لكن ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، فإنّنا إذا نظرنا نظر التدبّرإلى خصوصيات الشريعة الاسلامية، بل جميع الملل الالهية، وجدنا أنّ المقصود فيها، هو صرف وجه الانسان إلى ما وراء هذه النشأة الطبيعية والمادية. والناس من حيث درجات الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، والاعراض عن هذه النشأة الدنيوية، على ثلاث طبقات:
« الطبقة الاولى : إنسان تام الاستعداد ، يمكنه الانقطاع قلباًعن هذه النشأة، مع تمام الايقان باللازم من المعارف الالهية، والتخلّص إلى الحقّ سبحانه وهذا هو الذي يمكنه شهود ما وراء هذه النشأة المادّية، والاشراف على الانوار الالهية، كالانبياء عليهم السلام»( [141]).
وهؤلاء هم الذين عبّر عنهم القرآن الكريم بقوله تعالى:
(كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ)( [142]). والظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة، رؤية البصيرة، وهي رؤية القلب، على ما يشير إليه قوله تعالى: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)( [143]). وهذه هي طبقة المقرّبين.
«الطبقة الثانية: إنسان تامّ الايقان، غير تام الانقطاع من جهة ورود هيئات نفسانية وإذعانات قاصرة، تؤيسه أن يذعن بإمكان التخلّص إلى ما وراء هذه النشأة المادّية، وهو فيها . فهذه طبقة تعبد الله كأنّها تراه، فهي تعبد عن صدق من غير لعب، لكن من وراء حجاب إيماناً بالغيب، وهم المحسنون في عملهم. وقد سُئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن الاحسان، فقال: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»( [144]).
والفرق بين هذه الطبقة وسابقتها، فرق ما بين «إنّ» و«كأنّ». وهذا مقام الخلّص من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله). عن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا عبدالله الصادق (عليه السلام) يقول: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق برأسه( [145]) مصفرّاً لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه.
فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): كيف أصبحت يا فلان؟
قال: أصبحت يا رسول الله مؤمناً موقناً.
فعجب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قوله (فقد أخبر بشيء نادر الوقوع) وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما هي حقيقة يقينك؟
فقال: إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي، وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون، وعلى الارائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار، وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي.
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لاصحابه، هذا عبدٌ نوّر الله قلبه بالايمان، ثمّ قال له: الزم ما أنت عليه.
فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن اُرزق الشهادة معك. فدعا له رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي (صلّى الله عليه وآله) فاستشهد بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر»( [146]).
وهذه الطبقة هم الذين وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة بخطبة همّام، حيث قال: «فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نُزّلت أنفسهم منهم في البلاء، كالتي نُزِّلت في الرخاء. ولولا الاجل الذي كتب الله عليهم، لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طَرفة عين، شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذَّبون.
قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أيّاماً قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة، يسّرها لهم ربّهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم فَفَدوا أنفسهم منها.
أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لاجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم»( [147]).
«الطبقة الثالثة: غير أهل الطبقتين الاوليين من سائر الناس وعامّتهم. وهذه الطائفة باستثناء المعاند والمكابر والجاحد، طائفة يمكنها الاعتقاد بالعقائد الحقّة الراجعة إلى المبدأ والمعاد، والجريان عملاً على طبقها في الجملة لا بالجملة. وذلك من جهة الاخلاد إلى الارض واتباع الهوى وحبّ الدنيا، فإنّ حبّ الدنياوزخارفها يوجب الاشتغال بها، وكونها هي المقصودة من حركات الانسان وسكناته. وذلك يوجب انصراف النفس إليها، وقصر الهمّة عليها، والغفلة عمّا وراءها، وعمّا توجبه الاعتقادات الحقّة من الاحوال والاعمال، وذلك يوجب ركودها ووقوفها ـ أعني الاعتقادات الحقّة ـ على حالها، من غير تأثير لها وفعلية للوازمها، وجمود الاعمال والمجاهدات البدنية على ظاهر نفسها وأجسادها، من غير سريان أحوالها وأحكامها إلى القلب، وفعلية لوازمها، وهذا من الوضوح بمكان.
مثال ذلك: أنّنا لو حضرنا عند ملك من الملوك، وجدنا من تغيّر حالنا وسراية ذلك إلى أعمالنا البدنية، من حضور القلب والخشوع والخضوع ما لا نجده في الصلاة البتة، وقد حضرنا فيها عند ربّ العالمين. ولو أشرف على شخصنا ملك من الملوك، وجدنا ما لا نجده في أنفسنا، ونحن نعتقد أنّ الله سبحانه يرى ويسمع، وأنّه أقرب إلينا من حبل الوريد، ونعتمد على الاسباب العادية التي تخطئ وتصيب، اعتماداً لا نجد شيئاً منه في أنفسنا، ونحن نعتقد أنّ الامر بيد الله سبحانه، يفعل ما يشاء ويحكم مايريد.
ونركن إلى وعد إنسان أو عمل سبب، ما لا نركن جزءاً من ألف جزء منه إلى مواعيد الله سبحانه، فيما بعد الموت والحشر والنشر، وأمثال هذه التناقضات لا تحصى في اعتقاداتنا وأعمالنا، وكلّ ذلك من جهة الركون إلى الدنيا.
وهذه الطائفة لا يمكنها الانقطاع إلى الله سبحانه، أزيد من الاعتقادات الحقّة الاجمالية، ونفس أجساد الاعمال البدنية التي توجب توجّهاً ما وقصداً ما في الجملة إلى المبدأ سبحانه في العبادات.
ومن هنا يتبيّن أنّ تربية الطبقات الثلاثة، ليس على حدّ سواء، بل هناك أمور مشتركة ومختصّة، فالمشتركة هي الاحكام النظرية والعملية العامّة، التي لا يمكن إهمالها بالنسبة إلى طبقة من الطبقات، من الواجبات والمحرّمات. أمّا المختصّة، فهي التي توجد في الاولى مثلاً، ولا توجد في الثالثة، فربّ مباح أو مستحبّ أو مكروه بالنسبة إلى الثالثة، هو واجب أو محرّم بالنسبة إلى الاولى، فحسنات الابرار سيّئات المقرّبين. من هنا فإنّ هذه الطبقة تختصّ بأمور وأحكام غير موجودة في الثانية والثالثة، ولا غير هذه الطبقة تكاد تفهم شيئاً من تلك المختصّات ولا يهتدي إلى طريق تعليمها. وذلك كلّه لمكان ميز طبقتهم وأساسها المحبّة الالهية دون محبّة النفس، فالفرق بينها وبين الآخريْن في نحو العلم والادراك، دون قوّته وضعفه وتأثيره وعدمه»( [148]).
شاهد أيضاً
التقوى في القرآن الكريم – مراتب التقوى
من الحقائق التي أشار إليها القرآن الكريم، أنّ التقوى لها مراتب متعدّدة، قال تعالى: (اتَّقُوا ...