بسم الله الرحمن الرحيم
سنبحث باختصار عن عوامل التربية وكسب الأخلاق الصحيحة من وجهة نظر الإسلام.
وأول هذه العوامل التي أهتم بها الدين الإسلامي، التعقل والتفكر والتعلم، وهنا ذكرناه تحت عنوان (الغايات والأهداف) التعقل والتفكر من أجل الإنارة، أي ما له حكم المصباح بالنسبة إلى الإنسان، وقد مر البحث حول هذا العامل.
العامل الثاني: الذي أكده الإسلام كثيراً هو التقوى وتزكية النفس، وقد صرح بذلك في القرآن الكريم نفسه، إن التقوى والتزكية تستوجب تنمية إرادة الإنسان وتجعل الإرادة مستعدة للعمل، أي أن الإستثارة وحدها غير كافية، ما لم تحصل الإنارة والقدرة على العمل، إن التقوى والتزكية تمد إرادة الإنسان الخلقية بالقدرة على العمل، وهي قد توجب أيضاً بشكل محدود في العقائد غير المذهبية، إلا أنها ليست بالشكل الموجود في العقائد المذهبية.
العامل الثالث: والذي عقدنا البحث له بشكل رئيس، هو مسألة العبادة بعنوان أنها عامل للتربية وكسب الأخلاق الفاضلة، فكما أن التفكر والتعقل كان لأجل استنارة الفكر في القوة العاقلة، والتقوى والتزكية كانت لأجل تقوية إرادة الإنسان، أي كما أن الإيمان منشأ، للعبادة، فالعبادة أيضاً تقوي الإيمان، وقد صرح بهذه الفكرة كثيراً في النصوص الإسلامية، أي التأثير المتبادل بين الإيمان والعمل، فالإيمان يكون مدعاة للعمل، والعمل الذي ينبعث من الإيمان يكون منشأ لتقوية الإيمان.
روح العبادة
قلنا مراراً: ان روح العبادة هي التذكر، أي ذكر الله والخروج من الغفلة عنه، قال تعالى: (وأقم الصلاة لذكري)، (سورة طه، الآية: 14). وفي آية أخرى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر). (سورة العنكبوت، الآية: 45).
إن العبادة من أجل التذكير، قد أوصي بها كثيراً في الإسلام بما هي فريضة ونافلة، وقد حارب الإسلام ما يسبب الغفلة ويقضي على روح العبادة، أي التذكر، ومنع عنه بشكل (إما مكروه وأما حرام) كالإفراط في الأكل أو التكلم ومعاشرة الناس أو النوم، وقد يرجع بعض هذه الأمور، كالأمر بعدم الإكثار من الأكل إلى علل صحية أيضاً، أي أن المراد منه هو الحفاظ على الصحة ولكن الصحة ليست مراده وحدها قطعاً.
شكل العبادة والبرامج التربوية
مع أن روح العبادة هي إرتباط العبد بربه وكسر حاجز الغفلة، والالتفات إلى الله، إلا أن النكتة الملفتة للنظر هي أن الإسلام قد أعطى شكلاً للعبادة، أولاه أهمية كبيرة، وقد أدخل في هذا الشكل أيضاً مجموعة من البرامج التربوية على هيئة العبادة، مثلاً أنه عندما يراد لقلب الإنسان أن يكون ملتفتاً إلى الله، فما الفرق في كون الجسد طاهراً أم لا؟ إن الله ينظر إلى قلوبكم ولا ينظر إلى صوركم. نحن لا نريد الذهاب إلى ربنا بأبداننا، بل نريد الذهاب إليه بقلوبنا، فلابد أن يكون قلبنا طاهراً، إلا أن الإسلام عندما يشرع العبادة بما أنه يريد أن يكون للعبادة على الخصوص أثر خاص من وجهة نظر تربوية، فإنه يأمر أيضاً بالشيء الذي لا يرتبط كثيراً بالعبادة إلا أنه يؤثر في التربية والتعليم، ويصبه في قالب العبادة ـ واجبة أو مستحبة ـ ويجعله في ضمنها، كمسألة الغسل والوضوء والكون على طهارة دائماً ـ وهي احدى السنن الإسلامية.
يقول الإسلام: عندما تقف للصلاة لابد أن يكون جسمك وثوبك طاهرين، إنه برنامج تربوي ضمن العبادة.
العبادة والحقوق الإجتماعية
المسألة الأخرى هي مسألة الحقوق، بحسب روح العبادة لا يختلف الأمر بين أن يجلس على سجادة مغصوبة أو مباحة، فإن كون هذه سجادتي وتلك سجادتك، وأن لا تتصرف في ملكي وأن لا أتصرف في ملكك، يقع ضمن العقود المفيدة في الحياة الاجتماعية، وإلا فكون هذه سجادتي لا يجعل لها كيفية واقعية ولو كانت لك لكانت بكيفية واقعية أخرى، إن مسألة أمر واقعي، هو الحالة والعلقة الروحية المنعقدة بين الإنسان وربه، ومثل تلك الأمور لا يمكنها أن تؤثر في العبادة، نعم بعض الأمور تؤثر فمثلاً أصيب الإنسان ببعض العوارض الروحية والجسدية، فإن العبادة سوف تتلاشى، وهذه العوارض ستمنع من حضور القلب، إلا أن الأمور المذكورة ليس لها مثل هذا الأثر، ومع ذلك يقول الإسلام: يجب في المكان الذي يصلى فيه والماء الذي يتوضأ به وحتى ذلك الوعاء الذي فيه ماء الوضوء والثوب الذي يصلي فيه وكل ما له ربط بعملك هذا يجب أن يكون مباحاً، أي غير محرم، وحتى لو كان في ثيابك خيط واحد مغصوباً فإن عبادتك غير مقبولة، هذه أيضاً اطروحة لبرنامج تربوي يتعلق بالحقوق الاجتماعية في إطار العبادة، إذ لو يجعل هذا شرطاً في العبادة فسوف لا تتأثر العبادة من جهة كونها عبادة.
الصلاة واستقبال القبلة
المسألة الأخرى (وفيها نمثل بالصلاة أيضاً) هي أن الإسلام يقول: عندما تصلي توجه إلى القبلة، مع أن الإسلام نفسه يصرح بأنه بالنظر إلى واقع العبادة لا يختلف الأمر في الجهة التي تتجه نحوها (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)، (سورة البقرة، الآية: 115). أي ليس الأمر هو أننا إذا توجهنا نحو الكعبة فقد واجهنا الله، وإذا اتجهنا باتجاه معاكس فسوف لا نواجه الله، ولكن مع ذلك نجد الإسلام من أجل مصلحة تربوية اجتماعية لا تتوقف عليها روح العبادة يقول: بدل أن تتوجه إلى جميع الجهات في الصلاة التي تصليها يتعين عليك ان تصلي إلى جهة واحدة، ليفهم الناس أنه ينبغي عليهم أن تكون لهم جهة واحدة في معاملاتهم، أي أنه درس تربوي في الوحدة والإتحاد، والكون على جهة واحدة متساوية عند الله إلا أنه يقول أيضاً: (إن أول بيت وضع للناس للذي بمكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم). (سورة آل عمران، الآيتان: 96 ـ 97).
إن هذا الإختيار نفسه يعد احتراماً للعبادة، وتأكيداً لأهميتها، بحيث أن أول نقطة في العالم اتخذت للعبادة، يجب الآن أيضاً أن يكون هو موضع إتجاه الناس في عبادتهم.
في كتابنا (الخدمات المتبادلة بين إيران والإسلام) ذكرنا مسألة تقديس النار عند الزرادشتيين منذ قديم الزمان يعني قبل ألف سنة في مجلس المباحثة تلك التي كانت تنعقد ـ وخاصة في عصر المأمون وبعده ـ وعندما كان المسلمون يعترضون على الزرادشتيين بسبب عبادتهم للنار، كانوا يقومون بتوجيه عملهم، وأحياناً يقولون: لو كنا عبدة النار لكنتم أيضاً عبدة التراب لأنكم تقفون إلى الكعبة، ويقولون أحياناً: إننا لسنا عبدة نار كما انكم لستم عبدة تراب، فنحن نقف باتجاه النار لا لكي نعبدها، إن هذا الكلام غير صحيح بصورة كلية، فإن الشعور الذي يكون لدى المسلم تجاه الكعبة والإحساس الذي يكون لدى الزرادشتيين تجاه النار كلاهما ناشئ من التعاليم التي جاءت بها النصوص الدينية، وهي تختلف اختلافاً كبيراً، ان الفرد المسلم عندما يتجه إلى الكعبة لا يشعر أبداً أنه يقدس الكعبة، بل لا يتطرق حتى إلى ذهن الطفل عند الركوع والسجود إنه يعظم الكعبة، إلا أن كل عابد للنار إنما يعبدها بأي نحو كانت عبادته، سواء على أنها مظهر لله أو أي عنوان آخر، انهم لا يرون النار خالقة، فحتى الوثنيين لا يرون أصنامهم خالقة إلا أنهم يقدسونها، وعابد النار يقدسها أيضاً.
