الكذب في مراثي الإمام الحسين
(فالأول منها(1): الكذب بذكر الأمور المكذوبة المعلوم كذبها(2)، وعدم وجودها في خبر، ولا نقلها في كتاب، وهي تتلى على المنابر وفي المحافل بكرة وعشياً، ولا رادع(3) وسنذكر طرفاً منها في طي كلماتنا الآتية).
انتهى في الصفحة الثالثة.
وذكر في الصفحة الثالثة عشرة شطراً من الأخبار المكذوبة – بزعمه – منها: حديث (أين ظلّت مطيّتك يا حسان)، وحديث (خرجت أتفقد الثنايا والعقبات)، وحديث الطائر الذي أعلم بنت الحسين (عليه السلام) بقتله، وحديث دفن السجاد لأبيه مع بني أسد، وغيرها.
وأنا لا أريد تفنيد رأيه في بعض ما رمز إليه، ولكن لأنبّهه على أمور:
تعريف الكذب المحرم:
الأول: إنّ كذب القارئ هو أن يقرأ من تلقاء نفسه كلاماً زوّر معناه، وصاغ ألفاظه، ونسبه إلى غيره، من دون أن ترد به رواية – ولو مرسلة – ولا أدرج في كتاب معتبر.
وأما نقله للكذب فهو أن يقرأ كلاماً زوّره غيره وافتعله، مع علمه بذلك أو ظنه.
ولا ريب أن أحداً من قرّاء تعزية سيد الشهداء (عليه السلام) حتى الأصاغر وغير أهل الورع منهم لم يزوّر خبراً من نفسه، وإنما ينقل عن غيره من نقلة الحديث الموثوق بهم، غير المعلوم عنده كذب حديثهم، وعهدة مثل هذا الحديث على راويه، لا على ناقل روايته. فإذاً ليس هو بكاذب، وإن كان المقروء كذباً واقعاً، ولا ناقلاً لما هو معلوم الكذب.
وعسى أن يكون هذا هو السبب في عدم إنكار أحد من العلماء – قديماً وحديثاً – شيئاً من الأخبار التي تتلى على المنابر وفي المحافل بكرة وعشيّاً – كما يعترف به الكاتب -، ولو كانوا يرون ذلك كذباً لأنكروه، لكنهم أجلّ من أن ينكروا ما تقضي عليهم القواعد بعدم كونه كذباً، ولا مننقل الكذب.
التسامح في نقل أخبار القصص والفضائل والوقائع
الثاني: إنّ وقائع الطف وما احتفّ بها وما سواها مما يقرأه الذاكرون لم تتضمن أحكاماً إلزامية لينظر في سندها ويعرف أنّه من قسم الصحيح أو الموثق أو الحسن، ولا حكماً غير إلزامي ليقع الكلام في تحكيم أخبار التسامح في أدلة السنن فيها – كما هو المشهور – أو عدمه – كما هو مذهب بعض -، بل هي قسم ثالث من سنخ الرّخص، وإن لم تكن رخصاً حقيقة، وأعني بذلك القصص والمواعظ والفضائل والمصائب وأخبار الوقائع، فإنها نوع من الأخبار لا تدخل في ما تضمّن الأحكام الشرعية ليجري عليها حكمه من لزوم التصحيح وجواز المسامحة. وما يكون كذلك مما لا يترتب عليه حكم شرعي، لا ينبغي النظر في سنده إذا كان مما لا تنفيه فطرة العقول، وكان الضرر فيه مأموناً على تقدير كذبه في نفس الأمر.
وقد ادّعى الشهيد الأول (قدس سره) في (الذكرى) أنّ أهل العلم يتسامحون في أخبار الفضائل (4). ونسب الشهيد الثاني في (شرح الدراية). إلى الأكثر جواز العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ والفضائل، واستحسن ذلك ما لم يبلغ الخبر في الضعف حد الوضع والاختلاق(5). والمراد بالعمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب، وذلك مما لا محذور فيه عقلاً، لفرض أمن المضرّة فيه على تقدير الكذب، وشرعاً لأنه لا يعدّ عرفاً من الكذب حتى تترتب عليه أحكامه، وليس ثمّة عنوان آخر من العناوين المحرمة يشمله حتى يقال لأجله بعدم الجواز.
قال شيخنا المحقق الأنصاري(6)- بعد نقل العبارة المتقدمة عن الشهيد الثاني -: (المراد بالعمل بالخبر الضعيف(7) في القصص والمواعظ هو نقلها واستماعها وضبطها في القلب وترتيب الآثار عليها عدا ما يتعلق بالواجب والحرام. والحاصل أن العمل بكل شيء على حسب ذلك الشيء، وهذا أمر وجداني لا ينكر، ويدخل في ذلك [حكاية] فضائل أهل البيت ومصائبهم. ويدخل في العمل – أي: العمل بالخبر الضعيف في الفضائل والمصائب وشبهها – الإخبار(8) بوقوعها – أي: الفضائل والمصائب – من دون نسبة إلى الحكاية(9) على حد الاجتهاد بالأمور المذكورة الواردة بالطرق المعتمدة، كأن يقال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول كذا، ويبكي كذا، ونزل على مولانا سيد الشهداء كذا وكذا، ولا يجوز ذلك في الأخبار الكاذبة، وإن كان يجوز حكايتها فإنّ حكاية الخبر الكاذب ليست كذباً، مع أنّه لا يبعد عدم الجواز إلاّ مع بيان كونها كاذبة.
