كان القسم الثاني من البحث السابق حول الإرادة. قلنا: إن أحد الاستعدادات التي يجب أن تنمى في الإنسان هي الإرادة. وبينا الفرق بين الإرادة والميول، وقلنا: إن من الخطأ ان يعتبر بعض الناس الإرادة من جملة الميول وان يتصوروا أن الإرادة هي الميل الشديد. إن الإرادة هي قوة أخرى في الإنسان ترتبط بعقل الإنسان، خلافاً للميل فانه يرتبط بطبيعة الإنسان. الميل هو من جنس الجاذبية أي أن الأشياء اللازمة والمرادة، تجذب الإنسان نحوها، وكلما يكون الميل شديداً، يسلب اختيار الإنسان بذلك المقدار، أي أن الإنسان تحت سيطرة قوة خارجة عنه، بعكس الإرادة التي هي قوة داخلية وباطنية، إن الإنسان يخرج نفسه عن تأثير القوى الخارجية بواسطة الإرادة. فكلما تكون الإرادة أقوى يكون اختيار الإنسان أكثر ويمتلك نفسه وعمله ومصيره.
السيطرة على النفس
بالنسبة لمسألة الإرادة أو التسلط على النفس وتملكها، فإن ما وصلنا من التعاليم الإسلامية بهذا الصدد تحت عنوان التقوى وتزكية النفس، كثير جداً، بحيث لا توجد ضرورة لذكر دليل على اهتمام الإسلام بمسألة تقوية الإرادة. أذكر جملة من نهج البلاغة نموذجاً لهذا الموضوع. يقول (ع) حول الذنب والخطأ: “ألا وان الخطايا خيل شمس، حمل عليها أهلها”.
يقع الذنب عندما يقوم الإنسان بفعلٍ بسبب شهواته وميوله النفسية، خلافاً لما يحكم به عقله وإيمانه. يقول (ع) ان حالة الذنب هي حالة عدم تملك النفس. ثم يقول حول التقوى وهي النقطة المقابلة لذلك “ألا وان التقوى مطايا ذلك”[1] . أي أنه يأمر والمطايا تطيع، تسير أينما يوجهها دون أن تركل أو ترفس.
لم يوجد أي مذهب تربوي في الدنيا مادياً كان أو إلهياً يقول: ما معنى تقوية الإرادة؟ أو يقول: على الإنسان أن يسلم نفسه إلى ميوله ويعمل بما تأمره به أهواؤه النفسية. أجل، هكذا أشخاص هم كثيرون في الدنيا ولكن لا يوجد مذهب يدعي تربية الإنسان ويدافع عن هذا الأصل في نفس الوقت. قال سارتر وأمثاله “الوجوديون الملحدون” أقوالاً بشأن الحرية، وكانت هذه هي نتيجة أقوالهم، وعلى أثر ذلك وجهت إليهم الانتقادات، وأصبحت الوجودية في أوروبا مساوية للتلذذ والبغاء واللاأبالية واللاتقييدية. لكنهم بعد ذلك أرادوا توجيه أقوالهم، فقالوا: لا، لقد ساءت الاستفادة من مذهبنا، وإن مذهبنا لا يدعو لهذا.
الإيمان ضامن حكومة الإرادة
الغرض من هذا هو عدم وجود مذهب في الدنيا يشك في مسألة وجود سيطرة الإرادة على الميول الإنسانية، والبحث حول تنفيذ هذا الأمر وما هو الطريق إليه. الإرادة هي قوة العقل التنفيذية. وبالوجوب المذكور سيصبح العقل والإرادة حاكماً على ميوله مباشرةً فما الذي يضمن تنفيذ حكومة العقل والإرادة على الميول؟
من المسائل التي يتمسك بها المتدينون: أن الإرادة هي القوة التنفيذية للعقل، ولكن ما هو العقل وماذا يمكنه أن يفعل؟ العقل لا شيء سوى الضياء والنور الذي يضيء الإنسان، لكن هل الإضاءة توجه الإنسان لأن يذهب من هنا أو من هناك؟ يتابع الإنسان ما يريده ويستفيد من نور عقله للوصول إلى هدفه. والمشكلة هي ما هو هدف ومطلوب الإنسان؟
طبعاً لا يوجد اعتراض على أن الإنسان بحاجة إلى مصباح العقل ليضيء له طريقه. فلو سار الإنسان في الظلام، فإنه سوف يضيع هدفه. لا بحث في الحاجة إلى العقل. لكن الكلام في أن العقل والعلم ـ الذي هو مكمل للعقل وبعبارة أخرى هو العقل الاكتسابي ـ نور وضياء، يضيء المحيط، ليفهم الإنسان ماذا يفعل، وأنه لو أراد الوصول إلى المقصد الفلاني فعليه أن يذهب من هنا. ولكن هل الفهم والمعرفة كافية لحكومة الإرادة على ميول الإنسان؟ كلاّ. ولماذا؟ لأن الإنسان في حد ذاته يسير وراء منافعه وان إرادته حاكمة على ميوله بمقدار ما تقتضيه المنافع والمصالح. وهنا لا يمكن للعقل والإرادة أن يفعل شيئاً، إذا لم يوجد أمر آخر يمنح الإنسان متطلبات مخالفة لمنافعه، وهذا ما نسميه “الإيمان” والشيء القادر على منع الإنسان عن حب المنفعة إلى حدٍّ ما. ويستطيع أن يعرض للإنسان مطالب مخالفة للمنافع الفردية والمادية أيضاً إنه يخلق ويصنع مطلوباً وهدفاً، وعند ذلك فإن العقل يسيّر الإنسان نحو ذلك الهدف. إن العقل مصباح ونور. فعندما تحملون المصباح ليلاً، فإن المصباح لا يقول لكم اذهبوا من هنا أو من هناك: يقول المصباح اذهب إلى حيث تريد واني أضيء لك الطريق.
بما أن بحثنا حول التربية وتقوية الإرادة. فهذه بحوث استطرادية. وبهذا المقدار أردنا أن نبين أنه لا يوجد مذهب في الدنيا لا يعتقد بوجوب تقوية الإرادة في الإنسان.
العبادة
من الأمور التي اعتبرت من استعداد الإنسان الخاص (على الأقل برأي بعض علماء النفس) هي العبادة. والبحث حول هذا الموضوع هو أولاً: هل العبادة إحساس أصيل وغريزة في الإنسان أم لا، بل هو ناتج ومتولد عن الغرائز الأخرى. نعم اجمالاً أن عدداً كبيراً من المحققين وعلماء النفس قبلوا العبادة بعنوان إحساس أصيل في الإنسان. المقالة التي ترجمها المهندس بياني والتي طبعت في أول عدد سنوي لمذهب التشيع تحت عنوان “الشعور الديني أو البعد الرابع” كانت بهذا الصدد. يشرح فيها الكاتب أن الروح الإنسانية لها أبعاد مختلفة (بعبارة أخرى توجد عدة غرائز لدى الإنسان، لا توجد في الحيوان. لكنه عبر عن الغريزة بـ”البعد” وان الوجود الإنساني له عدة أبعاد) بعد البحث عن الحقيقة بغض النظر عن أن العلم بها مفيد لحياة الإنسان أم لا. يريد الإنسان الحقيقة لأجل الحقيقية. فلو اطلعنا على أن بعض العلماء توصلوا إلى حقيقة لا ترتبط بحياة الإنسان على الكرة الأرضية، بل لا ترتبط بالمنظومة الشمسية، وعلمها وعدم علمها غير مؤثر في حياتنا، فمع ذلك لو سئلنا: هل يعجبك أن تعلم بها أم لا تعلم؟ فلا أحد يقول بما أنها لا تفيد ولا تنفع حياتي فالعلم بها وعدمه سواء بالنسبة لي. إن الإنسان يريد أن يفهم ويتضح له كل شيء. العلم نور والجهل ظلام، يهرب الإنسان من الجهل والظلام ويميل نحو النور ذاتياً.
والبعد الآخر الذي يذكره هو البعد الأخلاقي. والمراد منه هو العاطفة الإنسانية والشعور بالمحبة للآخرين. وانه يعتقد بأصالة هذه العاطفة.
وأما البعد الآخر فهو بعد الجمال، فهو أصيل لدى الإنسان.
والبعد الذي ذكره بعد ذلك هو العبادة. وأيد هذا كثيرون، وممن يؤكده كثيراً، “ويليام جميز” في كتابه “الدين والروح” ترجمة السيد مهدي القائني. لم أر هذا الكتاب بعد طباعته، ولكنني قرأته قبل الطبع، انه كتاب رائع حقاً، وان هذا العالم النفساني كما يقول ـ ويؤيده الآخرون ـ جرب وحقق في مجال حالات الإنسان الروحية والدينية مدة ثلاثين عاماً، وتوصل إلى أصالة الشعور الديني.
لو كانت التربية تاُمة ومتكاملة فيجب تقوية هذا الحس الإنساني. فالإنسان المتكامل أو المشرف على التكامل لا يمكن تعطيل هذا الجانب من وجوده وهكذا باقي الجوانب الأصيلة فيه. لو تعطل جانب من وجود الإنسان الحيواني “أي الجانب المشترك بين الإنسان والحيوان” ومن وجوده الإنساني المحض فهو إنسان ناقص فلا حاجة للقول باهتمام الإسلام بالعبادة وتنميته لهذا الشعور في الإنسان. فيتضح أن قسماً من كل دين هو العبادة، ويحتمل أن يكون الإشكال وارداً على الأديان للافراط في العبادة وليس لعدم الاهتمام بها.
