الرئيسية / القرآن الكريم / تفسير الميزان : السيد الطباطبائي

تفسير الميزان : السيد الطباطبائي

حياة المعرفة في روحه ولم يتمكن نور الهداية الإلهية من قلبه، وإن كان عاملا بالشريعة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم التي هي أكمل الشرائع وأوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها.
ومن أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحققين من أهل التفسير جوابا عن هذه الشبهة: ان دين الله واحد وهو الاسلام، والمعارف الأصلية وهو التوحيد والنبوة والمعاد وما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، وانما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي ان الاحكام الفرعية فيها أوسع واشمل لجميع شؤون الحياة، فهي أكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الأحسن، ثم إن الدين وان كان دينا واحدا والمعارف الكلية في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا وتقدموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه هذا.
أقول: وهذا الكلام مبنى على أصول في مسلك التفسير مخالفة للأصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها، فإنه مبني على أن حقائق المعارف الأصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب والدرجات، وكذا سائر الكمالات الباطنية المعنوية، فأفضل الأنبياء المقربين مع أخس المؤمنين من حيث الوجود وكماله الخارجي التكويني على حد سواء، وإنما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعي من غير أن يتكي على تكوين، كما أن التفاضل بين الملك والرعية إنما هو بحسب المقام الجعلي الوضعي من غير تفاوت من حيث الوجود الانساني هذا.
ولهذا الأصل أصل آخر يبنى عليه، وهو القول بأصالة المادة ونفى الأصالة عما ورائها والتوقف فيه إلا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، وقد وقع في هذه الورطة من وقع لاحد أمرين: إما القول بالاكتفاء بالحس اعتمادا على العلوم المادية وإما إلغاء التدبر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامي.
وللكلام ذيل طويل سنورده في بعض الأبحاث العلمية الآتية إن شاء الله تعالى.

(٣٦)

وخامسها: ان مزية أصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، وكذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنما هو بالعلم لا العمل، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبين مما مر: ان العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيتهم إلا العلم، واما ما هذا العلم؟ وكيف هو؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى: (انزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) الرعد – 17.
ويشعر بهذا المعنى قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة – 11، وكذا قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) الملائكة – 10، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب وهو الاعتقاد والعلم، واما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب والامداد دون الصعود إليه تعالى، وسيجئ تمام البيان في البحث عن الآية.
(بحث روائي) في الكافي عن الصادق عليه السلام في معنى العبادة قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفا، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة.
وفي نهج البلاغة: ان قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.
وفي العلل والمجالس والخصال، عن الصادق عليه السلام: ان الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفا من النار فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكني اعبده حبا له عز وجل فتلك عبادة الكرام، لقوله عز وجل: (وهم من فزع يومئذ آمنون).
ولقوله عز وجل (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، فمن أحب الله عز وجل

(٣٧)

أحبه، ومن أحبه الله كان من الآمنين، وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون.
أقول: وقد تبين معنى الروايات مما مر من البيان، وتوصيفهم عليهم السلام عبادة الأحرار تارة بالشكر وتارة بالحب، لكون مرجعهما واحدا، فان الشكر وضع الشئ المنعم به في محله، والعبادة شكرها ان تكون لله الذي يستحقها لذاته، فيعبد الله لأنه الله، اي لأنه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنه هو، وهو معبود لأنه جميل محبوب، وهو معبود لأنه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.
وروي بطريق عامي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: إياك نعبد الآية، يعني:
لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل: كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.
أقول: والرواية تشير إلى ما تقدم، من استلزام معنى العبادة للحضور وللاخلاص الذي ينافي قصد البدل.
وفي تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث: ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لان الصفة غير الموصوف، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره. الحديث.
وفي المعاني عن الصادق عليه السلام في معنى قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم يعني ارشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو ان نأخذ بآرائنا فنهلك.
وفي المعاني أيضا عن علي عليه السلام: في الآية، يعني، ادم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.
أقول: والروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شهبة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهدي، فالرواية الأولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقا والثانية إلى اتحادها مفهوما.

(٣٨)

وفي المعاني أيضا عن علي عليه السلامالصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير واستقام، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة.
وفي المعاني أيضا عن علي عليه السلام: في معنى صراط الذين الآية: اي: قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك، لا بالمال والصحة، فإنهم قد يكونون كفارا أو فساقا، قال: وهم الذين قال الله: ” ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا). وفي العيون عن الرضا عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: قال الله عز وجل: قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سئل، إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله بدء عبدي باسمي، وحق علي ان أتمم له أموره، وأبارك له في أحواله، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله جل جلاله: حمدني عبدي، وعلم أن النعم التي له من عندي وان البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله جل جلاله: شهد لي عبدي اني الرحمن الرحيم اشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه ولأجزلن من عطائي نصيبه، فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى:
أشهدكم، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لأسهلن يوم الحساب حسابه، ولا تقبلن حسناته ولا تجاوزن عن سيئاته، فإذا قال: إياك نعبد، قال الله عز وجل: صدق عبدي، إياي يعبد اشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: وإياك نستعين قال الله تعالى: بي استعان عبدي والي التجأ، اشهدكم لأعيننه على أمره، ولأغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، قال الله عز وجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سئل، وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما امل وآمنته مما منه وجل.
أقول: وروى قريبا منه الصدوق في العلل عن الرضا عليه السلام، والرواية كما ترى

(٣٩)

تفسر سورة الفاتحة في الصلاة فهي تؤيد ما مر مرارا أن السورة كلام له سبحانه النيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة واظهار العبودية من الثناء لربه واظهار عبادته، فهى سورة موضوعة للعبادة، وليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها واعنى بذلك: اولا: ان السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية ونصب نفسه في مقام العبودية. وثانيا: انها مقسمة قسمين، فنصف منها لله ونصف منها للعبد.
وثالثا: أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على ايجازها واختصارها فان القرآن على سعته العجيبة في معارفه الأصلية وما يتفرع عليها من الفروع من أخلاق واحكام في العبادات والمعاملات والسياسات والاجتماعيات ووعد ووعيد وقصص وعبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد والنبوة والمعاد وفروعاتها، وإلى هداية العباد إلى ما يصلح به اولاهم وعقباهم، وهذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظ وأوضح معنى.
وعليك ان تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلاة المسلمين بما يضعه النصارى في صلوتهم من الكلام الموجود في إنجيل متى: (6 – 9 – 13) وهو ما نذكره بلفظه العربي، (أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيتك كما في أسماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير آمين).
تأمل في المعاني التي تفيدها ألفاظ هذه الجمل بعنوان انها معارف سماوية، وما يشتمل عليه من الأدب العبودي، إنها تذكر أولا: أن أباهم (وهو الله تقدس اسمه) في السماوات!! ثم تدعو في حق الأب بتقدس اسمه واتيان ملكوته ونفوذ مشيته في الأرض كما هي نافذة في السماء، ولكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات الأحزاب السياسية أشبه؟ ثم تسئل الله اعطاء خبز اليوم ومقابلة المغفرة بالمغفرة، و

(٤٠)

شاهد أيضاً

مآثر العلماء في الطريق الى الله ٤

كان الشيخ حسن علي الأصفهاني يعتبر الاستعانة بالارواح الطاهرة لأئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم ...