الرئيسية / من / قصص وعبر / ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي اسمُهُ أحمد – كمال السيد

ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي اسمُهُ أحمد – كمال السيد

03

العودة
ويعود محمّد إلى مكّة، ينوء بحمل الرسالات جسده الملتهب ينتفض، حتّى إذا التقى خديجة هتف:
ـ زَمِّلُوني… زَمِّلوني..
ورأت خديجة جبينَ زوجها العائد من الجبل مُضيئاً قد التمعت فيه حبّات العرق كقطرات الندى، مبهوراً بلحظة الاتّصال.. الاتّصال بين عالمَين.. عالم الطبيعة، وعالم ما وراء المحسوسات.. أو الشهادة والغيب.
قالت خديجة مأخوذةً بما سَمِعتْ:
ـ أبشِر يابنَ العمّ.. إنّي أرجو أن تكون نبياً.
وأوى محمّد إلى فراش دافئ، فيما انطلقت خديجة التي هزّتها المفاجأة إلى « وَرَقَة بن نوفل » (8).
هتف « ورقة »:
ـ قُدّوس قُدّوس.. لقد جاءه الناموسُ الأكبر الذي جاء موسى بنَ عِمران.

* * *

الإيمان
آمنت خديجة، فكانت أوّل أمرأة تعتنق رسالة السماء، لقد عاشت خديجة مع زوجها خمس عشرة سنة، عرفت روحه العظيمة التي تكاد تسع الدنيا، وعرفتْ أخلاقه الكريمة التي تسمو به على عالم الملائكة؛ لهذا آمنت به وشهدت أنّه رسول من الله إلى الناس كافّة.
إنّ للمرأة في قلب زوجها مكاناً، جزءاً من الروح لا يعرف الانفصال. مِن أجل هذا كانت أوّل انسان يبشّره الرسول بنبأ السماء.
وجاء عليّ، ذلك الفتى الذي لا يعرف في الدنيا سوى ابن عمّه محمّد.
ومحمّد لم يكن لعليّ ابن عمّ ولا حتّى أخ فحَسْب، بل كان له أباً ومعلّماً، أرأيتَ كيف يتّبع الفصيلُ اُمَّه، يشعر بالذُّعر إذا لم يكن قُربها، كذاك عليّ كان يتبع مُعلّمه في الحياة.
طالما انطلق معه إلى حراء في السنين الخوالي، يتعلّم من حركاته وسَكَناته ومن مَنطِقه وصمته دروساً وأيَّ دروس!
يقول مؤسس البلاغة في دنيا العرب:
« ولقد كنتُ أتّبعه اتّباعَ الفَصيل أَثَرَ أُمّه، يَرفَعُ لي في كلّ يومٍ من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يُجاور في كلّ سَنة بحِراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذ في الإسلام غيرَ رسول الله وخديجةَ وأنا ثالثُهما، أرى نورَ الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النُّبوّة. ولقد سمعت رَنّة الشيطان حين نزل الوحيُ عليه صلّى الله عليه وآله، فقلتُ: يا رسول الله، ما هذه الرَّنّة ؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته، إنّك تسمعُ ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لستَ بنبيّ ».
وقد قُدِّر لهذا الفتى أن يُواكب من تاريخ الإسلام أكثرَ الفصول إثارةً. حتّى أصبحَ رَمزاً من رُموزه الخالدة.
وتمرّ سبع سنين ليس على وجه الأرض سوى ثلاثة نفر يعبدون الله على دين الإسلام، دين إبراهيم.

* * *

فأس إبراهيم
إنّ للكلمة أحياناً فِعل الخوارق، مثلما تنفجر الصخور عن ينابيع الحياة، مثلما تنفجر الأرضُ الهامدة عن براكين غضب؛ يكون للكلمة شأن؛ ربّما تكون سيفاً بتّاراً، نهراً دفّاقاً، أجراساً ونواقيس، فأساً تحطّم وجوه الآلهة المزّيفة.
وهكذا قال محمّد صلّى الله عليه وآله: لا إله إلا الله.
وانخلعت قلوبُ الذين كَفروا، فمئات الآلهة في خطر، لقد جاء محمّد بدِين جديد.. إنّه يُسفِّه الآباء والأجداد.
إنّه خطر على آلهة قريش، وآلهة قريش عِبادة وتِجارة. وكان على أبي جهل، وأبي سفيان، وأُميّة بن خلف أن يتحرّكوا ما دامت مئات الآلهة المُحدِقة بالكعبة جامدةً لا تتحرك، لا تكفّ عن النظر ببَلاهةٍ إلى ما حولها ومَن حولها.

* * *

الشمس والقمر
كانت الشمس تتألقّ في الاُفق تغمر الكعبة بالنور، وقافلة قادمة من أرض اليمن تنحدر من التلال القريبة، وعَبيد منهمكون بإنجاز أعمال لأسيادهم؛ لهم بَشَرات مختلفة؛ هذا إفريقيّ وجهه يشبه لؤلؤة سوداء، وذاك قادم من أرض الروم، وذلك عربيّ الملامح.
لقد وُلدوا أحراراً ثمّ عصف بهم القَدَر.
كلّ شيءٍ بدا جامداً في مكانه جُمودَ الآلهة المحيطة بالكعبة، كلّ شيء كان ساكناً سكونَ المياه الآسنة في المستنقعات.
شيء واحد بدا يتحرّك، تحرّك النسغ في الأشجار يوم يطلّ الربيع.. قطرات مطر تتساقط فوق المياه الراكدة، فتُحيل السُّكونَ إلى دوائر متموّجة.
نسمة هواء تملأ الصدور ببشائر الحرّية.
نهض سادة قُريش وأثرياؤها، نهضوا غاضبين، فمحمد يهدد أمجادهم، آلهتَهم وكلَّ امتيازاتهم بالخطر.
بدا وجه أبي جهل مسودّاً من الحقد، والقلق يغمر وجه أبي سفيان، عندما دخل وفد قريش منزل أبي طالب.
كان المنزل على بساطته يمثّل قلعة المقاومة التي لجأ إليها محمّد صلّى الله عليه وآله.
العيون تُبرق حقداً ، وقد أحدق الرجال بأبي طالب؛ هَيْمَن صمتٌ مهيب. كان أبو طالب ينظر إليهم بودّ، ليدمّر عاصفة الحقد.
قال أبو جهل:
ـ لن نصبر على شتم آبائنا وعيب آلهتنا، فقل لابن أخيك لِيَكُفّ عنّا أو ننازله وايّاك حتّى يهلك أحد الفريقَين.
كان الوضع متأزّماً يُنذر بوقوع حرب أهلية لا تُبقي ولا تَذَر، وسوف تشتعل الحرائق، وتتحول الكعبة، إلى مسرح رهيب للقتال.
هكذا فكّر أبو طالب، فأراد أن يخفّف من توتّر الوضع.
دخل على النبيّ وقال:
ـ يابن أخي! أبقِ علَيّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أُطيق..
امتلأت عينا الرسول بالدُّموع.. سوف يُغادر هذه القلعة ليُقاتل وحدَه الذين كفروا، إنّهم لا ايمان لهم.
بكى من أجل عمّه، لقد شاء الله أن يحارب هذا الرجلُ في شيخوخته.. أن يُدافع عن رسالة السماء.. أن يقف بوجه شياطين الأرض:
قال رسول السماء:
ـ يا عمّاه! واللهِ لو وَضَعوا الشمسَ في يَميني، والقَمَرَ في شمالي على أن أتركَ هذا الأمر ما تركتُه أو أَهلِك دونه.
نهض النبيّ ليُغادر قلعةً عتيدة بدّدت عنه مشاعر اليُتم يومَ كان صغيراً، ومنحته السلام في زمن الخوف.
هتف الشيخ بابن أخيه:
ـ أُدنُ مني.
وطبع أبو طالب قُبلة دافئة على جبينٍ أزهر أضاءته السماء، وقال:
ـ اذهبْ يا بنَ أخي وقُل ما تشاء.. والله لا أُسْلِمُك لشيء أبداً..
ما تزال راية المقاومة تخفق فوق القلعة، وما يزال شيخ البطحاء قويّاً مهاباً لن يُزلزله عن موقفه أحد.

* * *

في رحاب البيت العتيق
الكعبة تنشر ظلالها الوارفة في المكان وقد بدت ذُرى التلال تتوقّد حُمرة في شمس الصباح، كان رسول الله جالساً وحدَه غارقاً في تأمّلاته، يفكّر، قد صنع من الصمت محراباً له يقيه شُرور العالم.
وكانت ثُلّة من زعامات قريش جالسين؛ يتصفحون وجوه الآلهة، التي بدت ذلك الصباح كائناتٍ خرافيّة تُحدّق ببلاهة.
قال عُتبة بن ربيعة وقد رأى محمّداً وحده:
ـ يا معشر قريش! ألا أقوم لمحمّد وأعرض عليه أموراً لعلّه يقبل بعضها ويكفّ عنّا.
هزّ الجالسون رؤوسهم بحماس:
ـ نعم يا أبا الوليد.
نهض عتبة وتقدّم نحو رسول السماء، جلس عنده بعد أن حيّاه تحية الصباح، وأقبل عليه يحدّثه بودّ:
ـ يابن أخي، إن كنتَ تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك مِن أموالنا حتّى تكونَ أكثرنا مالاً.
وإن كنتَ تريد شَرَفاً، سوّدناك علينا حتْى لا نقطع أمراً دونك. وإن كنت تريد مُلكاً، ملّكناك علينا.
غادر النبيّ محراب الصمت وقال:
ـ أفرِغتَ يا ابا الوليد ؟
ـ نعم يابن أخي.
ـ إسمع مني:
بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم
حم. تنزيلٌ من الرحمنِ الرحيم. كِتابٌ فُصِّلَت آياتُه قُرْآناً عَرَبيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمون. بَشيراً ونَذيراً فأعْرَضَ أكثَرُهُم فهم لا يَسمَعُون. وقَالوا قُلوبُنا في أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُوننا إلَيه وفي آذاننا وَقْرٌ ومِن بَيننا وبَينكَ حِجابٌ فاعْمَلْ… .
ما بال عتبة تغشى عينيه طُيوفٌ تعبر فيها الغيوم ! ما باله يبدو سَكرانَ لكأنّه يطير في عوالم بعيدة ! هل لهذه الكلمات التي تنساب كنهرٍ هادئ كلّ هذا السحر ؟!
الكلمات تتدفّق كنبع يتفجّر بالحياة:
ـ فإن أَعَرضُوا فقُلْ أنذَرتُكُم صاعِقَةً مِثلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمود .
دوّت الصواعق في أُذنَي عتبة، تجسّدت له مشاهد من قبائلَ غابرة عصفت بها الريح من كلّ مكان.
ـ فأَرسَلْنا عَلَيْهم رِيحاً صَرْصَراً في أيّامٍ نَحِسات لنُذيقَهم عذابَ الخِزي في الحياةِ الدُّنيا… .
ـ وأمّا ثَموَد فهَدَيْناهم فاستَحَبُّوا العَمَى على الهُدى فأَخَذَتْهُم صاعقةُ عَذابِ الهُون… .
اشتعلت الصواعق، ودوّت الرعود.. وأعقب ذلك يومٌ تُحشر فيه النفوس الآدميّة لترى جزاء أعمالها…
ما يزال عتبة مبهوراً مأخوذاً برَوعة البيان، بانسياب الكلمات، بدويّ المشاهد، انبعث في أعماقه نداء.. إنّه كلمات السماء، كلمات لا يمكن أن تكون من صنع بشر، كلمات رائعة أخّاذة، فيها سحر ورَوعة، فيها حلاوة وطَلاوة.
رسول الله يرسم المشاهد الخلاّبة:
ـ إنَّ الّذين قالُوا رَبُّنا اللهُ ثُمّ استقاموا تَتنزَّلُ عَلَيهِمُ الملائِكَةُ أَلاّ تَخافوا ولا تَحزَنوا وأَبْشِروا بالجَنّةِ التي كُنتم تُوعَدُون .
انبثقت جنّة من نخيل وأعناب، وارفة الظلال، فيها ما تشتهي الأنفس وتَلذّد الأعين..
ـ ومِن آياتِهِ الليلُ والنَّهارُ.. والشَمَسْ والقَمَرُ، لا تَسجُدوا للشمسِ ولا للقمر واسجُدوا للهِ الذي خَلَقَهُنّ إنْ كُنتُم ايّاه تَعبُدُون .
وهوى النبيّ ساجداً لله الذي خلق الشمس والقمر والكواكب والنجوم، ونهض أبو الوليد مسحوراً بالكلمات العجيبة، مأخوذاً بروعة البيان.
تمتم وهو يقصّ على أصحابه:
ـ لقد سمعتُ منه قولاً.. واللهِ ما سمعتُ مِثله قطّ، لم يكن شعراً ولكن فيه حلاوة الشعر، ولم يكن سِحراً ولكن فيه أثر السحر.
سكت قليلاً وأردف:
ـ أطيعوني يا معشر قريش.. خَلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه.. والله لَيكوننّ لقوله نبأ عظيم.

* * *

في الجانب الآخر من البحر
استنفدت قريش أساليبها في قهر محمّد صلّى الله عليه وآله، فالكلمات القادمة من وراء الأفلاك تطوف منازل مكّة، وتعبر أبنيتها، تُوقظ النائمين، تدلّهم على الفجر القادم من وراء آلاف الليالي المُترَعة بالظلام الحالك الثقيل.. كلمات لها تألّق الضوء، وشذى البنفسج، ونسمات الربيع.. أيّها النائمون انهضوا.. أيّها المقهورون هَلُمّوا هلمّوا.. إلى عالم الأمل والحرية.
بدت الآلهة حاقدة، ربما كان هُبَل أكثرها حقداً، فهو الذي يحرس قوافل قريش، ويملأ جيوب تجّارها ذهباً وفضة.
صعّد زعماء مكّة حربهم ضد المسلمين، السياط تنهال على الأجساد الآدميّة، والرمضاء تُنضج الجُلود، وما زال تجّار قريش هم أصحاب الأمر والنهي في هذه القرية الظالم أهلها.
اجتمع المسلمون في دار الأرقم، الحزن والعذاب يطلّ من العيون وآهات المُعذَّبين تملأ الفضاء.
قال رسول الله وقلبه يذوب حزناً:
ـ لو خرجتم إلى أرض الحبشة؛ فإنّ بها ملِكاً لا يُظلَم عنده أحد…
الحبشة أرض صدق… اخرجوا إليها حتّى يجعل الله لكم فَرَجاً ممّا أنتم فيه.
انفتحت كُوّة من ضياء و… نافذة من أمل…
ومع الخيوط الأُولى من فجر أحد أيّام رَجَب، كانت قافلة صغيرة تتسلل بحذر، تودّع مكّة أم القرى وما حولها صوب البحر الأحمر.
وشهدت تلك المسافات بين مكّة وشواطئ البحر قوافل عجيبة.. لا تحمل معها من متاع الدنيا شيئاً، إنّما زادها قلوبٌ مؤمنة وآمال ورديّة في حياة آمنة مطمئنة.
وكانت السفن في ميناء جدّة تحمل المهاجرين إلى أرض طيبة يحكمها نجاشيّ عادل لا يُظلَم في حضرته أحد.

* * *

سنوات الرماد
أعلنت قريش حرباً ضروساً.. حرباً لا هَوَادة فيها. فيها أسلحة لا تقلّ فَتْكاً عن السيوف والنِّصال والرماح.. الجوع.. والحصار.
كان أبو جهل متحمّساً لفكرة المقاطعة. إنّها سلاح قريش الذي لا يُقهر. لن يستطيع أبو طالب هذه المرّة الصمود. لن تُجديه المقاومة.
سوف يُسلّم محمّد نفسه ويستسلم، وعندها ستغفو الآلهة قريرةَ العين، وينام تجّار مكّة ناعمي البال.
وشهدت الكعبة مؤتمراً خطيراً تداولت فيه الرؤوس بُنود الحصار الشامل اقتصادياً واجتماعياً.
فلا علاقات مع بني هاشم، لا زواج ولا مُصاهَرة، لا بيع ولا شراء ولا كلّ شكل من أشكال العلاقات الانسانية، والثمن من وراء ذلك كلّه تسليم محمّد أو تكميم فمه.
قاد شيخ البطحاء قبيلته إلى الخيار المرّ.. إلى وادٍ غير ذي زرع.. إلى شِعْب بين الجبال.
وشوهد أبو طالب ذلك اليوم وهو يتفقّد الوادي مع أخيه حمزة لسدّ ثغرات في المكان، فقد يتسلل منها الغادرون لاغتيال محمّد صلّى الله عليه وآله.
لقد أضحى محمّد صلّى الله عليه وآله رمز التحدي.. القلب النابض الذي يخفق بالحياة والأمل. وتمرّ الايّام والشهور…
كان الجوع والحرمان يفعل فعله في الأجساد الآدمية.
كانت تجربة مريرة.. علّمت تلك القبيلة الصغيرة الصلابة والثبات. علّمتهم أشياء كثيرة، تعجز عن استيعابها الشعوب في ظلال الترف وحياة الدَّعة والخُمول.
وتمرّ الايّام والشهور، والوادي مُفعَم بروح الإيمان والصلابة والثبات، حتّى إذا اكتملت أعوام ثلاثة، بعث الله الأُرضة، تلتهم صحيفة الحصار، وتنسف بُنودَها الظالمة بنداً بنداً؛ فلم تترك أثراً إلاّ كلمة واحدة تنطوي في حناياها أسرار الوجود، وتفاصيل الكون: باسمكَ اللّهمّ. تلك الكلمة التي أورثها آدمُ الأجيال جيلاً بعد جيل.
وجاء رسول الله يحمل إلى عمّه البُشرى:
ـ يا عمّ! إنّ الله قد سلّط الأُرضة على صحيفة قريش..
وانطلق أبو طالب يتحدّى قريشاً، فهتف بايمان أثبتَ من الجبال:
ـ يا معشر قريش، إنّ ابن أخي قد أخبرني أنّ أُرضة قد أكلتْ صحيفتَكم، فمحت فيها الظلم وكلمات الغدر..
حتّى إذا دخل الرهط من قريش جَوف الكعبة، اتّسعت عيونهم دهشة؛ لقد قَهَرتْهم حشرة صغيرة.. مرّغت كبرياءهم في الوحل.

* * *

فَقْدُ الأحبّة غُربة
مرّت سنوات عشر، سنوات مثل الجمر، وفي ذلك العام خرج المحاصَرون من الوادي، بعد إلغاء صحيفة المقاطعة، خرج رسول الله والذين آمنوا، خرج أبو طالب، وقد هدّته السنون والأيّام؛ وعاد الصغار يلعبون في شوارع مكة وأزقّتها، وخرجت خديجة وهي تنظر إلى زوجها الصبور نظرات فيها حبّ ووداع ورحيل وَشيك.
وشعر أبو طالب هو الآخر أنّه يقترب من النهاية.. نهاية كلّ الحيوات؛ فأراد أن يطمئنّ على مصير محمّد ذِكرى الحبيب الراحل « عبدالله »، فدعا زعماء قريش وسادتها، حتّى إذا أحدقوا به من كلّ صوب وهو في فراش الموت، قال:
ـ لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمّد واتّبعتم أمره، فأطيعوه تنالوا السعادة في دُنياكم وأُخراكم.
كانت الآذان صمّاء صمّاء لا تفقه شيئاًً من كلمات رجل على وشك الرحيل.
وتمرّ الأيّام ثقيلة قلقة، كان أبو طالب فيها يودّع دنياه الفانية، فجمع أفراد قبيلته حوله وأوصاهم بالدفاع عن محمّد ورسالته حتّى النهاية.
وأغمض أبو طالب عينيه، ودّع العالم المشحون بالحوادث ليرحل إلى عوالم بعيدة تزخر بالسعادة والسلام.
وشعر رسول الله بصرير العاصفة، لقد انهار السدّ العظيم؛ السدّ الذي حماه سِنينَ طويلة، وها هي السيول تنطلق من سلاسلها لتجتاح الحقل الأخضر.
نظر النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى عمّه مُغمض العينَين؛ اشتعلت في أعماقه الذكريات، فتمتم بحزن:
ـ رحمك الله يا عمّ، ربّيتَني صغيراً، وكفلتَني يتيماً، ونصرتَني كبيراً.
تذكّر يوم كان صبياً في الثامنة، وكان أبوطالب قد استوى على ناقته يُريد الشام في تجارة، وتذكّر كلماته وهو يبكي:
ـ إلى مَن تَكِلني ولا أب لي ولا اُمّ ؟
ورأى عمّه يبكي.. يبكي بمرارة وهو يقول:
ـ والله لا أكِلك إلى غيري.
واعتنقه ليبكيا معاً. ثمّ أردفه على ناقته التي راحت تقطع الصحاري والبوادي.
تذكّر أيّام المحنة والحصار… وها هو الآن راقد في فراشه يتحدّث بلغة الصمت.. لغة لا يفهمها إلاّ الأنبياء.
وبكى رسول الله.. بكى أيّام الماضي والحاضر والمستقبل..

شاهد أيضاً

قصيدة تلقى قبل أذان الصبح في حضرة الإمام الحسين عليه السلام في شهر رمضان المبارك

  أشرب الماءَ وعجّل قبل َأن يأتي الصباح  أشربَ الماءَ هنيئا أنهُ ماءٌ مباح أشربَ ...