جواب عن إشكال
نذكر هنا مسألة في باب العبادة يمكن القول أن المسألة هي بالعكس في الأديان ـ وعلى الأقل في الإسلام الذي هو مورد بحثنا على الرغم من أنه دين ـ يجب أن يربي الشعور بالعبادة ـ إن العبادة التي وردت في الأديان لا علاقة لها بالحس العبادي، إما لأنها تتعلق بالطمع الذي يجب محاربته، أو بالخوف الذي يجب محاربته أيضاً، فالعبادة في الأديان ليست إلا معاملة. لأن الدين يحرك الإنسان إلى العبادة لأجل الجنة أو للفرار من النار. فلو صلى شخص لأجل الجنة. فما معنى الجنّة؟ نعني بها المكان الذي تتوفر فيه أنواع اللذات: من الحور والقصور (جنات تجري من تحتها الأنهار) فواكه الجنة، والأطعمة اللذيذة والأشربة غير المسكرة وأنواع اللذات التي لا يمكن تصورها للبشر. فإنسان يغمض عينيه عن لذات الدنيا لأجل لذات الآخرة، فهو ليس إلهياً ولم يقو شعور العبودية فيه، بل هو إنسان مادي جداً أكثر من عباد الدنيا. لأن الفرد الدنيوي قنع بهذه اللذات المادية المحدودة؛ لكن ذاك هو إنسان رقيق في جوانب الأمور يرى أنه لو يقضي تمام عمره سواء ثلاثين عاماً أو أربعين بهذه اللذات المحدودة فإنها قليلة فانية، فيقول: إني أقضي هذه الثلاثين أو الأربعين سنة بأي نحو كان، وأنتظر الرحيل إلى هناك لأحصل على اللذات التي تركتها هنا. إذاً المحرك له في هذا العمل هو الطمع ولا شيء غيره. وهكذا فإنه لا يرتكب المعصية للفرار من جهنم. فيعبد ويترك اللذات المادية لكي لا يعاقب. فهو أمر لا يخرج عن حدود طلب المنفعة والمصلحة. لذلك لم يعتن بالحسن العبادي في الإنسان.
وهذا ما تشكله المسيحية على الإسلام كثيراً، بأن القرآن اهتم بالنعم المادية كثيراً. ويحتمل أن يقولوا: إن القرآن يؤكد النعم المادية في ذلك العالم فقط، لذلك فهو لم ينظر إلى الحسن العبادي الذي يعتبره “علم النفس” شعوراً واحساساً رفيعاً. بل بالعكس، فإنه نظر إلى أطماع الإنسان فقط.
هذا الإشكال غير صحيح. فكلنا يعلم أن للعبادة مراتب ودرجات من وجهة نظر الإسلام، فإحدى مراتبها عبادة الطمع بالجنة، والأخرى عبادة الخوف من النار، وأعلى هذه الدرجات هي العبادة لا للجنة ولا للنار. وأكد هذا الأمر في القرآن وأحاديث الرسول والأئمة الأطهار (ع). ويوجد كلام طويل على هذا الأمر. والجملة المشهورة في نهج البلاغة وفي كلام الرسول (ص) والصادق (ع) وهي جملة ليست جديدة، فيمضي ألف عام عن جمع “نهج البلاغة” من قبل السيد الرضي فكيف بزمن الإمام علي (ع). يقول أمير المؤمنين (ع): “إن قوماً عبدوا الله طمعاً، فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله خوفاً، فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً “حباً”[2] فتلك عبادة الأحرار”[3] .
فقوم يعبدون الله لطمعهم بالجنة فهي عبادة التجارة، يعملون هنا لينتفعوا هناك. وقوم يعبدون الله لخوفهم من النار، فهؤلاء كالعبيد يعمل للخوف من سوط سيده. والبعض الآخر يعبد لا للجنة ولا للنار بل للشكر؛ أي يعرف ربه، وعندما عرفه يرى أن كل شيء منه تعالى، وعندما يرى ذلك يحركه الشعور بالشكر إلى العبادة، وهذه هي عبادة الأحرار.
فالأول عبد لطمعه، والثاني لخوفه، والثالث متحرر عن قيد الطمع والخوف فهو عبد الله فقط.
الرسول الأكرم والعبادة
وهناك حديث معروف بهذا المضمون، وقد كان الرسول (ص) يكثر من قيام الليل للعبادة وكما ينص القرآن على قيامه ثلثي الليل، وأحياناً نصف الليل أو ثلثه[4]. وعندما رأته عائشة يقضي ليله بالعبادة، وأنه كان يقف للعبادة أحياناً إلى أن تتورم أقدامه، قالت له يوماً: لماذا تكثر من عبادة الله؟ وقد قال الله عنك (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) [5] قال (ص): “أفلا أكون عبداً شكوراً؟” ومن جملة أقوال الرسول (ص) بشأن القيمة المعنوية للعبادة: “أفضل الناس من عشق العبادة وعانقها وباشرها بجسده وتفرغ لها”[6] .
ويقول الرسول (ص) أيضاً: “طوبى لمن عشق العبادة، وأحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها”. يقصد أن العبادة ليست ذكراً في القلب فقط، بل هي العبادة العملية: الركوع، السجود، القنوت فهي نوع من العشق العملي. وتفرغ لها أي يفرغ نفسه من كل شيء سوى العبادة، أي عندما يقف للعبادة فلا يطرق قلبه أي خيال أو ذكرى أو فكرة، بل يبقى هو وربه، ويفرغ قلبه لله؛ وهذه هي روح العبادة. روح العبادة ذكر “بالمصطلح الديني” أي ذكر الله والانقطاع، أي ينقطع الإنسان عن غير الله في لحظات العبادة ويبقى مع الله وحده، كأنه لا يوجد شيء في العالم غيره هو والله تعالى. وهذه هي الحالة التي يعبر عنها الشعراء العارفين بـ”الحضور” يقول حافظ:
“ليس لحافظ حضور في العبادة، ولا للعالم علم اليقين”.