ثم إن الدليل(10) على جواز ما ذكرنا من طريق العقل، حسن العمل بهذه مع أمن المضرة فيها على تقدير الكذب، وأما من طريق النقل فرواية ابن طاووس(11) والنبوي(12) مضافاً إلى إجماع (الذكرى)(13) المعتضد بحكاية ذلك عن الأكثر)(14). انتهى كلام المحقق الأنصاري بنصه.
ومن هذا يعلم الوجه في ما جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً من العمل – بالمعنى الذي ذكرناه – بالوقائع التاريخية، فإنها لم يصح السند في شيء منها، وإنما ترسل في كتب التاريخ مسلّمة، ولذلك إذا نقل المؤرخ في كتابه واقعة منها، لا يقال إنّها من الأمور المكذوبة، لأنه لم يسندها معنعنة إلى من شهد تلك الواقعة، وكذلك إذا نقل الواقعة نفسها ناقل من ذلك الكتاب، لا يعدّ من ناقلي الكذب لمجرد أنه نقل ما ليس مسنداً عن رجال قد زكّي كل واحد منهم بشهادة عدل أو عدلين.
الإرسال في أخبار وقائع الطف:
الثالث: إنّ وقائع الطف لم تصل إلينا – حتى التي تلقيناها بواسطة المفيد والشيخ والسيد وأضرابهم – إلا مرسلة، وأكثر ما يرسل المؤرخون وأوثقهم ابن جرير الطبري عن أبي مخنف، وهو لم يحضر الواقعة وكذلك غيره. وكثيراً ما اعتمدوا في النقل على هلال بن نافع وحميد بن مسلم وهلال بن معاوية وغيرهم ممن شهد حرب الحسين (عليه السلام) وكان مقاتلاً له.
وأيّ فرق – غير اختلاف مراتب الوثوق – بين ما ينقله المفيد ويرسله السيّد، وبين قوله في (البحار) وغيره من الجوامع (روي مرسلاً) أو (روى بعض الثقات) أو (روى بعض أصحابنا) أو (روي في بعض الكتب القديمة) أو (روي في بعض الكتب المعتبرة) وشبه ذلك من العبائر؟!
أم أيّ فرق – غير ذلك – بين ما تضمنته تلك العبارات، وبين ما يوجد في كتاب العالم الفاضل الأديب الشيخ حسن بن الشيخ علي السعدي، الكنّى بـ(أبي قفطان)(15) من مراسيل تلقاها من مشايخ أهل الكوفة وصاغ لها ألفاظاً من نفسه، وما القصور الذي يكون فيها بحيث تنحطّ عن درجة سائر المراسيل الموجودة في (المنتخب) وفي (الدمعة الساكبة) إلى حيث تسقط عن درجة الاعتبار من رأس؟ وإذا كان القارئ – على ما قلناه – نقل مضمون تلك المراسيل المروية في تلك الكتب، لا يكون كاذباً البتة، ولا ناقلاً لما هو معلوم الكذب، فما هو إذاً معنى قول الكاتب – مشيراً إلى ما يقرأه – الذاكرون من الأخبار – إنّها معلومة الكذب؟!
من ذا يا ترى – غير عالم الغيب – يعلم أنّ الأخبار مكذوبة. نعم إنّ تلك الأخبار غير معلومة الصدق، وهكذا جميع الأخبار بلا استثناء، وشتان بين معلوم الكذب وبين غير معلوم الصدق. ولو لزم الناس أن لا ينقل أحد منهم إلا الصادق أو معلوم الصدق – ولو بالطرق الظاهرية المعروفة في كتب الأصول والحديث – لانسدّ باب نقل الأخبار، وبطل الاحتجاج بأقوال المؤرخين، وذلك ما لا يلتزم به عالم ولا جاهل.
ولو أن الكاتب – سامحه الله – توسط في الأمر، فتوقف في الأخبار المزعوم كذبها، وردّ علمها إلى قائلها، لكان أدنى للحزم وأقرب إلى ما جاء عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من (إن حق الله على العباد أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عندما لا يعلمون)(16) وأنّه إذا جاءهم من يقول للّيل إنّه نهار، وللنهار إنّه ليل، لا يسعهم إلاّ ردُّ علمه إليهم، وإلاّ فإنه يكون مكذّباً لهم(17). وعن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام): (لا تكذبوا بحديث أتاكم به أحد، فإنكم لا تدرون لعلّه من الحق)(18). وعن علي المسناني عن أبي الحسين (عليه السلام): (لا تقل لما بلغك عنا، أو نسب إلينا: هذا باطل، وإن كنت تعرف خلافه(19) (20).