37)وهو سبحانه برأفته ورحمته لك ، لا يرضى لك إلا ذلك المكان الطيّب الطاهر ، فاقتضى ذلك شدة العناية الإلهية بإرشادك إلى أعلى الصفات ، وأكملها ، وأبهاها ، وأسناها.
فلم يرض منك إلا بأن تكون مقتدياً في الصفات التي لشرفها ، ورفعتها ، وجلالتها قد نسبها إليه عزّ وجلّ ، وأثنى بها على نفسه.
فمن يكون متصفاً بالصفات المنسوبة إليه ، يليق به أن يسكن في الدار المنسوبة إليه ، ولما كان جيرانه في تلك الدار أولياء الله ، ألزمه بأن يتصف بصفاتهم.
فعندها يخاطب الباري سبحانه نفسه ، التي طابت وطهرت بالاتصاف بتلك الصفات الطيّبة الطاهرة ، بقوله عز وجل : { يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية ، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } . الفجر/27 ..
وتلك الصفات كثيرةٌ ، إلا أنّ الإمام (ع) اختار منها ثلاثةً للاهتمام بشأن هذه الثلاثة ، حتى وصف الإيمان معلّقاً عليها.
فالأولى : كونه كاتماً لسرّه ، وذلك أنّ أغلب الخلق غالبٌ فيهم النقص وعدم الكمال ، ولكنّ صفات الكمال معلومةُ الحسن والجمال والشرفية ، بحيث أنهم يتمنونها لأنفسهم ، لكن لمخالفتها لهوى النفس الأمّارة ، وضعف همّتهم لمجاهدتها يتقاعدون عنها.
فإذا رأوا مَن له همّة الاتصاف بها يخافون أن يتصف بها ، فيفوقهم في ذلك ، والنفس لا ترضى بالانحطاط عن الأقران ، بل تريد التفوّق عليهم طبعاً ، فما دام يمكنهم يسعون كلّ السعي في منعه من ذلك بالأفعال ، والأقوال ، وبكلّ حيلةٍ .
والشخص الواحد لا قابلية له على مقاومة من لا يحصى عددهم ، فلم يجعل الشارع للمؤمن طريق خلاص من ذلك إلا بكتم سرّه ، وهو عدم إظهار ما هو بانٍ عليه ، فحينئذ يُكفَى من شرّ الخلق ، ولا ينقطع عليه الطريق.
فلما علم أهل البيت (ع) الأطباء الماهرون والحكماء المشفقون ، أنّ نفس هذا المؤمن الأمّارة بالسوء أيضا هي من جملة أعدائه ، وهي من جنس هؤلاء القطّاع للطريق ، رغّبوا المؤمن هذا الترغيب العظيم في كتم السرّ ، وبيّنوا له من صفات الربّ التي مدح بها نفسه ، وأنّ وصف الإيمان موقوفٌ على ذلك.
والمقصود رفع منازعة النفس ، وميلها إلى الإظهار ، فيتوسل إلى ذلك تارةً بأن فيه انتفاعاً لمن تظهره له ، وتارةً بقصد إدخال السرور عليه ، وتارةً بقصد الاستعانة بنظره لعل له نظراً في ذلك ، أو بدعائه ، أو لعله ينقله إلى مَن ينتفع به ، إلى غير ذلك من الرجحان للإظهار. (2)
________________________________________
(2)إشارات جميلة إلى صور تلبيس إبليس ، الذي عندما يئس من إيقاع العبد في الباطل المكشوف ، يلجأ إلى إسلوب تزيين الباطل بالحق .. ومن هنا كانت البصيرة الكاشفة عن هذا التزيين ، من لوازم السير الى الله تعالى، وهذا التزيين ممكن في كل مرحلة من مراحل السالك ، إلهاءً له بالمهم عن الأهم .. فكان لزاماً على العبد عند كل إقدام أو إحجام أن يدرس المحتملات الأخرى البديلة، ليكون اختيار الأفضل من بين الأفراد المتشابهة ، أقرب إلى العمل بالتكليف الواقعي ، الذي يستبطن مراد المولى واقعاً.( المحقق )
________________________________________