الرئيسية / زاد الاخرة / كتاب المحبة و الشوق و الرّضا و الانس‌

كتاب المحبة و الشوق و الرّضا و الانس‌

(1) و هو الكتاب السّادس من ربع المنجيات من المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء 

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للَّه الّذي نزّه قلوب أوليائه عن الالتفات إلى متاع الدّنيا و نضرته، و صفى سرائرهم عن ملاحظة غير حضرته، ثمّ استخلصها للعكوف على بساط عزّته،

ثمّ تجلّى لها بأسمائه و صفاته حتّى أشرقت بأنوار معرفته، ثمّ كشف لها عن سبحات وجهه حتّى احترقت بنار محبّته، ثمّ احتجب عنها بكنه جلاله حتّى تاهت في بيداء كبريائه و عظمته، فكلّما اهتزّت لملاحظة كنه الجلال غشيها من الدّهش ما أغبر في وجه العقل و بصيرته،

و كلّما همّت بالانصراف عنه آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبرا أيّها الآئس عن نيل الحقّ بجهله و عجلته، فبقيت بين الردّ و القبول و الصدّ و الوصول غرقى في بحر معرفته، محترقة بنار محبّته، و الصلاة على محمّد خاتم الأنبياء بكمال نبوّته، و على آله و أصحابه سادة الخلق و أئمّته، و قادة الحقّ و أزمّته و سلّم كثيرا.

أمّا بعد فإنّ المحبّة للَّه عزّ و جلّ هي الغاية القصوى من المقامات و الذّروة العليا من الدّرجات فما بعد إدراك المحبّة مقام إلّا و هو ثمرة من ثمراتها و تابع من توابعها كالشوق و الانس و الرّضا و أخواتها، و لا قبل المحبّة مقام إلّا و هو مقدّمة من مقدّماتها كالتوبة و الصبر و الزّهد و غيرها و سائر المقامات و إن عزّ وجودها فلم تخل القلوب عن الإيمان بإمكانها، فأمّا محبّة اللّه عزّ و جلّ فقد عزّ الإيمان بها حتّى أنكر بعض العلماء إمكانها و قال: لا معنى لها إلّا المواظبة على طاعة اللّه عزّ و جلّ، و أمّا حقيقة المحبّة فمحال إلّا مع الجنس و المثال، و لمّا أنكروا

المحبّة أنكروا الانس و الشوق و لذّة المناجاة و سائر لوازم الحبّ و توابعه و لا بدّ من كشف الغطاء عن هذا الأمر و نحن نذكر في هذا الكتاب بيان شواهد الشرع في المحبّة، ثمّ بيان حقيقتها و أسبابها، ثمّ بيان أن لا مستحقّ للمحبة إلّا اللّه عزّ و جلّ،

ثمّ بيان أنّ أعظم اللّذات لذّة النظر إلى وجه اللّه تعالى، ثمّ بيان سبب زيادة لذّة النظر في الآخرة على المعرفة في الدّنيا، ثمّ بيان الأسباب المقوّية لحبّ اللّه تعالى ثمّ بيان السبب في تفاوت الناس في الحبّ للَّه، ثمّ بيان السبب في قصور الأفهام عن معرفة اللّه عزّ و جلّ، ثمّ بيان معنى الشوق، ثمّ بيان محبّة اللّه عزّ و جلّ للعبد، ثمّ القول في علامات محبّة العبد للَّه تعالى، ثمّ بيان معنى الانس باللّه تعالى، ثمّ بيان معنى الانبساط في الانس، ثمّ القول في معنى الرّضا و بيان فضيلته، ثمّ بيان حقيقته، ثمّ بيان أنّ الدّعاء و كراهة المعاصي لا تناقضه و كذا الفرار من المعاصي، ثمّ بيان حكايات المحبّين و كلمات للمحبّين متفرّقة.

(بيان شواهد الشرع في حب العبد للَّه تعالى)

اعلم أنّ الامّة مجمعة على أنّ الحبّ للَّه عزّ و جلّ و لرسوله فرض و لن يفترض ما لا وجود له و كيف يفسّر الحبّ بالطاعة و الطاعة تبع الحبّ و ثمرته فلا بدّ أن يتقدّم الحبّ ثمّ بعد ذلك يطيع من أحبّ فمن شواهد الشرع في حبّ اللّه عزّ و جلّ قوله: «يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ» [1] و قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ» [2] و هو دليل على إثبات الحبّ للَّه و إثبات التفاوت فيه، و قد جعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحبّ للَّه من شروط الإيمان في أخبار كثيرة إذ قال أبو رزين العقيلي: يا رسول اللّه ما الإيمان؟

قال: «أن يكون اللّه و رسوله أحبّ إليك ممّا سواهما» [3] و في حديث آخر «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون اللّه و رسوله أحبّ إليه ممّا سواهما» [4] و في حديث آخر «لا يؤمن‌

[1] المائدة: 59.

[2] البقرة: 160.

[3] أخرجه أحمد في المسند ج 4 ص 11 في حديث.

[4] أخرجه بمضمونه النسائي ج 8 ص 94، و أحمد في مسنده ج 3 ص 172، و الطبراني في الأوسط.

