تفسير الميزان : السيد الطباطبائي
16 ساعة مضت
القرآن الكريم
14 زيارة
الميزان في تفسير القرآن 1
(١)
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، والصلاة على من جعله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهرهم تطهيرا.
مقدمه: نعرف فيها مسلك البحث عن معاني آيات القرآن الكريم في هذا الكتاب بطريق الاختصار التفسير (وهو بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها) من أقدم الاشتغالات العلمية التي تعهد من المسلمين، فقد شرع تاريخ هذا النوع من البحث والتنقير المسمى بالتفسير من عصر نزول القرآن كما يظهر من قوله تعالى وتقدس (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة الآية) البقرة – 151.
وقد كانت الطبقة الأولى من مفسري المسلمين جماعة من الصحابة (والمراد بهم غير علي عليه السلام، فان له وللأئمة من ولده نبأ آخر سنتعرض له) كابن عباس وعبد الله بن عمر وأبي وغيرهم اعتنوا بهذا الشأن، وكان البحث يومئذ لا يتجاوز عن بيان ما يرتبط، من الآيات بجهاتها الأدبية وشأن النزول وقليل من الاستدلال بآية على آية وكذلك قليل من التفسير بالروايات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القصص ومعارف المبدء والمعاد وغيرها.
وعلى هذا الوصف جرى الحال بين المفسرين من التابعين كمجاهد وقتادة وابن أبي ليلى والشعبي والسدي وغيرهم في القرنين الأولين من الهجرة، فإنهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسري الصحابة شيئا غير أنهم زادوا من التفسير بالروايات، (وبينها روايات دسها اليهود أو غيرهم)، فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى
(٤)
الخلقة كابتداء السماوات وتكوين الأرض والبحار وإرم شداد وعثرات الأنبياء تحريف الكتاب وأشياء أخر من هذا النوع، وقد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة من التفسير والبحث ثم استوجب شيوع البحث الكلامي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمن الخلفاء باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة من أمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين وعلماء الأديان والمذاهب المتفرقة من جهة.
ونقل فلسفة يونان إلى العربية في السلطنة الأموية أواخر القرن الأول من الهجرة، ثم في عهد العباسيين، وانتشار البحث العقلي الفلسفي بين الباحثين من المسلمين من جهة أخرى ثانية.
وظهور التصوف مقارنا لانتشار البحث الفلسفي وتمايل الناس إلى نيل المعارف الدينية من طريق المجاهدة والرياضة النفسانية دون البحث اللفظي والعقلي من جهة أخرى ثالثة بقاء جمع من الناس وهم أهل الحديث على التعبد المحض بالظواهر الدينية من غير بحث إلا عن اللفظ بجهاتها الأدبية من جهة أخرى رابعة.
ان اختلف الباحثون في التفسير في مسالكهم بعد ما عمل فيهم الانشعاب في لمذاهب ما عمل، ولم يبقى بينهم جامع في الرأي والنظر إلا لفظ لا إله إلا الله ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واختلفوا في معنى الأسماء والصفات والافعال والسماوات وما فيها الأرض وما عليها والقضاء والقدر والجبر والتفويض والثواب والعقاب وفي الموت وفي البرزخ والبعث والجنة والنار، وبالجملة في جميع ما تمسه الحقائق والمعارف الدينية ولو بعض المس، فتفرقوا في طريق البحث عن معاني الآيات، وكل يتحفظ على متن ما اتخذه من المذهب والطريقة.
فأما المحدثون، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابة والتابعين فساروا وجدوا في لسير حيث ما يسير بهم المأثور ووقفوا فيا لم يؤثر فيه شئ ولم يظهر المعنى ظهورا لا يحتاج إلى البحث أخذا بقوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية) آل عمران – 7. وقد أخطأوا في ذلك فان الله سبحانه
(٥)
لم يبطل حجة العقل في كتابه، وكيف يعقل ذلك وحجيته انما تثبت به! ولم يجعل حجية في أقوال الصحابة والتابعين وانظارهم على اختلافها الفاحش، ولم يدع إلى السفسطة بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الأقوال، ولم يندب الا إلى التدبر في آياته، فرفع به أي اختلاف يترائى منها، وجعله هدى ونورا وتبيانا لكل شئ، فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه! وكيف يتبين ما هو تبيان كل شئ بشئ دون نفسه!.
واما المتكلمون فقد دعاهم الأقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق وتأويل ما خالف، على حسب ما يجوزه قول المذهب.
