الدرس التاسع عشر: هل يلزم الديكتاتورية؟
أثير موضوع الديكتاتورية وولاية الفقيه في بدايات انتصار الثورة بشكل واسع من قبل جمع قليل من الذين لم يعجبهم أن تختار الأمة نظام الجمهورية الإسلامية المرتكز على مبدأ ولاية الفقيه، وأبدوا رفضهم باعتراضات أثاروها منها دعوى أنه يلزم من نظرية ولاية الفقيه الديكتاتورية، وأن يكون الحكم المبني على أساسها نظاماً دكتاتورياً!
وقد تصدى الإمام الخميني قدس سره بنفسه لهذه الدعوى كما تصدى لغيرها من الأمور التي طالتْ نظرية ولاية الفقيه، إذ لم يكن يسمح بأي تهاون بها حتى أنه دعا جميع خطباء الجمعة في ذلك الوقت لبيان مسألة ولاية الفقيه بشكل واضح، حتى لا يقع الناس في شباك أولئك الذين أرادوا زعزعة ثقتهم بهذا المبدأ المقدس.
وقد كان أساس تلك الشبهات ومنشؤها هم الأعداء، وإن كان بعضها قد ينطلق من سذجٍ، انقادوا لبعض المفاهيم والأفكار، لكن بالتأكيد فإن الجو الذي يدعو لمناقشة مبدأ ولاية الفقيه بطريقة مسيئة هو جؤ معادٍ سواء كان المناقش منهم أو كان يظن نفسه من المقربين، حتى أنك ترى الغضب والغيظ في كلمات هؤلاء الذين يكتبون ضد مبدأ ولاية الفقيه ولا تجد مبرراً لهذا الغيظ سوى حقد أو انحراف خطير عن دين الإسلام.
رد شبهة الديكتاتورية:
وإنما سميناها شبهة لما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: “وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى”1.
وسنكتفي في الرد على هذا الشبهة بما فهمناه من كلمات الإمام الخميني قدس سره في هذا الصدد، والذي يمكن استخلاصه من كلامه قدس سره في الرد عليها هو ما يلي:
أولاً: ليس من الديكتاتورية في شيء أن يكون النظام المعتمد في إيران الذي أيدته أكثرية الشعب بحيث تجاوزت نسبة التأييد التسعين في المائة دون ضغط أو إكراه، فالشعب بغالبيته العظمى أيَّد ولا يزال نظام الجمهورية الإسلامية المبني على مبدأ ولاية الفقيه كما نص عليه الدستور.
ثانياً: الديكتاتورية متجسدة في كلمات المعترضين، إذ يحاولون وهم القلة أن ينصبوا أنفسهم في موقع يحسبون أنفسهم أوصياء على الشعب والأمة، والحال أن الشعب لم يرض بذلك منهم بدليل أنه خالفهم، وهؤلاء عندما ينصبون أنفسهم في هذا الموقع يسعون لفرض رأيهم وإثارة جو نفسي وزعزعة ثقة الشعب والمسلمين بهذه الجمهورية والثورة، وهذا نحو من أنحاء الديكتاتورية.
ثالثاً: إن من يدعي أن مبدأ ولاية الفقيه يستلزم ديكتاتورية فلا ريب أنه جاهل بهذا المبدأ وأهميته وقدسيته، بل العكس هو الصحيح، فإن الحامي للحريات وفق المبادئ الإسلامية والحامي لإرادة الشعب وحقوقه والمدافع عنه هو مبدأ ولاية الفقيه الذي يقوم بمهمة الإشراف على أمور البلد حتى لا ينحرف أحد ممن يمكن أن يستلم مقدرات البلد.
1- نهج البلاغة ص81.
فهو الذي يمنع رئيس الجمهورية من أن ينحرف وأن يحكم بهواه، وهو الذي يمنع رئيس الوزراء من أن ينحرف ويحكم بهواه، وهكذا الكلام بالنسبة لأي مسؤول، كما أن مبدأ ولاية الفقيه يمنع الفقيه نفسه أن ينحرف وأن يحكم بهواه ولا يحق له ذلك أصلاً بل عليه أن يحكم وفق رأي الإسلام حسب اجتهاده والمفروض أنه بذل جهده كله للوصول إلى هذا الرأي واستكشافه من خلال وسائل الإستنباط الممكنة له، والمفروض أنه مجتهد قادر على استنباط الأحكام الشرعية.
كما أن عليه بذل الجهد في تمحيص الوقائع وتشخيصها حتى يطبق عليها حكمها الإلهي ويحكم على وفقه، والمفروض في الفقيه الولي العدالة والورع والكفاءة بل الأكفئية في تحقيق كل ذلك، كما ان المفروض ان في الأمة علماء وتقاة وثقاة ورعون يراقبون حركة الفقيه وبإمكانهم عزله إن انحرف وصار يحكم برأيه، وقد صان الدستور هذا الحق للخبراء وللأمة.
وإنما يكون الحكم ديكتاتورياً إذا استند الحكم إلى الرأي الشخصي بعيداً عن أي اعتبارات صحيحة وأجبرهم على اتباعه، وإنما يكون الحكم ديكتاتورياً إن كان الحكم وفق الهوى متاحاً للحاكم، وكان الحاكم قادراً على أن ينفذ جميع رغباته بدون أن يتجرأ أحد على معارضته.