على كل حال إن الأمر بتوجه الجميع في الصلاة على جهة واحدة يعد نوعاً من اعطاء المضمون للعبادة، ان روح العبادة أمر مجرد بحيث لو أن الإنسان اختلى في زاوية يذكر فيها الله سوف تحصل له تلك الروح، ولكن الإسلام لا يرتضي هذه العبادة، هذا مضافاً إلى أن الإشكال المختلفة من الركوع والسجود لها تأثير بلحاظ ذلك التذكر، أي أن كل حالة تمثل خضوعاً وخشوعاً في حضرة الباري تعالى. أراد الإسلام أن يجعل هذه الروح في ثوب سلسلة من الأمور التربوية الأخرى التي يراها ضرورية للحياة.
التدريب على ضبط النفس
من أبرز الخصائص التي أولاها الإسلام أهمية في مجال العبادات مسألة التدريب على ضبط النفس عند أداء العبادة، إن الصلاة حقاً عبادة جامعة وعجيبة، وهذه الخصوصية موجودة أيضاً في الحج، ولكن بنحو آخر، فعندما يحرم الإنسان للحج يقوم بضبط نفسه ومنعها من ممارسة بعض الأمور ونجد الأمر نفسه في الصيام أيضاً.
طيلة مدة الصلاة يجب الإمتناع عن الأكل ولو حتى ذرة من السكر وقد ضمت الصلاة في نفسها الكثير من الاُصول الإسلامية التربوية، فيمنع فيها الأكل والشرب، ويفسدها الضحك والبكاء لغير الله، إذ في حال الصلاة يجب على الإنسان التغلب على رغباته من قبيل الأكل والنوم، وأن يسيطر على أحاسيسه من قبيل الضحك والبكاء، وكذلك يبطل الصلاة التمايل إلى اليسار أو اليمين، فهذه مظاهر من الإنضباط الجسدي والروحي.
التدريب على ضبط الوقت
المسألة الأخرى في الصلاة التي أوليت أهمية هي الدقة في مسألة الوقت بحيث يحسب حساباً دقيقاً حتى للدقيقة والثانية، ويلاحظ أن هذا الأمر لا يؤثر في روح العبادة وعلاقة الإنسان بربه، بحيث لو أننا شرعنا في الصلاة قبل الزوال بدقيقة لا تحصل تلك الحالة من التقرب إلى الله، ولكن ما إن يدخل الزوال تحصل تلك الحالة، ليس الأمر كذلك، إلا أن الإسلام اشترط ضبط الوقت، ولم يرد أن يكون هناك هرج ومرج بالنسبة لوقت أداء العبادات، فلو التفت المصلي إلى أن صلاته لم تكن داخل الوقت أو كان جزء منها خارجه، فإن صلاته تكون باطلة ولكن لو اشتبه المكلف، ولم يكن عامداً فصلى قبل الوقت، ووقعت ركعة من صلاته في الوقت، فإن صلاته تكون صحيحة.
التعايش السلمي
المسألة الأخرى هي مسألة التعايش السلمي مع الآخرين الذي جاء في صلب تعاليم الصلاة، فنحن نخاطب الله في سورة الحمد الواجبة قراءتها في الصلاة بقولنا: (إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
“إياك نعبد” بصيغة الجمع لا المفرد، فالكلام على الجمع لا المفرد، مع أنه من وجهة نظر روح العبادة كلما لم يكن هناك في ذهن الإنسان غير الله كان أحسن إلا أن الإسلام من أجل مصلحة اجتماعية مهمة جداً ولأجل أن يجعل من روح المسلم روحاً اجتماعية أمر بأن نقول: (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم) هنا يشاهد التعاون والمسالمة والتآخي العام بشكل ملحوظ.
والأكثر من ذلك مسألة السلام المطروحة في تسليم الصلاة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن هذا إعلان لطلب المسألة، ولكن ليس مع كل البشر حتى أولئك الذين ينبغي استئصال جذورهم لصالح البشرية، بل مع عباد الله الصالحين.