كان حافظ ملتفتاً إلى مسألة الحضور والخلوة “بمعنى خلوة القلب”. فالأفراد الذين يهتمون بالخلوة الظاهرية والانزواء، فذلك مقدمة لحصول الخلوة القلبية. وبعد حصول الخلوة القلبية يجب أن يأتي إلى المجتمع ليقوم بأعماله الاجتماعية، ولكن بحفظ خلوته القلبية. وقد قال نابليون “ان دماغي كمحفظات البائع، أيها أردت سحبتها، وأيها أريد أغلقتها”. يجب أن توجد هذه الحالة لدى الإنسان بحيث يستطيع أن يختلي بربه حال العبادة. يقول حافظ في أحد أشعاره:
“صممت على القيام بفعل، اتخلص به من هَمِّ الدنيا”.
“فخلوة القلب ليس محل الاضداد، فان خرج إبليس تدخل الملائكة محله”.
ثم يشكو “قد تكون شكواه من نفسه في الحقيقة” الدخول على حكام زمانه أحياناً ويقول:
“محادثة الحكام كظلمة أطول ليلة، فاطلب النور من الشمس على أمل الوصول إليه”.
“إلى متى تريد الجلوس على باب أرباب هذه الدنيا الظالمين وتنتظر حتى يخرج صاحبها”.
“قدَّم كل من الإنسان الصالح والمذنب متاعه، ليرى أن عمل أي واحد منهم يقبل”.
“أيها البلبل العاشق “الإنسان المؤمن”” أطلب من الله عمراً طويلاً لأن البستان سيخضروه أخرى وتتفتح الأزهار. “أي أن الظلم ينتهي ويأتي زمن العدل وتصل إلى أمنيتك”.
على أية حال يقول: “وتفرغ لها” فطوبى لمن يتفرغ قلبه حين العبادة؛ تفرغاً وخلوة حقيقية. ثم يقول (ع): “فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر”[7] . والقصد هو: إذا وصل الإنسان إلى هذه اللذة، فلا معنى لعذاب وتعب الدنيا عنده؛ فلا يهتم حتى لو عذب وقطع إرباً عسر الدنيا ويسرها مسألة مهمة لدى الإنسان الذي لم ينل لذة العبادة. فمن يذوق لذة العبادة لا يهتم بهذه المسائل. إننا نعجب كثيراً من طريقة علي (ع) في العيش في هذه الدنيا. لكننا لا نعلم بأنه وصل في عبادته إلى مقام لا يهمه العسر واليسر أبداً ولا يفكر به.
علي (ع) وروح العبادة
إن الإسلام اهتمَّ كثيراً بالعبادة، وبروح العبودية الحقيقة، أي الارتباط بين الإنسان وربه، وحب الله، والانقطاع إلى ذاته ـ وهي أكمل العبادات ـ والحديثان أو الثلاثة التي ذكرتها كانت نماذج، وإلا فالأحاديث كثيرة بهذا الصدد. وقد سمعنا قول أمير المؤمنين المعروف “إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك”[8] .
دعاء كميل بأكمله هو هذا القول بمعنى أوسع. فلا نرى في هذا الدعاء ذكراً للجنة والنار، وان ذكرنا فإنه استطراد لمناسبة وبحث آخر. الأدعية الإسلامية على اختلاف مستوياتها تتمتع بمضامين جيدة. منها الدعاء المذكور في المفاتيح واسمه “المناجاة الشعبانية”. يذكر أن أمير المؤمنين (ع) والأئمة من ولده كانوا يقرأون هذا الدعاء. فهو دعاء بمستوى الأئمة (ع)، فعندما يقرأ الإنسان هذا الدعاء يفهم معنى العبادة في الإسلام، فلا يوجد هناك إلا العرفان والحب والعشق لله، والانقطاع إليه وفيه تمام المعنوية: “إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تحرق أبصار القلوب حجب النور سواك فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز نورك الأبهج فأكون لك عارفاً وعن سواك منحرفاً”.
فتصور هذه المعاني وفهمها صعب علينا. وهكذا دعاء أبي حمزة. والمناجاة الخمس عشرة للإمام زين العابدين (ع) وقد ذكرت في المفاتيح، منها: مناجاة الخائفين، مناجاة الذاكرين، ومناجاة الطالبين و… وانها لرائعة وعالية المضمون، بحيث انها تحير الإنسان وتذهله. ففي نهج البلاغة كثير من الأحاديث بهذا الشأن.
فمن كلماته (ع) التي يخاطب بها كميلاً: إن الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم، وهمج رعاع، ثم يقول الإمام: إن لي كلاماً طويلاً لا أجد من يصغي إليه. فيقسم الأفراد ويقول: إن بعضهم أذكياء جداً وهم يفهمون، ولكن لا يمكن الاعتماد عليهم؛ لأنهم يجعلون ذلك وسيلة لمطامعهم الدنيوية. والبعض الآخر أناس طيبون لكنهم همج يفقهون؛ فلمن أقول كلامي؟ عليّ أن آخذ ما أعلمه إلى القبر معي، فلا أجد من هو أهل له. ثم لأجل أن لا يخيب الجميع يقول: “اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً… ويزرعوها في قلوب اشباههم”. ثم يقول عن هؤلاء: “هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة” يظهر أن هذا العلم هو ما أفيض عليهم وليس العلم المكتسب، “وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون”[9] .
