نصُّ الوصيّة:
روى الكليني قدس سره في الكافي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: “أَمْسِكْ لِسَانَكَ، فإنّها صَدَقةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ. ثُمَ قال:وَلا يَعْرِفُ عَبْدٌ حَقِيْقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَخْزِنَ مِنْ لِسَانِهِ” .
وقفةٌ مع لغة الموعظة
للإمساك معانٍ عديدة، منها: أمسكه بيده، أي: قبض عليه، وأمسك عن كذا، أي: امتنع عنه وكفّ، ويُقال: أمسك لسانك، أي: امتنع عن الكلام وكفّ عنه. وقد اعتبر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الإمساك عن الكلام صدقة يتصدَّقُ بها المرءُ على نفسه، فقال: “فإنّها صدقةٌ”، والضمير راجعٌ إلى الإمساك، والتأنيث بتأويل الخصلة، أي: أنَّ خصلة وعادة الإمساك عن الكلام والصمت حين لا يلزم الكلام خصلةٌ ممدوحةٌ وصدقةٌ تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة، حالها حال الصدق في القول، فإنَّهُ يدفعُ البلايا ويُقرّبُ من الربّ، وهذا يكون عندما “يَخْزِنَ مِنْ لِسَانِهِ”، أي: يمنع ويمسك ويكفّ لسانه عن ارتكاب اللغو والكذب والنميمة والغيبة والفاحش من الكلام والشتم وما شابه ذلك من كلامٍ بغير حقّ.
وقفةٌ تأمّليّة في مضمون الموعظة
تعلّقت المشيئة الإلهيّة المقدّسة بخلق الخلائق وإسكانها أرضه التي جعلها مهبطاً لهم، وقد فضَّل ـ عزّ وجلّ ـ بعض خلقه على البعض الآخر، فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ ، جاعلاً هذا الإنسان المُكرّم والمفضّل خليفته في الأرض فقال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً…﴾ ، حتّى أنَّهُ ـ تبارك وتعالى ـ جعله مسجود الملائكة، فقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ .
ولو أردنا البحث عن أسباب هذا التفضيل والإكرام لوجدنا أنَّ أقوى تلك الأسباب هو العقل والفهم الذي يمتاز به الإنسان عن غيره من الحيوانات والعجماوات، ففي تعريف المناطقة للإنسان يقولون: (الإنسانُ حيوانٌ ناطقٌ)، وقالوا إنَّ
مرادهم من (الناطقيّة) في تعريفهم هو التعقّل والتفكّر والفهم والإدراك، وبهذا يكون قوام إنسانيّة الإنسان بعقله وفكره وفهمه وإدراكه.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى قالوا إنَّ الله عزّ وجلّ كما خلق الإنسان مفطوراً على التفكير فإنَّهُ كذلك خلقه مفطوراً على النطق، بمعنى أنَّهُ يملك القدرة على التكلُّم والتعبير عن مراداته المكنونة في صقع نفسه، وأنَّه جعل اللّسان آلةً ينطق بها ، وقد ورد عن أمير البيان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنَّهُ قال: “مَا الإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ إِلَاْ صُوْرَةٌ مُمثَلَة، أو بَهِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ” ، و”اللِّسَانُ مِيْزَانُ الإِنْسَانِ” ،
و”الإِنْسَانُ لُبُّهُ لِسَانُهُ، وَعَقْلُهُ دِينُهُ” ، و”كَلَامُ الرَجُلِ مِيْزَانُ عَقْلِهِ” ، و”يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ كُلِّ امْرِئٍ بِمَا يَجْرِي عَلَىْ لِسَانِهِ” .
واللّسان كما قيل: من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنَّهُ صغيرٌ جرمُهُ، عظيم طاعتُهُ وجُرمُهُ, إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللّسان، وما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق، متخيّل أو معلوم، مظنون أو موهوم إلا واللّسان يتناوله، ويتعرّض له بإثبات أو نفي، فإنَّ كُلّ ما يتناوله العلم يعرب عنه اللّسان إما بحقّ أو باطل، واللّسان رحب الميدان ليس له مردّ، ولا لمجاله منتهى وحدّ، (ولا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) ولا يُنجي من شرّ اللّسان إلا أن يُقيّد بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة. وأعصى الأعضاء على الإنسان اللّسان، فإنَّهُ لا تعب في تحريكه ولا مؤونة في إطلاقه، وإنَّهُ أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان .
ومن هذا المنطلق كان التأكيد في الشرع المقدّس على حفظ اللّسان كبيراً جداً، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام روايات كثيرة جداً في مدح الصمت وذمّ كثرة الكلام، وانعكس ذلك من خلال إفراد جمٍّ غفيرٍ من العلماء لبحوث مطوّلة حول آفات اللّسان، وفضيلة الصمت وحفظ اللّسان إلّا عن الخير والدعوة.
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّهُ قال: “إخْزِنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، فَإنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَيْطَانَ” ، وروي أنَّهُ جاء رجلٌ إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: “يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي،
فَقَالَ: احْفَظْ لِسَانَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، قَالَ: احْفَظْ لِسَانَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، قَالَ: احْفَظْ لِسَانَكَ… وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ؟” .