضحت الصحيفة أنّ ما فعله ماكرون زاد خطر من أن تصبح فرنسا مثل بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا، أن تنتخب من هو شعبوي، وبالتالي تصبح ماري لوبان رئيسة للبلاد في العام 2027. وأكدت أنه لا يجب أن تستمر فرنسا على هذا النحو، مشددةً على ضرورة “إنهاء الجمهورية الخامسة، والنظام الرئاسي”.
وعلى الرغم من أنّ ماكرون انتُخب مرتين، إلا أنّ الكثير من الفرنسيين لم يتقبلوه أساساً. وجرى انتخابه لأنّ البديل كانت زعيمة اليمين مارين لوبان، وهو أمر غير مقبول بالنسبة لمعظم الفرنسيين. وبإقصائه للمعارضة المعتدلة، جعل ماكرون كل المعارضة متطرفة.
في الانتخابات البرلمانية التي جرت العام الماضي، فشل تيار ماكرون في الحصول على أغلبية، وهو ما استدعاه لاستخدام القوة القاهرة الدستورية المعروفة في فرنسا باسم المادة 49.3 لدفع قانون تعديل النظام التقاعدي. ولكن يبدو أنه لم يأخذ في الاعتبار العواقب المترتّبة على ذلك، والتي تشير أدلة كثيرة إلى أنها لن تتأخّر، ومنها ما يبديه الفرنسيون من احتجاجاتٍ ذات طابع عنيف ضد القانون.
يبدو أنّ جذوة الغضب المشتعلة في الشارع الفرنسي لن تنطفىء في الوقت القريب، مع تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والطبقية التي تشهدها البلاد. وكانت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، قد أشارت إلى الاحتجاجات الماضية في فرنسا، مؤكدةً أنّ الغرب يمر بعصر شعبوي شبيه بالعصر الديمقراطي الاجتماعي الذي حدّد القرن العشرين.
وأشارت الصحيفة إلى أنّ النخب الغربية افترضت أنها “يمكنها تجاوز هذه العاصفة الشعبوية”، إلا أنّ الوضع الراهن “سيتطلب التكيف أكثر بكثير من الصبر، سيتطلب تغييراً حقيقياً وجوهرياً”.
هذه السياقات على اختلاف أسبابها، تعبّر عن أزمة عميقة تعيشها فرنسا. وعلى الرغم من أنّ الاحتجاجات الشعبية والاضطرابات، وإن كانت ترتبط بأسباب مباشرة، مثل مقتل الفتى نائل مرزوقي، إلا أنها تزداد عنفاً عند كل محطة.
ولعلّ ما قاله المرشح للرئاسة الفرنسية السابق، إريك زيمور، بأنّ “الاضطرابات في فرنسا يمكن اعتبارها بداية حرب أهلية وعرقية”، يعطي تصوراً عما يمكن أن تصل إليه البلاد في ظل تناقضاتها الاجتماعية والاقتصادية، وخيارات حكومتها السياسية داخلياً وخارجياً.