والإنصاف أن كثيراً من مدعي الحرية والمطالبين بها هم في واقعهم يريدون أن يكونوا حاكمين ديكتاتوريين، لأنه ما من حاكم حكم أمة إلا وكان الهوى رائده، ويكاد يندر أن تجد أمة أو شعباً يخضع فيها الحاكم لضوابط تكون حاكمة عليه كما تكون حاكمة على الأمة، ومبدأ ولاية الفقيه يجعل الفقيه كغيره من أبناء الأمة خاضعاً للقانون والتشريع الإسلامي فلا يستطيع أن يحيد عنه قيد أنملة، وعند التدقيق نجد أن أقوى ضمانة يمكن أن يقدمها الإسلام للمنتسبين إليه في عصر الغيبة هو مبدأ ولاية الفقيه.
نعم لو أريد من الديكتاتورية حكم الرجل الواحد لصح هذا التعبير، لكنه تعبير يحمل المغالطات الكثيرة، فحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكم الرجل الواحد
ومع ذلك لا يستطيع عاقل مسلم أن يقول إن حكمه كان ديكتاتورياً وكذا حكم أمير المؤمنين عليه السلام. فليس كلما كان الحكم حكم الرجل الواحد كان الحكم ديكتاتورياً بل ربما كان الحكم ديكتاتورياً مع كون الحاكم مجموعة من الناس لا يوجد بينهم أي رابط حزبي، وربما يحكم الرجل الواحد فيجسد أرقى مظاهر الحرية المسؤولة والمشورة وفق القيم الصحيحة التي نراها متجسدة بالإسلام.
وللأسف فإن كثيراً من المعترضين بالديكتاتورية وغيرها من الإعتراضات على نظام ولاية الفقيه يريدون في الحقيقة الخروج من حكم الإسلام والتفلت من قيوده وتشريعاته، ومشكلتهم الأساسية مع الدين نفسه، يريدون أن تكون لهم كلمة في مقابل كلمة الله وكلمة الله هي العليا لو كانوا يفقهون.
رابعاً: على أن هؤلاء المعترضين لن يعترضوا بهذا الإعتراض لو كانت الصلاحيات كلها التي ثبت في الإسلام أنها للفقيه قد أعطيت لإنسان آخر غير فقيه بل وغير مسلم، بل ربما سيمدحون الشخص والنظام، ولكنهم يعيشون عقدة الإسلام ولا يتجرأون على قول ذلك.
خامساً: على أنه في دستور الجمهورية قد حُددتْ للفقيه صلاحيات هي أقصر دائرة من صلاحياته الأساسية، وإنما وافق عليها الإمام الخميني وتلاميذه من مؤسسي الجمهورية المباركة لأن الإمام مؤمن بإعطاء دور للأمة.
سادساً: كما أن الفقيه يمارس الشورى بأفضل طرقها وهو ملزم شرعاً وعقلاً بالإستشارات في بعض المواضع.
بل نجد أن الإمام الخميني قدس سره وهو الولي الفقيه الذي كان بإمكانه أن ينفرد بالحكم ولم يكن ليعترض عليه أحد نظراً لعمق المحبة له في قلوب الشعب المسلم في الجمهورية الإسلامية في إيران بل وخارجها وجميع المستضعفين في الأرض، قد أسس لعمل جماعي يخرج فيه الحكم عن حكم الرجل الواحد، ليكون المستقبل أكثر ضماناً للأمة والمجتمع من خلال تشكيل المؤسسات التي شُرِعِّتْ في الدستور وأُعطِيتْ صلاحيات وتجسدتْ بذلك
أرقى مظاهر الشورى إن على مستوى التشريع أو على مستوى القضاء أو على مستوى الحكم عامة، كمؤسسة المجلس النيابي التشريعي، ومؤسسة مجلس الوزراء، ومؤسسة مجمع تشخيص المصلحة، ومؤسسة شورى القضاء، ومؤسسة مجلس الخبراء، ومؤسسة مجلس المحافظة على الدستور وغيرها من المؤسسات، وهذا كله من نتاج ولاية الفقيه تحت إشراف الفقيه المسدد الإمام الخميني المقدس قدس سره.
والخلاصة: أنه لا ينبغي لإنسانٍٍ فهم ولاية الفقيه أن يعترض بهذا الإعتراض، لكن غالب المعترضين هم للأسف إما جهلة بهذا المبدأ أو يعيشون عقدة من الفقهاء أو من الإسلام أو من كل ما هو دين، أو هم قوم خبيثوا النية يريدون التسويق لأفكار غريبة عن الأمة لأهداف شيطانية وهو ما لن يخفى على أي متتبع، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره المشركون والكافرون.
وسنشهد تكرر هذا الإعتراض كلما سنحت الفرصة بذلك لا بهدف البحث عن حل له، بل بهدف التشويش على هذا المبدأ المقدس وبهدف تضييعه وتضييع المجتمع الإسلامي القائم عليه.
إن ضمانتنا الكبرى في عصر الغيبة ليس في ولاية الأمة على نفسها، بل ضمانتنا في مبدأ ولاية الفقيه، ولا يمكن لأي مجموعة من الناس أن تزعزع ثقتنا بهذا المبدأ، ولا أن تجعلنا نقنع بغيره من أسس الحكم، فما وجدنا ولن نجد أماناً في ظل أي شيء آخر.
ثم إن النقاش مفتوح على المستوى العلمي والفكري سواء في صلاحيات الفقيه الولي أم في مبدأ ولاية الفقيه، لكن بروحية استكشاف ماذا يريد الإسلام، لا من خلفية ما الذي يعجبنا وما الذي لا يعجبنا، وهذا يستدعي حسن رعاية لأسلوب النقاش وزمان ومكان عرضه ولا يتلاءم أبداً مع أي طريقة أخرى تهدف عن قصد أو غير قصد إلى تشويه صورة المبدأ أو إلى جرأة الآخرين على هذا المبدأ.