النية
مسألة النية أيضاً من المسائل التي أوليت اهتماماً كبيراً، فمن مسلمات الفقه الإسلامي كون النية روح العبادة، قال الرسول الأكرم (ص): “لا عمل إلا بنية”[1] أو: “لكل امرئ ما نوى”[2] ، ان العمل الذي يحدث من غير قصد لا يكون ذا قيمة، فالعمل الذي يقدم عليه الإنسان على نوعين: أحياناً يقدم الإنسان على الفعل وكأنه ماكنة لا إنسان (كأغلب الصلاة التي نؤديها) وأحيانا نقدم على الفعل ونحن ملتفتون إليه، وعندما يقدم الإنسان على فعل عن توجه منه والتفات فقد حدد هدفاً ومقصوداً في ذهنه وهو ملتفت إلى ما يفعله، حتى أن السيد البروجردي في باب النية لم ير كفاية وجود الداعي لدى الإنسان، وكنا في البداية نتعجب من أن يكون للسيد البروجردي رأي كهذا، إذ إن أغلب العلماء يكتفون بالداعي فقط، وأن يحدث في نفس الإنسان قصد للقربة، بحيث لو سألناه ماذا تصنع؟ يجيب: أصلي لله سبحانه، ولو كانت الغفلة أكثر من هذا المقدار وعمله الآلي وصل إلى درجة بحيث إذا سألناه ماذا تصنع، فإنه يمعن النظر أولاً ثم يجيب، فإن صلاته تكون باطلة بإجماع العلماء، إلا أن المرحوم السيد البروجردي كان يقول شيئاً آخر أيضاً وهو أنه لا يكفي هذا المقدار من الألتفات من قبل الشخص هو أن ما يقدم عليه هو بداعي قصد القربة، بل لابد من أن يخطر في قلبه هذا المعنى وكأنه يتكلم مع نفسه: أصلي أربع ركعات صلاة الظهر أداء قربة إلى الله، وعندها يقول: الله أكبر، طبعاً لا تأثير في لحاظ الباعث، فإن الباعث في محله، ولكن الفعل عندما يكون بهذه الحال فإن العمل يكون أقرب إلى حال الالتفات منه إلى حال الغفلة، أي أن الإنسان يقدم على فعله بوعي أكثر.
أركان النية
إن الإسلام لا يرتضي أي عمل عبادي لا تدخل فيه النية، وان النية في الإسلام تحوي ركنين، الأول أن العمل ينبغي أن يكون صادراً عن التفات لا عن عادة، من قبيل الكثير من الأعمال التي يقدم عليها الإنسان بلا التفات منه كالمشي مثلاً، فإذن أول ركن للنية هو أن يركز ذهنه بشكل يكون العمل صادراً عن التفات لا عن غفلة، وان ما يشترطونه من استداُمة النية لأجل هذا الشيء، فلا يكفي الالتفات الذي حصل في بداية الصلاة، يعني لو أن الشخص غفل عن عمله بشكل يحتاج معه إلى تنبيهه إلى ما يصنع، فإن صلاته تكون باطلة أيضاً.
الركن الثاني للنية: الإخلاص، وما هو الباعث على العمل، وعلى هذا تكون أركان النية بهذا النحو.
1 ـ ماذا أفعل؟ وهو أصل النية التي يجب كونها لأجل التقرب إلى الله ورضاه.
لماذا أفعل هذا العمل؟
أهمية النية
إن للنية أهمية بحيث لو أعملنا مقايسة بين العمل نفسه وبين النية التي هي توأم العمل، لرجح جانب النية على العمل، وهذا مفهوم حديث الرسول الذي يقول: “نية المؤمن خير من عمله”، هل يعني أن النية بلا عمل خير من العمل بلا نية؟ فإن العمل بلا نية لا قيمة له، وكذلك النية بلا عمل فإذن ماذا يعني هذا الحديث؟ هل المراد أن نية المؤمن خير من عمله الصادر عن نية؟ بديهي أن هذا ليس صحيحاً أيضاً، فإن النية وحدها لا يمكن أن تكون أفضل من العمل الصادر عن نية كما في قولنا: إن الروح أشرف من الجسد، فليس المراد أن الروح اشرف من الجسد الذي فيه روح، إذ إنه يمتلك الروح مع شيء زائد عليها، الجواب أنه كلا، بل المراد أن هذا الموجود المركب من الروح والجسد يكون جزؤه هذا أشرف من جزئه الآخر.
إن هذا يصور مدى اهتمام الإسلام بالنية، وان العمل ينبغي أن يكون توأم النية والإلتفات، وأن يعي الإنسان ما يفعله ولا يمارس أفعاله غافلاً عنها.
