ملِكُ الموت والحياة
4 ساعات مضت
الشهداء صناع الحياة
6 زيارة
عِبَرٌ وعبَرَات
إنَّ كأْسا واحدة لا تتّسع لماء بحيرة واسعة، وخطوة صغيرة لا تجتاز سهلًا شاسع الأبْعاد، وإنَّ سلَّة مهْما كانت قويّة الحبْك، شديدة التّماسُك، يستحيلُ عليها احْتواء أعناب الكروم وأثمار البساتين.
لم يَقْوَ جسدُ الشّيخ عماد، مع رشاقته وليَاقته، على حَمْلِ أعْباء الرّوح الراضية المرْضيّة، المتغلْغِلة في جوارحه، المحلّقة بألف جناح فوق الجنوب السّليب، فالصَّبر على المرارة في شرعه ليس قبولَ الإهانة، ومضغَ الحنظل، والرِّضا بما تخبِّئه صروفُ الدّهر من صِعاب وأرزاء ومكاره، ولا انتظارَ الفرَج على فراش وثير أو تحت ظلٍّ ظليل، فمقارعةُ المعْتدين على التُّربة المسروقة وأمام الأنْفُس المزهوقة، وردعُ أولئك القراصنة العابثين بأمنِ الجنوبيّين ومُسْتقبلِهم، القابضين على أعْناقهِم بمخالبَ خانقة، بلْ إنَّ دحْر هذه الهجْمة البرْبريَّة التّعسّفيّة، لَهو الصّبر الجميل والرّباط الحكيم، بلْ هو عيْن الحقيقة، ومحجّة الصّواب والسّداد.
وبقدْر ما فاض قلب «السّيّد رضا» وهو الاسم الجهاديّ للشّيخ، بالوَلاء لوطنه المسحوق ومواطنيه المستضعفين، اكتظّ صدره بالحقْد والضّغينة، على أولئك الأشْرار، الّذين سوَّلتْ لهم وساوسُهم التّوراتيّة وشياطينُهم المادّيّة، اغْتصابَ أراضي الضّعفاء، والهيْمنة على أقوات النّاس، ومصائر العباد، فلم يهدأْ له بال، حتَّى بيْن أفراد أُسْرته أو في مقامات التأمّل والعبادة، كما أنّه لم يهنأْ بنومٍ وطعام، أو يستمتعْ براحة، وأُذُناه تستقْبلان يوْميًا، دويَّ الطّائرات المـُغيرة على العُزّل والأبرياء، في طول الشّريط الحدودي وعَرْضه، وأخبارَ النّاس الحَيارى، وما يتعرَّضون له من ذُلّ مَقيت، وأذًى مُميت، ولطالما تساءَل في خلَواته الشّخصيّة، وحلَقاته الجمَاعيّة:
«ماذا ارتكبْنا من ذنوب، وفعَلْنا من فواحش تؤذي أو تصيب هؤلاء الجُناة؟
هل سرقْنا أموالَهم أم قصَفْنا مدنيِّيهم؟
هل غصبْنا لهم أرْضًا أو دنَّسْنا لهم عِرْضًا؟
لِمَ يقيمون فينا المجازرَ الرّهيبة، ويسْلبون النّوم من عيوننا، ويحرقون زرْعنا، وينتهكون حُرُماتنا؟
بلْ لماذا يصطادوننا كعصافير البرّيَّة، نازعين منّا قهْرًا، ما للعصافير من حقّ في الحياة والحرّيّة؟!
كيف نردّ على هذه الجرائم البَكْماء، والقنابل العمياء؟!
هلْ بالبكاء على قتْلانا كالنّساء، والنّحيب على جرْحانا وأسْرانا كالأطفال؟!
أم باللّجوء إلى المظاهرات، والاحتجاج العقيم إلى هيئة الأمم؟ وقد اتّفقتْ تلك العصابة مع عدوّنا على إذْلالنا وقهْرنا وإفنائنا؟! هل نُقِرُّ بعجْزنا وضعفنا، فنكتفي بالصّمت الحزين، ونلوذ بالمساوَمة مع من سوَّفوا، ونتمنَّى الموت البائسَ مع مَن تمنّوْا، أو نسْتسلم كالجبناء والخائنين مع الّذين استسلموا وخانوا واستكانوا؟! أمْ نحمل على هؤلاء الشُّذّاذ حمْلة رجل واحد، تقتلعُ جذورَهم، وتمحو آثارهم، وتُبيد أوَّلهم وآخرهم، فنقْطع رأسَ الأفْعى، ويصبح العالم جنّة من الأمنْ والأمان، بعد أنْ جعلوه سعيرًا من المتفجرّات الهوْجاء، والحرائق البلْهاء الّتي تمزِّق الأجساد وتعذِّب الأرواح؟».