الإنسان المسلم أم الإنسان الاجتماعي
نبين أولاً ان هذه المعاني الرفيعة بالمصطلح العرفاني، بسبب تفسيرها بصورة غير صحيحة للناس، اعتبرت هي واُصولها قراراً من المجتمع، واستدل على ذلك بأدلة ضعيفة وهي أن الأفراد عندما ييأسون من المجتمع يلجأون إلى باطنهم وإلى تخيلاتهم دائماً. وليس الأمر كذلك. إننا نعتقد بأن كثيراً من الناس انحرفوا في هذا المجال، ويحتمل أن يكون هذا حجة لفرارهم من المسؤولية الاجتماعية؛ لكن المسلم إنسان اجتماعي. علينا أن نتخذ الإمام علياً (ع) قدوة ونموذجاً لنا دائماً، فهو الذي يعتكف ويختلي بالله خلوة عرفانية، ونراه من جانب آخر مهتماً بالمسؤوليات الاجتماعية إلى حد كبير؛ والإنسان الذي يريده الإسلام هو هكذا.
وقصدي من ذلك أن لا ينتقل ذهنكم إلى معنى آخر في هذا الشأن، فتنكرون هذا الجانب أو تقولون لو كان الأمر كذلك إذاً لا توجد مسؤوليات إجتماعية. كلا، الإنسان المسلم إنسان اجتماعي أيضاً. وهذا هو أحد أبعاد الوجود الإنساني. إننا لا نعرف الإنسان بأنه موجود ذو بعد واحد وذلك البعد هو هذا! ويقول العارفون: الإنسان الناقص، وهو الإنسان الذي لم يصل عرفانه إلى الكمال بعد، لابد للمسلم أن ينقطع عن غير الله تماماً، ولكنه حينما يصل إلى هناك تنتابه حالة العودة والرجوع. فعند ذلك يعود ويقوم بوظائفه ومسؤولياته، وإلا فلو ذهب الإنسان إلى هناك ولم يرجع، فهو ناقص غير متكامل.
فاتهام الإسلام بأنه لا يهتم بروح العبادة ليس صحيحاً، بل اهتم كثيراً بها بحيث لو أردنا جمع موارد اهتمامه لاحتجنا بحث طويل.
مراتب العبادة الدانية
والآن نتكلم على عبادة الطمع بالجنة أو الخوف من النار. هل إن هذه العبادة لا قيمة لها واقعاً؟ وهل هي كما قالوا شره كبير؟ أو طمع عظيم؟ وأسوأ من حب الدنيا بمائة مرة؟ كلا، فلا يصح تخطئتها بهذا الشكل. لا شك في أنه ليس للعبادة من أجل الجنة أو الخوف من النار قيمة كما للعبادات التي ذكرناها، لكنها ليست دون قيمة وأهمية. بل إنها تعتبر درجة عالية لبعض الناس؛ لأن هناك فرقاً بين من يقوم بعمل لأجل الطمع مباشرة وبين من يجعل الله واسطة للقيام بذلك العمل. كأن الإنسان يسعى مرة وراء المال مباشرة؛ فهذا عاشق المال مئة بالمئة؛ ومرة أخرى يريد المال من الله تعالى، يذهب إلى الله ويطلب منه المال. وهذا يختلف كثيراً عمن يقطع روابطه مع الله كلياً ويسعى وراء المال مباشرة، فذلك يختار طريقه هكذا بأن يقول: إن لله أوامر، فأنا أعمل طبقاً لأوامره وأطلب منه أن يعطينا مالاً. وهذه مرتبة من مراتب عبادة الله، واللجوء إليه تعالى، ولو لأجل المال؛ ولكنه يختلف عن عدم الذهاب والالتجاء إلى الله كلياً. فالتوجه إلى الله واللجوء إليه لأجله فقط له أهمية عظمى، واللجوء إليه لأجل شيء، وطلبه منه هو توجه ولجوء أيضاً، يضيء قلب الإنسان إلى حدٍّ ما، ويجعل فيه صفاء فيغفل عن غير الله ويتوجه إليه تعالى؛ وهذه مرتبة للعبادة من أنها مرتبة دانية. ولهذا فلا يمكن نفي صفة العبادة عن هذا التوجه. وبما أن جميع الناس ليسوا على درجة ومستوى واحد وعالٍ، فلو أردنا تربية أكثر الناس بحيث نصلح نظام حياتهم الدنيوية وتقربهم إلى الله أيضاً فعلينا أن نبتدئ بهذا الطريق. أو على الأقل تدخل الأفرد من هذا الطريق أولاً ثم ترفعهم إلى مراتب أعلى. وهذا هو سبب اهتمام القرآن الكثير بالأمور المادية وأيضاً يوجد في القرآن (ورضوان من الله أكبر) (سورة التوبة، الآية: 72). فعندما يذكر: (جنات تجري من تحتها الأنهار) ثم بعد ذلك يقول: (ورضوان من الله أكبر) أي أن الذي يعبد الله لأجل رضوانه، فهو شيء آخر ولكن متبعي (ورضوان من الله أكبر) ليس جميع الناس بل حتى ليس نصفهم. وإنما هو مجموعة قليلة وصلت إلى مراتب راقية فقط. فالطريق العملي لغالبية الناس هو أن نذكر لهم الجنان التي فهيا لذات مادية. طبعاً يذكر القرآن ذلك لتربية الناس فقط؛ فإن القرآن يقول ليس في كلامنا باطل وكذب حتى لو كان ذلك الكذب نافعاً والعياذ بالله لكي يصح توهم البعض أن القرآن قال ذلك ليجبر الإنسان على عمل الخير، فإن له هدفاً حسناً، ولأجل تحقيق هذا الهدف الصحيح يمكن التحدث والتكلم بأي نوع من الكلام (لا يأتيه الباطل من بين يديه) (سورة فصلت، الآية: 42). كلا، ان كلام القرآن حول لذات الجنة المادية والجسمية هو أمر حقيقي. فلا يتعدى أغلب الناس عن حد الجسم والشهوات الجسمية ولهذا فإنهم نشأوا هكذا نشأة. أما الذين يرتفعون إلى حد أعلى، فانهم يذهبون إلى نشأة أعلى رتبة من الجنة الجسمانية المادية.