العبد حتّى أكون أحبّ إليه من ماله و أهله و الناس أجمعين» [1] و في رواية «و من نفسه».

كيف و قد قال تعالى: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ‌- إلى قوله- أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ‌- الآية» [2].

و إنّما ذلك جرى في معرض التهديد و الإنكار و قد أمر عليه السّلام بالمحبّة فقال:

«أحبّوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه و أحبّوني لحبّ اللّه إيّاي» [3].

و قد يروى أنّ رجلا قال: «يا رسول اللّه إنّي أحبّك، فقال: استعدّ للفقر، فقال: إنّي أحبّ اللّه، فقال: استعدّ للبلاء»[1].

و عن عمر قال: نظر النبيّ عليه السّلام إلى مصعب بن عمير مقبلا و عليه إهاب كبش قد تنطق به[2]فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «انظروا إلى هذا الرّجل الّذي قد نوّر اللّه قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام و الشراب فدعاء حبّ اللّه و حبّ رسوله إلى ما ترون» [4].

و في الخبر المشهور «إنّ إبراهيم عليه السّلام قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه:

هل رأيت خليلا يميت خليله؟ فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه هل رأيت محبّا يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض» [5] و هذه لا يجدها إلّا عبد يحبّ اللّه عزّ و جلّ بكلّ قلبه فإذا علم أنّ الموت سبب اللّقاء انزعج قلبه إليه و لم يكن له محبوب غيره حتّى يلتفت إليه و قد قال نبينا عليه السّلام في دعائه: «اللّهمّ ارزقني حبّك و حبّ‌

[1] أخرجه البزار و رجاله رجال الصحيح غير بكر بن سليم و هو ثقة و فيه «استعد للفاقة» دون آخر الحديث كما في مجمع الزوائد ج 10 ص 274.

[2] أي شد وسطه به.

[1] أخرجه البخاري ج 1 ص 12 من حديث أنس و أيضا مسلم ج 1 ص 49 بنحوه.

[2] التوبة: 24.

[3] أخرجه الترمذي، و الحاكم في المستدرك ج 3 ص 150 من حديث ابن عباس.

[4] أخرجه أبو نعيم في الحلية بسند حسن كما في المغني.

[5] قال العراقي: لم أجد له أصلا.

من يحبّك و حبّ ما يقرّبني إلى حبّك و اجعل حبّك أحبّ إليّ من الماء البارد» [1].

و جاء أعرابي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «يا رسول اللّه متى الساعة؟ فقال: ما أعددت لها؟ فقال: ما أعددت لها كثير صلاة و صيام إلّا أنّي أحبّ اللّه و رسوله فقال له:

النبيّ عليه السّلام: المرء مع من أحبّ» قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشي‌ء بعد الإسلام فرحهم بذلك‌ [2].

و قال بعض الصحابة: من ذاق من خالص محبّة اللّه عزّ و جلّ شغله ذلك عن طلب الدّنيا و أوحشه عن جميع البشر. و قال آخر: من عرف ربّه أحبّه، و من عرف الدّنيا زهد فيها و أبغضها، و المؤمن لا يلهو حتّى يغفل فإذا تفكّر حزن.

و قال أبو سليمان الدّاراني: إنّ من خلق اللّه تعالى خلقا ما يشغلهم الجنان و ما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون عنه بالدّنيا.

و يروى أن عيسى عليه السّلام مرّ بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم و تغيّرت ألوانهم فقال لهم: ما الّذي بلغ بكم ما أرى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: حقّ على اللّه أن يؤمن الخائف، ثمّ جاوزهم إلى ثلاثة أخرى فإذا هم أشدّ نحولا و تغيّرا فقال:

ما الّذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: الشوق إلى الجنّة؟ قال: حقّ على اللّه أن يعطيكم ما ترجون، ثمّ جاوزهم إلى ثلاثة أخرى فإذا هم أشدّ نحولا و تغيّرا كأنّ على وجوههم المرايا من النور فقال: ما الّذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا: حبّ اللّه عزّ و جلّ فقال: أنتم المقرّبون أنتم المقرّبون.

و قال عبد الواحد بن زيد: مررت برجل قائم في الثلج فقلت له: أما تجد البرد؟ فقال: من شغله حبّ اللّه لم يجد البرد، عن سري السقطي أنّه قال: تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها فيقال: يا أمة موسى و يا أمة عيسى و يا أمة محمّد غير المحبّين للَّه تعالى فإنّهم ينادون يا أولياء اللّه هلمّوا إلى اللّه سبحانه و تعالى فتكاد قلوبهم تنخلع فرحا.

[1] تقدم عن الترمذي من حديث عبد اللّه بن يزيد الخطمي بسند حسن كما في الجامع الصغير.

[2] رواه مسلم ج 8 ص 42، و الطبراني و البزار كما في مجمع الزوائد ج 10 ص 280.

شاهد أيضاً

فيروس الإنفلونزا يعطل الدوام بعدد من مدارس العراق

تشهد محافظة الأنبار غربي العراق حالة استنفار صحي عقب رصد تفشٍ لفيروس الإنفلونزا سريع الانتشار ...