خاصية العادة
يرى علماء النفس: أن الشيء ما أن يصبح عادة للإنسان حتى تكون فيه خاصيتان متضادتان، وكلما زاد في اعتياده يغدو عمل الإنسان أسهل، فإن من يعتاد على الكتابة على الآلة الطابعة، كلما مارسها أكثر يكون العمل لديه أسرع وأسهل، ولكن كلما كثر اعتياده يقل التفاته، أي يخرج عمله هذا عن كونه إرادياً ويقرب أكثر نحو العمل غير الإرادي، هذه خاصية العادة، وان السبب وراء اهتمام الإسلام بالنية إلى هذه الدرجة هو الحد من صيرورة العبادة عادة وعملاً غير إرادي ولا هادف.
هناك شيئان ينبغي التطرق لهما: الأول: ما هو موضع اهتمام الإسلام من القواعد والمتبينات في مجال الأخلاق والتربية؟
لقد طرحت المذاهب الخلقية أفكارها بشأن الأخلاق الحسنة، وان الإختلاف بين المذاهب يصل إلى حد التضاد، فبعض المذاهب يصف عملاً ما بأنه خلقي، بينما يراه مذهب آخر منافياً للخلق، الأخلاق عمل توجيهي أي علم (كيف ينبغي أن نكون) والإرشاد إلى (كن هكذا)، السؤال هو: كيف نكون لنغدو صالحين من وجهة نظر هذا المذهب؟ فإذن مجرد الأمر بتحصيل الأخلاق الحسنة، لا يمكن أن يكون محدداً لمذهب خلقي، وقد قلنا مراراً: إن أوهى كلام هو المقولة المنسوبة لزرادشت إذ يقول: “الكلام الحسن، الظن الحسن، والفعل الحسن” فما هو الحسن؟ وكما لو انهم طلبوا من مهندس أن يرسم لهم خريطة مسجد؟ فيقول أنه سيصمم بناء جيداً، ففي البداية ينبغي أن نرى ما هو البناء وما هو (الجيد) في نظره، أو يقال لخياط: أي ثوب تخيط؟ يقول: هو من الطراز الجيد، ولكن لا نعلم ما هو الجيد عنده، فلهذا لابد أن نرى أي الأخلاق يراها الإسلام حسنة وأيها سيئة وفي هذه الصورة نتمكن من تعرف الطريقة الخلقية والتربية الإسلامية.
نظرية نيتشة
ان أكثر المذاهب الخلقية ترى أن المعيار الخلقي كامن في محاربة النفس أي التكبر و(الأنا). أي أن الفعل الخلقي هو ذلك الفعل الذي لا يكون هدف الإنسان منه ذاته، والأخلاق معناها تهديم جدار (الأنا)، الذي أقامه الإنسان بينه وبين الآخرين. وليس لدينا سوى ثلاثة مذاهب ترى أن الإنسان أن ينمي “ذاته”، مثل كلام نيتشة الذي يباين التعاليم التي تذكر تحت عنوان حب الآخرين وحب الإنسان وإرادة مصلحة الغير والايثار. يقول: إن هذا الكلام كله تافه، ان الإنسان السعيد هو الذي يسعى وراء القدرة والقوة، وليس هناك معنى لإفناء الذات، بل ينبغي تنميتها. ولا معنى للترحم على الضعفاء، بل لابد أن يزال الضعيف من الوجود، وإذا سقط إنسان في بئر فينبغي أن يطرح فوقه حجر، لان ذنبه الذي لا يغتفر هو ضعفه. ونحن إن سعينا لهذه الأخلاق فقد قمنا بتقوية البشر؛ إذ بعد مدة يصفى النسل ولا يبقى إلا الأقوياء، وعلى أثر اختيار الأصلح، تتقدم البشرية نحو الأمام، وان أكبر خيانة اقترفت بحق البشر إنما هي التي ارتكبها اولئك الذين عملوا على مساعدة الضعفاء.
إن هذه الآراء احدثت ضجة في العالم؛ لأنها تقوم بإدانة المسيح الذي أوحى كثيراً بالمحبة والتآخي، ومساعدة الضعفاء، وكانت ترى أن تعاليم المسيح هذه مضرة بالإنسانية.
المسألة الأخرى التي طرحت: هي أن لدينا نوعين من (الأنا). الأولى هي (الأنا) التي ينبغي تدميرها وهي ذلك الاهتمام الذي نقول عنه (تنمية النفس وعبوديتها) ونسميه أحياناً (عبادة الشهوة) ولكن في الوقت نفسه هناك نوع آخر من (الآنا) ينبغي تنميته ولا ينبغي التفريط به إذ إنه بتهديمه تتقطع جذور الأخلاق الإسلامية بشكل كامل.
——————————————————————————–
[1] اُصول الكافي، ج1.
[2] صحيح البخاري، ج1.