وفي ذات ليلةٍ حافلةٍ بالسُّكون والتأمُّل، وبينما كان «السّيّد رضا» أسيرَ هذه الأسئلة الصّارخة، والأجوبة الطّارئة، دخلَ عليه
رفيقُ دراسته، المجاهد «أبو حسن» ملْقيًا عليه السّلام، فردّ تحيّته بصوْت يَحزُّه الأسى، ويقطِّعه الأسف، فسأله والاسْتغراب يغْشى ملامحه: «متى كان التّشاؤم يلْتهم بِشْرَك ويحجبُ فرَحَك؟ بلْ أين تلك البسمة الّتي تلْمع كاللؤلؤة على وجهك الهادئ؟».
فشهق «السّيّد رضا» شهقة أليمة، أتْبعها بزفْرة مريرة، ساندًا بيمينه رأسه المنْحني انْحناء غصنٍ لوتْه العاصفة قائلًا:
«نحن نعيش يا أخي على فوَّهة بركان، ليس في بلدنا الجريح فقط، بل فيما حوله ومَنْ حولَه مِن عَربٍ مقْموعين، وعجَم مغبونين، وقد فار فوراتٍ قاتلة ماحقة، فأعْمى دخانُه العيون، ومزَّقتْ حممُه الأجْساد، فشرّد أبناء الدّيار، وحُماة المقدّسات، في الأصقاع البعيدة، فلا شقيق يؤازرهم، ولا صديق يؤاويهم.
ولم يكْتفِ العدُّو اللئيم بمن قتلَهمْ وسجنهم وحرمهم، بل دارتْ دورةُ عنصريّته واغْتصابه على منْ تبقّى من شعب فلسطين وأرْضها الكريمة، ناهبًا خيراتها مُضاعِفًا ويلاتها، مبدّدًا أجيالها الناقمة منه والحاقدة عليه، في المنافي القصيّة والمهاجر الغريبة المجهولة».
فقطّب «أبو حسن» جبينه، وانْسدَلتْ عليه غِلالةٌ دكناءْ، كأنّها سحابة شتاء كثيفة ثمّ خاطبه:
«أنت تغوص في لُبابِ القضايا، ولا تفوتك قشورُها الطّارئة، صحيحٌ أنّ تلك النّار الآذية الّتي تضطرم في فضائنا، وتنْدلعُ فوق خنادقنا، ستمتدُّ ألسنتُها الحارقة إلى البقاع النّائية، من كوكبنا المضطرب، وسوف تشوّهُ أوبِئتُها الفاتِكة وجْه المدنيّة المضيء، ولكنْ….
هلْ نهرب كالبلابل من هدير الطّائرات وجلَبة المدرَّعات، أمْ نثبت في ربوعنا كالجبال الرّاسخة، غير عابئين بعديد الأعداء وعُدَّتهم؟
هلْ نلجأ إلى التّواكل والتّواني مُردِّدين في أعماقنا: هذا ما شاءه الله لنا منذ الخليقة الأولى، أمْ نتصدَّى للقراصنة شارين النّصر بالدّم، والغلَبة بالتّضحية؟
إنّ قومَنا العرب، وأشِقّاءَنا المسلمين، يتجشَّمون اسْتبداد حُكَّامهم ويقاسون نفاق قادتهم، وسوف يتّخذوننا أُسْوةً حسنة وعِبرَةً جليَّة، بعد أن نفتح بالقرابين البشريّة النَّاضحة، معابر الجنوب المقفلة، وأبواب فلسطين الموصدة، باذلين إحساسَنا
وأنْفاسنا، ثمنا لكبريائنا الممْتَهن، وقدسنا السّليبة».
