39) الأمثال العربية – محمد رضا المظفة
وهنا وجه آخر ذكره المجلسي ره قال:ويحتمل ايضا ان يكون المراد تشبيه ما تلبس على الناس من الشبهات بنسج العنكبوت لضعفها ، و ظهور بطلانها فاذا وقع فيها ضعفاء العقول لا يقدرون على التخلص منها لجهلهم و ضعف نفوسهم .
« لا يدري اصاب أم أخطأ ، فان اصاب خاف ان يكون قد اخطأ ، و ان اخطأ رجا ان يكون قد أصاب » هذا شأن من جهل حكما و افتى به مع جهله ، فهو و ان اصاب الحقيقة كان على شك من ذلك لعدم الدراية وان أفتى بخلاف ما انزل الله كان يرجو انه اصاب الواقع ، و هذا وصف كل حاكم جاهل شاك.
و في نسخة الارشاد هكذا . فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري اصاب الواقع ام اخطأ ، و لا يرى ان من وراء ما بلغ مذهبا ، ان قاس شيئا بشي ء لم يكذب رأيه ، و ان اظلم عليه امر اكتتم به لما يعلم من نفسه من الجهل و النقص و الضرورة ، كي لا يقال : انه لا يعلم ثم اقدم بغير علم فهو خائض عشوات ، ركاب شبهات ، خباط جهالات .
ومن جهة أخرى فقد وضع عليه السلام نظاما يجب أن يتبع في تأليف هذه الفئة، يضمن أن تكون على مستوى عال من الكفاءة للمهمات المناطة بها.
تؤتى السلطة القضائية من ناحيتين. الاولى: ناحية القاضي نفسه فإذا كان غير كفء لمنصبه أسف بهذا المنصب، ولم يؤد حقه المفروض.
الثانية: ناحية المنصب نفسه، فما لم يكن القاضي مستقلا في حكمه لا يخضع لتأثير هذا وإرادة ذلك، لم تكن هناك سلطة قضائية بالمعنى الصحيح، وانما تكون السلطة القضائية حينئذ أداة لا لباس رأي فلان ثوب الحق وإسباغ مسحة الباطل على دعوى فلان. ولا تؤتى السلطة القضائية من غير هاتين الناحيتين. وقد رسم الامام في عهده إلى الاشتر ثلاثة أمور ينبغي أن تتبع في انتقاء أفراد هذه الطبقة ومعاملتهم، واتباع هذه الامور يكفل لهم أن يمارسوا مهمتهم بحرية، وأن يؤدوا هذه المهمة باخلاص.
هل يكفي في صلاحية الرحل للقضاء أن يكون على معرفة بمواد القانون الذي يقضي به دون اعتبار لتوفر ميزات أخرى فيه ؟ إن الجواب السديد على هذا السؤال هو النفي، فلا يكفي في القاضي ان يكون على علم بمواد القانون فحسب، لانه إذا لم تتوفر فيه غير هذه الصفة يكون عالما بالقانون، ولا يصلح أن يكون قاضيا، لان منصب القضاء يتطلب من شاغله إلى جانب علمه بالشريعة، صفات أخرى فصلها الامام في عهده، وأناط اختيار طبقة القضاة بتوفرها، وهذا يعني ان فاقدها ليس جديرا بهذا المنصب الخطير. يجب أن يكون القاضي واسع الصدر كريم الخلق، وذلك لان منصبه يقتضيه أن يخالط صنوفا من الناس، والوانا من الخلق، ولا يستقيم له أن يؤدي مهمته على وجهها إلا إذا كان على مستوى أخلاقي عال يمسكه عن التورط فيما لا تحمد عقباه. ويجب أن يكون من الورع، وثبات الدين، وتأصل العقيدة، والوعي لخطورة مهمته وقيمة كلمته، بحيث يرجع عن الباطل إذا تبين له انه حاد عن شريعة العدل في حكمه، ولم يصبها اجتهاده ولم يؤده إليها نظره، فلا يمضي حكما تبين له خطأه خشية قالة الناس. ويجب أن يكون من شرف النفس، ونقاء الجيب، وطهر الضمير، بحيث (لا تشرف نفسه على طمع) في حظوة أو كرامة أو مال وفضلا عن أن يتأصل فيه الطمع ويدفعه إلى تحقيق موضوعه، وذلك لان القاضي يجب أن يجلس للحكم ضميرا نقيا، وروحا طاهرا، وعقلا صافيا، ونفسا متعالية عن مساف الاغراض، وألا يشغل نفسه بعرض من أعراض الدنيا، لان ذلك ربما انحرف به من حيث لا يدري فأدان من له الحق، وبرأ من عليه الحق. لتأثره بهاجس نفسه، وهاتف قلبه، ومطمح هواه. ويجب أن يكون من الوعي لمهمته بحيث لا يعجل في الحكم، ولا يسرع في إبرامه، وإنما عليه أن يمضي في دراسة القضية ويقتلها بحثا ويستعرض وجوهها المختلفة، فإن ذلك أحرى أن يهديه إلى وجهة الحق وسنة الصواب، فإذا ما استغلق الامر واشتبه عليه فلا يجوز له أن يلفق للقضية حكما من عند نفسه، وإنما عليه أن يقف حتى ينكشف له ما غمض عنه، وينجلي له ما اشتبه عليه. هذه الصفات يجب أن تتوفر في القاضي، ويجب أن يناط اختيار الرجل لمنصب القضاء بما إذا توفرت فيه، وبذلك يضمن