واختيار المذاهب الخاصة واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة وان كان معلولا لاختلاف الانظار العلمية أو لشئ آخر كالتقاليد والعصبيات القومية، وليس هيهنا محل الاشتغال بذلك، الا ان هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمى تطبيقا لا تفسيرا ففرق بين ان يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ما ذا يقول القرآن؟ أو يقول:
ما ذا يجب ان نحمل عليه الآية؟ فان القول الأول يوجب ان ينسى كل أمر نظري عند البحث، وان يتكى على ما ليس بنظري، والثاني يوجب وضع النظريات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها، ومن المعلوم ان هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثا عن معناه في نفسه.
وأما الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم أعني:
الرياضيات والطبيعيات والإلهيات والحكمة العملية، وخاصة المشائين، وقد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السماوات والأرض وآيات البرزخ وآيات المعاد، حتى أنهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات والأصول الموضوعة التي نجدها في العلم الطبيعي: من نظام الأفلاك الكلية والجزئية وترتيب العناصر والاحكام الفلكية والعنصرية إلى غير ذلك، مع أنهم نصوا
(٦)
على أن هذه الانظار مبتنية على أصول موضوعة لا بينة ولا مبينة.
وأما المتصوفة، فإنهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآيات الانفسية دون عالم الظاهر وآياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل، ورفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، وتلفيق جمل شعرية والاستدلال من كل شئ على كل شئ، حتى آل الامر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل ورد الكلمات إلى الزبر والبينات والحروف النورانية والظلمانية إلى غير ذلك.
ومن الواضح أن القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة، ولا أن المخاطبين به هم أصحاب علم الاعداد والأوفاق والحروف، ولا أن معارفه مبنية على أساس حساب الجمل الذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل النجوم من اليونانية وغيرها إلى العربية.
نعم قد وردت روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام كقولهم:
ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة ابطن أو إلى سبعين بطنا الحديث.
لكنهم (عليهم السلام) إعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن، واعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل، وسنبين في أوائل سورة آل عمران إن شاء الله: أن التأويل الذي يراد به المعنى المقصود الذي يخالف ظاهر الكلام من اللغات المستحدثة في لسان المسلمين بعد نزول القرآن وانتشار الاسلام، وان الذي يريده القرآن من لفظ التأويل فيما ورد فيه من الآيات ليس من قبيل المعنى والمفهوم.
وقد نشأ في هذه الاعصار مسلك جديد في التفسير وذلك أن قوما من منتحلي الاسلام في أثر توغلهم في العلوم الطبيعية وما يشابهها المبتنية على الحس والتجربة، والاجتماعية المبتنية على تجربة الاحصاء، مالوا إلى مذهب الحسيين من فلاسفة الأروبة سابقا، أو إلى مذهب أصالة العمل (لا قيمة للادراكات الا ترتب العمل عليها بمقدار يعينه الحاجة الحيوية بحكم الجبر).
فذكروا: ان المعارف الدينية لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم وهو أن: (لا أصالة في الوجود إلا للمادة وخواصها المحسوسة) فما كان الدين يخبر عن وجوده مما يكذب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤل تأويلا.
(٧)
وما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجه بالقوانين المادية.
وما يتكي عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوة والرسالة والإمامة وغير ذلك، إنما هي أمور روحية، والروح مادية ونوع من الخواص المادية، والتشريع نبوغ خاص اجتماعي يبني قوانينه على الأفكار الصالحة، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.
ذكروا: أن الروايات، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها، إلا ما وافق الكتاب، وأما الكتاب فلا يجوز أن يبنى في تفسيره على الآراء والمذاهب السابقة المبتنية على الاستدلال من طريق العقل الذي أبطله العلم بالبناء على الحس والتجربة، بل الواجب أن يستقل بما يعطيه القرآن من التفسير إلا ما بينه العلم.
هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه، من اتباع طريق الحس والتجربة، فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير، ولا كلام لنا هيهنا في أصولهم العلمية والفلسفية التي اتخذوها أصولا وبنوا عليها ما بنوا.
وإنما الكلام في أن ما اوردوه على مسالك السلف من المفسرين (أن ذلك تطبيق وليس بتفسير) وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، وإن صرحوا أنه حق التفسير الذي يفسر به القرآن بالقرآن.
ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئا، فما بالهم يأخذون الانظار العلمية مسلمة لا يجوز التعدي عنها؟ فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف اصلاحا.
وأنت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد: ان الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، وهو تحميل ما انتجه الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات، فتبدل به التفسير تطبيقا وسمي به التطبيق تفسيرا، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات، وتنزيل عدة من الآيات تأويلات.
ولازم ذلك (كما أومأنا إليه في أوائل الكلام) أن يكون القرآن الذي يعرف
(٨)
2024-12-04