أثر العبادة في التربية
نستنتج مما ذكر أن الإنسان لو أراد أن يربي نفسه وأولاده أو الآخرين تربية إسلامية. فعليه أن يهتم بمسألة العبادة حقاً. وان العبادة بغض النظر عن أنها تربي في الإنسان إحساساً وشعوراً أصيلاً، فان لها تأثيراً كبيراً في سائر اتجاهات الإنسان. ولهذا يوصي العظماء دائماً. مهما كان لك من الأعمال. عليك أن تخصص ساعة في اليوم والليلة لنفسك. يمكن أن يقال: ليست كل ساعاتي هي لي، فكل أوقاتي هي لخدمة الآخرين لا، حتى لو كانت جميع ساعات الإنسان موقوفة لخدمة خلق الله، ففي الوقت ذاته وغير مستغن عن تخصيص ساعة لنفسه، وتلك الساعات التي لغيره، مع أنها مفيدة وضرورية، لا يمكنها أن تحل محلها وتملأ فراغها. وان الساعة الواحدة هي الحد الأدنى؛ فعلى الإنسان أن يضع ساعة أو أكثر من اليوم والليلة لنفسه فعلاً. أي يعود إلى نفسه في تلك اللحظات. فيقطعها عن الخارج ويعود إلى باطنه وإلى ربه يتضرع ويناجي ويستغفر. فمعنى الاستغفار هو محاسبة النفس، ينظر في أنه ماذا فعل في هذه الأربع والعشرين ساعة؟ فيظهر له أن عمله الفلاني كان حسناً. فيشكر الله تعالى؛ وليته لم يفعل العمل الفلاني، فيصمم على تركه وعدم العودة إليه، ويستغفر الله تعالى. وكم اهتم القرآن بمسألة الاستغفار، ينقل في وصف أصحاب الرسول (ص) “رهبان الليل وأسد النهار”. ويقول القرآن: (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) (سورة آل عمران، الآية: 17). انظروا كيف يبين القرآن جميع الجوانب؟! فليس كمثل الصوفي لموط الذي يتحدث عن الاستغفار والعبادة فقط. “الصابرين” فأينما يذكرهم القرآن يذكر معهم الحروب، في الحقيقة ان “الصابرين” تعني المتحملين والصبورين عند الحرب “والصادقين” هم الذين لم ينحرفوا عن الصدق قدر شعرة “والقانتين” أي الذين يقنتون لله بخضوع قلبي، ويحتمل أن يكون معناها حسب ما جاء في آية أخرى: (قوموا لله قانتين) (سورة البقرة، الآية: 238). هو أنهم في تلك الحالة لا يكلمون أحد سوى الله، ويقطعون ارتباطهم بغيره (والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) كل هذا يجب توفره إلى جانب تلك الأعمال دائماً.
طريق الاعتدال
إننا أناس مفرطون، أي لو ابتلينا بأمر نسينا كل شيء. تقول الآيات في آخر سورة الفتح: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماههم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزارع ليغيظ بهم الكفار)
انها آية عجيبة. يقول: محمد رسول الله والذين معه، فليس النبي وحده، بل هو وأصحابه المتربين على يديه، واول صفة يذكرها هي قولهم أمام الأعداء، أشداء على الكفار، رحماء بينهم. فهذان القسمان يرتبطان بالجانب الإيجابي والسلبي من المعاملات والروابط الاجتماعية مع الأعداء والأصدقاء، عن ملاك العدو والصديق، ليس العدو والصديق الشخصي، بل الديني أو الإنساني ثم يذكر العبادة مباشرة، ولو كان قد اكتفى بذلك القول فقط فانه سيكون كباقي مذاهب اليوم الاجتماعية. لكنه يذكر مباشرة (امستغفرين بالأسحار): تراهم ركعاً سجداً، فهؤلاء الأشداء على الكفار والذين هم أسود في ساحة الحرب رحماء وعطوفون في ميدان الأخلاق، تراهم في العبادة أيضاً راكعين، ساجدين داعين الله وطالبين منه الفضل والرحمة، ترى في وجوههم أثر السجود، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وقليل من هذا الرضوان أفضل من جميع الجنان. ثم تأتي مرتبتان لعملهم الاجتماعي: يذكر مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع يبدأ نموه من ورقة رقيقة لكنه ينمو تدريجياً ثم يستقيم على سوقه، ثم يصل إلى حال يعجب الزراع من سرعة نموه (يبين نمو واتساع المجتمع الإسلامي).