توقف «أبو حسن» عن الحديث ليرتاح هنيهة، فلم يمهلْه «السّيّد رضا» فأجابه بعد أن زادت كلماته الحوار اشتعالًا وانْتقالًا:
«أنا أقرأ على أُفْق المعركة، ما تراه عيناكَ الثّاقبتان، واستشْعرُ الخطَرَ المحْدِق بنا وبالعالم الواسع الجنبات، وها أنذا أحمل روحي على عاتقي، جائبًا الممَرّات الشّائكة والمسالك المربِكة، لأدفعَ قسْطي من الدَّيْن المتوجِّب على عُنقي، إلى موْطئ أقدام آبائي، ومثْوى جدودي، وأنت تعلم مدى ولائي لتلك المقَل الّتي تَرصدُ الأشقياء، غيرَ عابِئَةٍ بتسلّط الوسَن وتَقلُّب الزَّمَن، كما أَنّك تسبُرُ أغواري المفْعَمَة بمبايعة فوارس الهيجاء وأشاوس النّصر، ولطالما رفعْتُ عنوانًا لحياتي، ورمْزًا لمِماتي هذه العبارة الحكيمة:
«كتابكَ محْوَرُكَ، وقلَمُكَ بُنْدقيّتُكَ، ورصاصُك دمُكَ، فليس لنا منَاص من الانتشار والاقْتدار على الشّرّ المـُلِمّ بنا، وما للعدوّ مفرٌّ من الملاحم الطّارقة، والهزائم اللّاحقة، إنّ الظّلم عاقبته وخيمة، والظّالم حظوظه عديمة، فلا يسْلم إلّا المنطقُ السّويّ وصاحبُه، ولا يخيبُ إلاّ الخدّاعُ اللئيم وفاعلُه، إنَّ هذه الأرض
الطيّبة المقهورة، أنْبتتْ بيْن ينابيعها النَّميرة وحقولها الخصبة، رجالًا لا تُلْهيهم تجارة ولا بيْعٌ عنْ ذكْر الله.
لم نتقهْقرْ كالضّعفاء، ولنْ نُساومَ كالمنافقين، «فهيْهاتَ منّا الذِّلَّة، يأْبى الله لنا ذلك ورسولُه والمؤمنون».
وتضرَّجَ وجْهُ «أبو حسن» لينِمَّ عن سرور عميق، واطمئْنان وثيق، بما نثرَهُ «السّيّد رضا» من فمِه المعطّر، ثمّ أشار إليه براحة يده، طالبًا بدوْره التحليل والتعليل في دوّامة الأمور الشّائكة، قائلًا:
«أيّها الحبيب المتوَّج بالتّقوى، المدجَّج بالإيمان، المسْتسلِم لخالقه، البارُّ بأهْله وقوْمه.
أنت رجل عِلْم وعرفان تعشقُ المتصوِّفين، وتغوصُ في ألبابهم، وتدرس طرائقهم، لقد عبَّرْتَ لي مِرارًا عن ذوَبانك في قدوتك المثْلى صدْر المتألّهين الشّيرازي، كما جذبَتْكَ علاقة الإمام الخمينيّ بالله، الّتي لاحتْ كخطوط الفجْر الأُولى، خيوطًا نورانيّة أحاطَت هالةً جاذِبَة بهذا السّيّد الغالب، فهابَه الخلْق طُرًّا، وعلِقتْ به قلوبُ المؤمنين، فكان قَرْمَ الحقّ، وقرنَ العدل، وفيْصلَ الحُكْم، وعَلَمَ الإِيمان، ونِبْراسَ الزّمان، وأنت
القائل أيّها الأخ الحبيب «أريد أنْ أؤسِّسَ جيلًا يحْملُ البنْدقية بعْد اسْتشهادي» وزوّدْتَ بهذه المقولة فوْجَ الكشّاف أفرادًا وجماعات، والّتي ما زالت ترنُّ كالأجْراس النُّحاسيّة في أسْماعهم.
لقد عايشتُك سنوات طويلة، مملوءة باللّذّة والأُنْس، اللَّذَين يزرعهما الله في قلبَيْن متحابَّيْن، وعايَنْتُ توفيرَك بعض القروش من معاشِك الزَّهيد، الّذي تُسْعفِكَ به إدارة الحوْزة، لتسدَّ رمَقَكَ، وتؤمِّن اليسير من حاجاتك، واسْتطعتَ أنْ تجمع بعض إخوانك، مُكْرمًا مضيفًا، في سهْرة شاي أو حفلة حلوى، مُنْفقًا عليهم ممّا تبقّى في يدك السّخيّة، وإذا ما علِقَ بها قرْش أخير، كنت تدفعه ثمنًا لكتاب تتَّخذُه رفيقًا جديدًا، في رحلتك العصيبة الكأداء.
