الرئيسية / الاسلام والحياة / التقوى في القرآن الكريم – دور العلل الطبيعية في وجود الحوادث الكونية

التقوى في القرآن الكريم – دور العلل الطبيعية في وجود الحوادث الكونية

هنا قد يقال: إنّه إذا كانت أعمال الانسان من خير وشرّ، هي السبب في وجود البلايا والمصائب والمحن التي تصيب الانسان، سواء منها ما كان يعود إلى الانسان، كوقوع الحروب وارتفاع الامن، أو لا يعود إليه، كاختلال الاوضاع الجويّة والارضية، وما يصاحبها من الزلازل والامطار المخرّبة ونحوها، فهذا معناه إبطال دور العوامل والاسباب الطبيعية في وجود تلك الحوادث، وهذا ما لا يمكن قبوله لا عقلاً ولا تجربة، بل هو مخالف لظاهر جملة من الآيات الواردة في المقام.
الجواب عن ذلك: أنّ هذا الكلام ناشئ عن سوء فهم وعدم تدبّر في الحقائق القرآنية، فإنّ القائلين بأنّ الاعمال حسنة كانت أو سيّئة هي التي تستتبع من الحوادث ما يناسبها ويسانخها خيراً أو شرّاً، لا يريدون بقولهم «إبطال العلل الطبيعية وإنكار تأثيرها، ولا تشريك الاعمال الانسانية مع العوامل المادية (بنحو يكون لكلّ منهما جزء التأثير) كما أنّ الالهيين لا يريدون بإثبات الصانع، إبطال قانون العلّية والمعلولية العام، وإثبات الاتفاق والصدفة في الوجود، أو تشريك الصانع مع العلل الطبيعية، واستناد بعض الامور إليه تعالى، والبعض الآخر إلى تلك العلل.
بل مرادهم إثبات علّة في طول علّة، وعامل معنوي فوق العوامل المادية، وإسناد التأثير إلى كلتا العلّتين، لكن بالترتيب»( [278]).
وهذا من قبيل ما ذكره القرآن الكريم من إسناد التدبير إلى الله تعالى تارةً حيث قال: (يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الاَْرْضِ)( [279])، وإسناد التدبير إلى الملائكة أخرى: (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً)( [280])، أو نسب التوفّي إلى الله تعالى مرّة (اللهُ يَتَوَفَّى الاَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)( [281]) وإلى ملك الموت أخرى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)( [282])، وإلى الرسل وهم الملائكة ثالثة: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)( [283]).
فإنّ مثل هذه الاسنادات المتعدّدة في الموضوع الواحد ـ وله نظائر كثيرة في القرآن ـ ليست عَرْضية، وإنّما هي طولية، بمعنى أنّ السبب القريب سبب للحادث ، والسبب البعيد سبب للسبب . ويمكن تقريب هذه الحقيقة، أعني السببية الطولية من خلال مثال حسّي، «وهي الكتابة التي يكتبها الانسان بيده وبالقلم، فللكتابة استناد إلى القلم، ثمّ إلى اليد التي توصّلت إلى الكتابة بالقلم، وإلى الانسان الذي توصّل إليها باليد وبالقلم، والسبب بحقيقة معناه هو الانسان المستقل بالسببية، من غير أن ينافي بسببيته استناد الكتابة بوجه إلى اليد والقلم»( [284]).
وإلاّ فإنّ القرآن كما يثبت استناد الحوادث إلى أسبابها المادية والطبيعية، كذلك يصدق استنادها إلى الملائكة، ومن الواضح أنّه ليس لشيء من هذه الاسباب الطولية استقلال قباله تعالى، بنحو إذا استند إلى غيره سبحانه، يكون مانعاً من الاستناد إلى السبب الحقيقي الذي من ورائها (وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)( [285])، «على ما يقول به الوثنية من تفويضه تعالى تدبير الامر إلى الملائكة المقرّبين، فالتوحيد القرآني ينفي الاستقلال عن كلّ شيء من كلّ جهة (لاَ يَمْلِكُونَ لاَِنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً)( [286])»( [287]).
كذلك في المقام، فإن استناد الحوادث إلى عللها الطبيعية، لا يمنع من استنادها إلى أسباب معنوية مرتبطة بأفعال الانسان، في طول هذه العلل، ولا ينافي توسط هذه الاسباب الطولية في إيجاد تلك الحوادث، من أن تستند إليه تعالى، لانّه السبب الوحيد لها جميعاً، على ما يقتضيه توحيد الربوبية.

شاهد أيضاً

اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم

11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...