يتحدث القرآن عن تمام الجوانب. أصيب مجتمعنا في زمن ما بمرض وهو أنهم كانوا يعرفون الإسلام في العبادة فقط، كان ملاك المسلم كثرة الذهاب إلى المسجد وقراءة الأدعية. واصبح ذلك مرضاً. ولكن ظهرت علامات مرض أخرى في أوساطنا بالتدريج. فالذين اهتموا بالجوانب الاجتماعية في الإسلام، يريدون غض الطرف عن الجوانب المعنوية فيه. وهذا مرض أيضاً فلو حصل الإنسان على جانب ونسي الجانب الآخر، فانه مجتمع منحرف كما كان المجتمع القديم منحرفاً. فالمجتمع الذي أوجده الرسول (ص) كان مجتمعاً معتدلاً، فعند مطالعة التاريخ، نرى أنه لا مثيل لهؤلاء في الدنيا. فكان كل واحد من المسلمين يشترك في حروب إيران والروم. وكان قائماً بالليل، وصائماً بالنهار، وهو في الوقت ذاته ضارب بالسيف، فلو كان يقوم الليل ويصوم النهار فقط، ولكنه لم يخرج من زاوية المسجد فهو ليس بمسلم. وان كان حاد السيف في ساحة الحرب فقط، وليس له أي عمل آخر، فهو إنسان يمشي وراء طمعه كباقي المقاتلين وفاتحي الدول الذين يسعون وراء طمعهم.
يجب علينا أن لا ننسى أن الإسلام ككل مركب آخر، عندما تفقد أجزاؤه تعادلها وتوازنها، فانه سوف ينتهي، فنرى في تركيب جسم الإنسان والذي له كثير من الاحتياجات كالحاجة إلى الفيتامينات، عندما تقل أو يكثر أحدها سوف يفقد الإنسان سلامته.
إذن من جملة الأشياء التي يجب التوجه إليها وتربيتها في المرحلة الأولى في أنفسنا وفي أولادنا هي الشعور والإحساس بالعبادة بمعناها الحقيقي. فإن مجرد الانحناءات والقيام الشكلي في الصلاة، دون أن يفهم الإنسان ماذا يفعل، ودون أن يعي معنى المناجاة، وما هو التضرع والاعتراف وما معنى الانقطاع إلى الحق، وما معنى مرور لحظات على الإنسان ينسى فيها كل شيء غير الله، فهذه ليست عبادة. وأيضاً عندما يمسك الإنسان عن الطعام فقط من الصباح حتى الغروب طيلة شهر رمضان، فهي ليست عبادة أيضاً. فيجب تربية هذا الاحساس فينا ليحصل أحد أركان التربية الإسلامية.
إشكال وجواب
قد يقال: إن العبادة تعني السير التكاملي الذي عينه الله لكل موجود ليحصل على كماله، ويشمل جميع الموجودات (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فإنه تعالى مستغن عن هذه الصلاة والصيام، إنه خلق الموجودات لأجل أن يطوي كل إنسان طريق تكامله ويصل إلى هدف الخلقة.
والجواب: إن لدينا ثلاثة مطالب: وفي الوقت ذاته تلزم تكملة.
أحدها: ما ذكر في القرآن في باب العبادة التكوينية، فإن القرآن يسمي كل عمل يقوم به أي موجود، في أي مكان ورتبة ومقام كان تسبيحاً وعبادة؛ وهذا على أساس أن كل الموجودات تسير نحو الكمال. والكمال المطلق هو الله تعالى، أي أن كل شيء يتحرك، نحو الله. وهذا موضوع خارج عن بحثنا.
الثاني: عبادة الإنسان، أي أعماله الاختيارية، وقد قال الفقهاء: إن أي عمل يقوم به الإنسان بداعي رضى الله تعالى يكون عبادة. طبعاً العمل الذي يكون ذا صلاحية في وجوده، أي الذي يكون حسناً وصالحاً بحد ذاته، فلو فعله الإنسان لله، وكان الداعي لذلك والهدف منه هو الله، فهو عبادة. ولهذا يمكن أن يكون نوم الإنسان عبادة أيضاً. قيل: إن الإنسان لو نظم حياته بحيث يقوم بكل عمل في محله ووقته، ويربي نفسه بحيث تكون جميع أعماله لله واقعاً فهو في حالة عبادة ليلاً ونهاراً، فنومه عبادة، ويقظته عبادة، وأكله ومشيه وارتداؤه الملابس عبادة، وكل أعماله عبادة؛ لأن من المفروض أن يقوم بكل ذلك لله.
وعلى هذا الأساس لا تكون للإنسان لحظة لا يكون فيها مجال للعبادة. ولكن لا يحسن أن يؤدي هذا إلى تصورنا أن العمل إذا كان فيه مصلحة وفعله الإنسان لله فهو عبادة، إذن أنا في عبادتي من المفترض أن قمت بعملي لله فتكون تلك عبادة. إذن لا حاجة لتلك العبادة التي روحها هو ذكر الله، والتفرغ له ونسيان غيره والانقطاع إليه. كلا، بأية حال تجب تلك العبادة في محلها. فإن لم تكن تلك لم تتحقق هذه. وتلك هي العمل الذي يكون محضاً للعبادة، ولا مصلحة فيه غير العبادة.
