المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد:
جاءت الرسالة الاسلامية الخاتمة لهداية الانسان، وتحريره من جميع ألوان الانحراف في فكره وسلوكه وتحريره من ضلال الأوهام وظلمة الخرافات، وتحريره من عبادة الالهة المصطنعة، وتحريره من الانسياق وراء الشهوات والمطامع، وتهذيب نفسه من بواعث الأنانية والحقد والعدوان، وتحرير سلوكه من الرذيلة والانحطاط، بتهيئة العقول والقلوب للتلقي والاستجابة للمنهج الإلهي المرسوم، واستتباعها بالعمل الايجابي – وفق المفاهيم والقيم الإلهية الثابتة – الذي يترجم الآراء والنصوص إلى مشاعر وعواطف وأعمال وممارسات وعلاقات متجسدة في الواقع، لكي يكون الانسان والمجتمع بمستوى المسؤولية المناطة به في الحياة، والمتمثلة بحمل الأمانة وخلافة الله تعالى في الأرض، والترقي في سلم الكمال والسمو الروحي والسلوكي.
وهداية الانسان تعني تغيير محتواه الداخلي في عقله وقلبه وارادته لينسجم مع المنهج الإلهي في الحياة، ويكون فكره وعاطفته وسلوكه وحدة واحدة لا ازدواجية فيها ولا تناقض.
والتغيير ليس أمرا هينا إذا نظرنا إلى طبيعته، وطبيعة الميدان الذي يحل فيه وهو ميدان النفس البشرية، فهو يواجه محدودية الانسان
(٧)
وضعفه وعجلته، ويواجه شهوات النفس ونزواتها المتجذرة والطارئة والمتقلبة، ويواجه كبرياء النفس وغرورها، ويواجه اعتزاز الناس بمفاهيمهم وقيمهم التي أنسوا بها، وأصبحت جزءا من كيانهم الموروث والمكتسب، ويواجه ما يتلبس بتلك المفاهيم والقيم من مصالح ذاتية ومطامع شخصية، ويواجه المغريات الخارجية التي تناغي الرغبات والشهوات وتهتف بالانسان لاشباعها، ويواجه أصنافا من الناس تختلف بعدا أو قربا من الدين والتدين، وتختلف مواقفها من حملة التغيير اندفاعا وانكماشا.
وتتجسد عملية التغيير بأداء مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أداء ينسجم مع ضخامة الواقع البشري، وضخامة الأهداف المراد – من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر – تحقيقها في الواقع.
فلا بد من عمل دؤوب وحركة متواصلة تبدأ بتغيير النفس أولا ثم المجتمع ثانيا، ولا بد من اطلاع دقيق وتشخيص واع لمستويات الناس الفكرية والعاطفية والسلوكية، والمعرفة الواعية للظروف والعوامل المتحكمة في المجتمع، والقوى المؤثرة فيه، ليضع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لكل مستوى ولكل ظرف خطة، يصلون بها إلى تحقيق الأهداف، وأسلوبا ينفذون من خلاله إلى خلجات القلوب ويجعلونها تتهيأ للتلقي والاستجابة، ثم الانتقال إلى مرحلة العمل الايجابي بعد مرحلة التأثر الوجداني.
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم التكاليف التي ينبغي القيام بها، فيه تقام الفرائض ويتوجه الانسان إلى الله تعالى بكل كيانه ومقومات شخصيته، وبه تتحقق الاستقامة في الفكر والعاطفة والسلوك
(٨)
ويكون المنهج الإلهي هو الحاكم على العقول والقلوب والإرادة الانسانية.
وفي هذا البحث – ومن خلال استقراء آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وسيرة المعصومين عليهم السلام ومن خلال التجربة العملية – نتطرق إلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في أربعة فصول: نتناول في الفصل الأول: حكم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميتهما، ثم نستعرض في الفصل الثاني: وسائل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراحلهما، ونتناول في الفصل الثالث: خصائص وصفات الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر – الذاتية والعملية – ونتناول في الفصل الرابع: آثار ونتائج الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث الأداء وعدمه.