الحاكم ألا يشغل منصب القضاء إلا الاكفاء في عملهم، ودينهم، وبصرهم بالامور. قال عليه السلام: (ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك: ممن لا تضيق به الامور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزله، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على تكشف الامور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء) . وهنا، كما في كل موطن، يضع الامام بين عينيه التأمين الاقتصادي ليضمن الاستقامة والعدل وحسن السيرة. فالقاضي مهما كان من سمو الخلق، وعلو النفس، وطهارة الضمير، إنسان من الناس يجوز عليه أن يطمع في المزيد من المال، والمزيد من الرفاهية، وإذا جاز عليه هذا جاز عليه أن ينحرف في ساعة من ساعات الضعف الانساني، فتدفعه الحاجة إلى قبول الرشوة، ويدفعه العدم إلى الضعف أمام الاغراء، وإذا جاز عليه ذلك أصبحت حقوق الناس في خطر، فلا سبيل للمظلوم إلى لانتصاف من الظالم وتغدو الحكومة حكومة الاقوياء والاغنياء. هذه امور قدرها الامام حق قدرها، وأدرك مدى خطرها، فوضع الضمانات لتلافيها. وذلك يكون: أولا: بأن يتعاهد الحاكم قضاء قاضيه، وينظر فيما أصدره من الاحكام، فان ذلك كفيل بأن يمسك القاضي عن الانحراف، ويستقيم به على السنن الواضح لانه حينئذ يعلم ان المراقبة ستكشف أمر الحكم الجائر، ووراء ذلك ما وراءه من عار الدنيا وعذاب الآخره. وثانيا: بأن يعطى المزيد من المال لينقطع داعي الطمع من نفسه، فيجلس للقضاء وليس في ذهنه شئ من أحلام الثروة والمال. قال عليه السلام: (.. ثم أكثر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس). عهد الاشتر * * * والقاضي، بعد، إنسان يخاف: يخاف على ماله أن ينهب، ويخاف على مكانته أن تذهب، ويخاف على كرامته أن تنال، ويخاف على حياته أن يعتدي عليها بعض من حكم عليهم من الاقوياء، فإذا لم تكن لديه ضمانات تؤمنه من كل ذلك اضطره الخوف إلى أن يصانع القوي لقوته، والشرير لشره، وحينئذ يطبق القانون من جهة واحدة. يطبق على الفقراء والضعفاء الذين يؤمن جانبهم. هذا الخوف ينشأ من عدم تأمين مركز القضاء وصيانته ضد الشفاعات، وينشأ من زجه في المساومات السياسية وغيرها، وحينئذ تكفي كلمة من قوي أو غني ليسلب القاضي مركزه ومكانته. هذه الناحية وعاها الامام عليه السلام وأعد لها علاجها، فيجب أن يكون القاضي، لكي يأمن ذلك كله، من الحاكم بمكانة لا يطمع فيها أحد غيره، ولا تتاح لاحد سواه، وبذلك يأمن دس الرجال له عند الحاكم، ويثق بمركزه وبنفسه، وتكسبه منزلته هذه رهبة في قلوب الاشرار يقوى بها على حملهم على الحق، وردهم إليه حين ينحرفون عنه ويتمردون عليه. قال عليه السلام: (.. وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك. فانظر في ذلك نظرا بليغا، فان هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الاشرار، يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا). عهد الاشتر هذه هي الضمانات الثلاث التي وضعها الامام عليه السلام، مبينا فيها النهج الذي يحسن أن يتبع في انتخاب أفراد هذه الطبقة، وشارحا كيفية معاملتهم ليؤدوا مهمتهم على نحو نموذجي. * * * وقد سجل الامام بما شرعه هنا سبقا عظيما على إنسان اليوم، وذلك لان استقلال مركز القضاء وعدم تأثره باي سلطة أخرى، وتأمين الناحية الاقتصادية للقاضي، ونظام التفتيش القضائي، جهات تنبه لها الامام وجعلها واقعا يخلف في حياة المجتمع آثاره الخيرة، في عصر كانت سلطة القضاء أداة يديرها الحاكمون والمتسلطون كما يحبون. * * * ولا شئ ادعى إلى ثقة الناس بالقضاء من نفوذ حكم القاضي على جميع الناس، حتى على من تربطهم بالحاكم الاعلى قرابة قريبة أو صداقة حميمة، فان ذلك خليق بأن يطمئن الرجل العادي، ويدخل في روعه انه حينما يدخل مجلس القضاء لا يواجه بنظرة احتقار. وان الحاكم الاعلى لاحرى الناس بالمحافظة على ذلك والحرص عليه، فإذا ما اعتدى بعض خاصته على بعض الناس وجب عليه أن يرده إلى الحق حين يروغ عنه، ويرده إلى الجادة حين يؤثر العصيان.