أنت قريب إلى القلوب يا «سيّد رضا»، فما حدَّثْت امْرءًا قطُّ إلّا ووهبكَ ثقته، واغْتبط بما تعلِنُه، واطمأنَّ إلى ما تُسِرُّه، فما أراه ملاصقًا لشخصيّتك العرفانيّة، وموافقًا لشبابك، الزّاهد فيما يزول، الرّاغب فيما يبقى، من غنائم الدُّنيا ومَكاسِبِها، هو أن تقتفي خطوات الواعظين، وتسخِّر منْبرَك منْفذًا إلى عقول القوْم، والمحراب ذريعة إلى هدايتهم، وما أنصحك به، وأنت الصّديق الصَّدوق الّذي أمْحضُه الودَّ، أنْ تتبوَّأَ إمامة مسْجد
قريتك المحرومة من عالم يجمع شتاتها، ويوحِّد صفوف أبنائها، ويعلِّم أجيالها دروسَ أئمّتنا الهادين وأعلامنا النّابهين، ويجعلهم رفْدًا لا يغيض للجنوب المنْهَك، ومددًا لا ينفذ للوطن المهْمَل، وسَنَدًا قويًّا للدِّين الحنيف».
فظهرتْ أَماراتُ الحنَق والاستياء على ملامح «السّيّد رضا» وكأنَّه تأذَّى بما حبَاهُ به أخوه من نصائح، لمْ تلْقَ عنده صدْرًا مفتوحًا، ولا عُذرًا مقبولًا، وبلهْجة حازمة هي أقْرب إلى اللَّوْم والتَّلقين منه إلى الإفْصاح عمّا يجول في الخاطر أجابه:
«إنَّ آثرَ الهوايات عندي ركوبُ الأهوال، وكثْرة التَّرحال، وريادة الأدْغال، أمّا الاشتباك مع الغازين، ومقارعة المعتدين، فهو أمْتع وأشهى ما خلقه الله من زينة وطيِّبات، وأمّا الموت في سبيل الحقّ، فإنَّه سعادتي الكبْرى ونعيمي المقيم، «فوالله لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظّالمين إلاّ بَرَما».
نَعمْ، لقد أدَّبتُ أشْبال الكشَّاف بأدَب البندقيَّة، وعبّأْتهُم بالاستمتاع بالكرّ والمناورة، في حلَبة الظّفر المعجَّل والفوز المؤجَّل، وأوْعزْتُ إلى وجْدانهم، التَّهافُتَ على مُقارعة الغُزاة، وجها في وجه، وقبضةً في قبضة، ودعوتُ أهْلي وصحْبي وناسي،
إلى إعْداد العُدَّة، ورصِّ الصّفوف، والالتحاق بقامات الفداء، الّتي تموج كالسّنابل السّمراء في مرابعِ الجنوب المغمور بالأوجاع والأحزان، وحينما أطلقتُ دعوتي تلك، أهْرقتُ عليها دموعي وخُشوعي، دموعَ الغبْطة بالانْتصار المحتوم، وخشوعَ الارْتقاء بالشَّهادة المشرِّفة، كنتُ أدرِّبُ الصِّغار على مُداوَرة الشَّدائد، بجسدي وأطرافي فقط، أمَّا قلْبي الحاقد على القَتَلةِ الغُرباء، فقد أنْشأَ منذُ ذلك العهْد يتكوَّن كالسَّاحر على شكْل طائر غرِّيد، يسابق الصّقور ويهْوى العبور، واصِلًا فضاء جبيْل بأجْواء (بِئْر كَلاّب) وأشجار سُجُد وعرمتى، هلْ تظنّ يا «أبو حسن» أنَّك أكثر منّي شغفًا بالجهاد؟ أو أشدُّ رغْبة في لقاء الله؟ ألاَ تذكُر يا رفيقي، وأنت الذّاكر الذَّكيّ، يوم شاورْتَني في قيامك بزيارة إلى الإمام الرّضا أنّني قد نصحْتك بتأجيلها، وإبْدالها بزيارة سُوح الفِداء، وأردفْتُ مبيّنًا ما قاله الأمينُ العامّ: الجهاد خيرٌ من الحجّ إلى مكّة وغيرها من المقامات المكرّمة؟
ألاَ تعلَم يا أخي أنَّ روحي متيَّمة بجبل صافي ذلك التّنّين القويّ الواقف في وجْه الغزاة وقوف المارد أمام الأقزام؟ كَمْ أحِنُّ إلى ما يعكس فضاؤُه من بَدائع قِتالية وما يْطويه تُرابُه منْ عَرقٍ سيَّال، نضحتْ به هاماتُ نبلاء بني عامل وأجْوادهم،
أولئك السّمحاء القابضون على الزِّناد في المآزق والكمائن، دَرْءًا لانتشارِ الجراد الماحق أو تسلُّل الخفافيش الضّالّة!