وحاولنا جهد الامكان استخدام العبارات والمصطلحات الواضحة الميسر فهمها من قبل جميع المستويات، لتعم الفائدة المتوخاة من متابعة فصوله والامعان في مباحثه.
والله ولي التوفيق
(٩)
الفصل الأول حكم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميتهما تمهيد في معناهما:
جاء في كتب اللغة أن المعروف: ما يستحسن من الافعال، وكل ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه (1).
والمنكر: كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه (2).
وقيل عن المعروف: هو اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه. والمنكر: ما ينكر بهما (3)، أي كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف في استقباحه واستحسانه، فتحكم بقبحه الشريعة (4).
وجاء في مجمع البيان أن المعروف: الطاعة، والمنكر: المعصية.
١) لسان العرب / ابن منظور ٩: ٢٣٩.
٢) لسان العرب ٥: ٢٣٣ ٣) مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني: ٣٣١ ٤) مفردات ألفاظ القرآن: ٥٠٥.
(١١)
وكل ما أمر الله ورسوله به فهو معروف، وما نهى الله ورسوله عنه فهو منكر (1).
موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لا يختص الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمورد من الموارد، ولا مجال من المجالات، بل هو شامل لجميع ما جاء به الاسلام من مفاهيم وقيم، فهو شامل للتصورات والمبادئ التي تقوم على أساسها العقيدة الاسلامية، وشامل للموازين والقيم الاسلامية التي تحكم العلاقات الانسانية، وشامل للشرائع والقوانين، وللأوضاع والتقاليد، وبعبارة أخرى هو دعوة إلى الاسلام عقيدة ومنهجا وسلوكا، بتحويل الشعور الباطني بالعقيدة إلى حركة سلوكية واقعية، وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة ومتصلة مع الأوامر والارشادات الاسلامية، ومنكمشة ومنفصلة عن مقتضيات النواهي الاسلامية.
وقد بين الإمام الحسين عليه السلام موارد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قائلا:… بدأ الله بالامر بالمعروف، والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها، وذلك أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام، مع رد المظالم ومخالفة الظالم، وقسمة الفئ والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها، ووضعها في حقها… (2).
وقد تجلت هذه الشمولية بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل حينما
١) مجمع البيان في تفسير القرآن \ الطبرسي ١: ٤٨٣.
٢) تحف العقول \ ابن شعبة الحراني: 168.
(١٢)
ولاه على أحد البلدان: يا معاذ علمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة، وانزل الناس منازلهم – خيرهم وشرهم – وانفذ فيهم أمر الله… وأمت أمر الجاهلية إلا ما سنه الاسلام، وأظهر أمر الاسلام كله، صغيره وكبيره، وليكن أكثر همك الصلاة فإنها رأس الاسلام بعد الاقرار بالدين، وذكر الناس بالله واليوم الآخر واتبع الموعظة (1).
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يستتبع جميع مقومات الشخصية الانسانية في الفكر والعاطفة والسلوك، لتكون منسجمة مع المنهج الإلهي في الحياة، وتكون هذه المقومات متطابقة مع بعضها، فلا ازدواجية بين الفكر والعاطفة ولا بينهما وبين السلوك، وهي وحدة واحدة يكون فيها الولاء والممارسة العملية لله وحده ولمنهج التوحيد الذي دعا إليه في جميع مفاهيمه وقيمه.
المبحث الأول حكم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر إن الاسلام ليس مجرد تفكير وتدبر وخشوع يتحرك في داخل العقول والقلوب، وإنما هو منهج حياة واقعي، يدعو إلى استنهاض الهمم والعزائم وتقوية الإرادة، لتنطلق في الواقع مجسدة للمفاهيم والقيم الإلهية بصورة عملية، وهو يدعو إلى النهوض بالتكاليف الإلهية في عالم الضمير وعالم الواقع على حد سواء، والاستقامة على ضوئها.
١) تحف العقول: ١٩.
(١٣)