في الإسلام نوعان من العمل: فواحد يسمى “محض العبادة” أي العمل الذي لا نفع فيه غير العبادة، كالصلاة. والآخر فيه مصالح ومنافع للحياة، ويمكننا (بل يجب علينا) أن نصوغه بصورة العبادة، فإذن أي عمل عندما يكون لله ولأجل رضاه فهو عبادة، هذا صحيح جداً، ولكن بشرط أن لا نتوهم أن هذا العمل يغنينا عن تلك العبادة التي تختص بالتوجه إلى الله واستغفاره تعالى. لا، فهذه لا تغني الإنسان عن تلك، كما لم يستغن الرسول (ص) عن تلك، وهكذا أمير المؤمنين (ع) كل إنسان لا يستغني عن تلك العبادة.
وثمة سؤال آخر: وهو هل يقع الإنسان تحت تأثير الميل في أعماله؟ عندما يقوم الإنسان بعمل، فهو اما لحفظ اعتباره وشرفه أو لأجل مصلحته أو لأجل الأوامر الدينية، وإنه لو لم يفعله سوف يحزن ويتألم، إذن فإن الإنسان يقوم بالعمل تحت تأثير قوة جاذبة، وان الإرادة ليست مستقلة.
والجواب: هذا السؤال يناسب بحث الإرادة. وقد بينا في مسألة الإرادة الجانب التربوي فقط، فعندما تطرح مسألة الإرادة في باب التربية فسيبحث عنها من جانب واحد. وفي أماكن ومواضيع أخرى تطرح بقية جوانبها. وان ما يطرحه السؤال واقع في باب الجبر والاختيار ولا يمكننا الآن بحثه، وقد بينا معنى الاختيار في الجزء الثاني من كتاب (اُصول الفلسفة) وذكرنا هناك مسائل جديدة لم تذكر في كلام القدماء، ولم نشاهدها في كلام المعاصرين أيضاً. وهكذا ما هو ملاك المسؤولية؟ ومعنى كون الإنسان مسؤولاً، وكيف يجب أن يكون حتى يعد مسؤولاً؟ وكيف يكون لكي لا يعتبر مسؤولاً؟ ثم تطرح مسألة رابطة الإرادة بأنه هل يقع الإنسان تحت تأثير الميل عندما يريد استخدام إرادته، أو أن دور الإرادة هو اختيار ميل واحد من بين الميول المختلفة والمضادة، فلم نقل: إن الإرادة هي من شؤون العقل، قلنا إن الإرادة مرتبطة بالعقل هي القوة التنفيذية للعقل، وليست الإرادة هي عين العقل. الإرادة قوة أخرى في الإنسان. فما أكثر أصحاب العقول القوية لكن إرادتهم ضعيفة، وما أكثر أصحاب الإرادة القوية ولكن عقولهم ضعيفة، فهما قوتان، لكن عمل الإرادة تنفيذ نظريات العقل. أحياناً يحكم العقل بشيء لا يميل له الطبع، أي أن كل الميول معاكسة له. إن الميل لا يعرف المستقبل أصلاً، وهذا من خصائصه، الميل ما موجود عند الطفل، فعندما يريد الطعام، فإنه يريده الآن؛ فعندما يقال له: لا تأكل الآن حتى تشفى من المرض، فإنه يعاند ويقول: لا، أريد أن آكل الآن حتماً.
الميل متعلق بالزمن الحاضر، أي لا توجد الآن شهية لأربعين عاماً القادمة؛ فالشهوة الموجودة تتعلق بالآن الحاضر، ولكن العقل يقول: رب أكلة منعت أكلات. فمع أنه لا يوجد ميل للأكل الآن، إلا أن العقل يفكر ويبرمج ويختار.
——————————————————————————–
[1] نهج البلاغة، خطبة: 16.
[2] اختلفت الروايات في هذا، فورد في نهج البلاغة (شكراً) وفي أقوال الرسول والأئمة (ع) (حباً).
[3] نهج البلاغة، الحكمة 229، مع اختلاف في العبارة.
[4] نظراً لاختلاف الظروف، فعندما يكون (ص) مشغولاً بأعمال كثيرة، كانت العبادة اقل، ولكن لم تقل عن ثلث الليل وحينما يكون متفرغاً تطول عبادته إلى ثلثي الليل.
[5] سورة الفتح، الآية: 2.
[6] قلَّ ورود كلمة (العشق) في التعابير الإسلامية حتى قال البعض يجب عدم استعمال هذه الكلمة، وكانوا يخالفون كثرة استعمالها بواسطة الشعراء ويقولون يجب استعمال كلمة الحب بدلاً عن العشق وأجابهم آخرون بأن كلمة العشق استعملت بقلة في المصطلحات الإسلامية، لكنها لم تنعدم كلياً فيها. ومن المجالات التي استعملت فيها ما ذكرناه هنا. وأخرى حين كان الإمام علي (ع) عائداً من حرب صفين أو ذاهباً إليها (الترديد مني)، فعندما وصل كربلاء، أخذ قبضة من التراب وشمها ثم قال: “واهاً لك أيتها التربة، هاهنا مناخ ركاب ومصارع عشاق” ثم ذكر كلاماً آخر يبين فيه حادثة كربلاء.
[7] الكافي، ج2، ص83.
[8] بحار الأنوار، ج41، الباب 101 ص14، مع اختلاف يسير.
[9] نهج البلاغة، الحكمة: 147.