هل تطلب مني أنْ أُزَوِّدَ النَّشءَ الصَّاعِدَ بالمسْتحسَن من الأفكار، والمسْتظْرَف من الاعْتبار، وتدعوني إلى امْتشاق كتابٍ بيَدٍ، وقلَمٍ بالأُخرى، مكْتفيًا بدوْر الواعِظ الوقور، والرّاعي الصّالح والأديب الأريب؟ وأنا، أنا العبْد المشْتاق إلى ربّه التوّاق إلى الانعتاق، أنا الطّالب ثأْرَ أمَّتي بدمي وتحرير وطني بدموعي!!
صحيح أنّ البُنْية الثقافية والعمْقَ التربويّ، هو أوَّلُ لَبِنة في حَصانة الرّوح الّتي تبارك الجسد، وأنّ روائع الفكر هي الّتي تلدُ بدائع الدَّم، ولكنَّ صِيانة الحدود، ورعاية الحُرمات تتمُّ وتكتمل بالسَّواعد النّقيّة والدّماء الزّكيّة الّتي تُزْهق الباطل وتوطّد الأمن وتنشر الوئام.
إنّ عدد الوُعَّاظ يا «أبو حسن» قد فاق عددَ الجنود، وصناعة البيان والبديع قد بزَّت صناعة الخبزْ والدّواء، أمَّا النّجيع الّذي يلوِّن أعلام الوطن، ويمنحه العُلَى والسُّؤدَدَ، والّذي يجعل الشّمس سِراجًا وهَّاجًا، والقمرَ مصْباحًا منيرًا، فهو معدن
إلهيّ نادر بل هو أكْرم دُرَرِ الأرْض، وأغْلى جواهرِ الوجود.
أُنْظرْ إلى قبْضتي القويّة، حدّقْ جيدًا في عضَلاتي المتشابكة المفعمة بالعزم والأمل والحياة، افتحْ صدري بنور بصِيرَتِكَ، وحطِّم أضْلاعي الّتي تحجُب قلْبي عن دَقائِق الأثير، ستعثر في شِغافه على البأْس الّذي لا يخور، والحبِّ الّذي لا يراوغ، والثّورة الّتي لا تهدأُ، والنّخْوة الّتي لا تضمحلّ».
عندما بلغتْ حرارة مشاعره هذا الغوْر، اغرورقتْ عيناه، واحمرَّتْ وجنتاه احْمرار غمائم الأصيل، المتلوّنة بأشعّة الشَّفق القِرمزيّة، وأطْبقَ فمَه ليمْنَع دموعَه عن اجْتياح لُعابه ولسانه، وانْفرجتْ شفتاه ثانيةً لتبثّ بهَمْسٍ شفَّاف عواطفه المتأجّجة، وشوقه الدّفين لأهْل الثّغور، بيْدَ أنّ لواعجَ «أبو حسن» لم تكُنْ أقلَّ غزارة وأضْيق مَسارًا، فقد انْثنَى على ركبتيْه ومدَّ ذراعيه القويّيْن، محتضنًا بوداد لا يوصف وحنان لم يُعْرَفْ المجاهد «السّيّد رضا» وتبلَّلت الوجنات من هنا وهنالك، وتضاعفت الحسَرات، وخفق القلبان المسْتهامان على إيقاع الألحان الجهاديّة الرتيبة.
واشتدّت حُمَيّا المشاعر، واتَّحدت الظّواهِرُ والبَواطن، وكان
الرّابحُ في عَرْض هذه المشاهد الملائِكيّة، واللّوْحات الصّوفيّة، المقاومة الإسلاميّة وفحولَها، وجبلَ صافي وصخورَه، أمَّا الخاسر في هذه النَّوبة، فهو العدّو الموعود بالهزيمة، المصعوق بقبَضات المقاومين الميامين، على الثّغور العامرة، وفي المرابض القاهِرة، وبين الأشجار المتشابكة، في ربوع الجنوب السَّليب الصّامد.

2025-05-01