كان بحثنا عن عوامل التربية، وقد ذكرنا عدة عوامل، وسنكمل الآن بحثنا بذكر عامل مهم، وهو: العمل.
إن العمل لم يكن أكثر فائدة من غيره من العوامل فإنه لا يقل عنها. ويتصور الإنسان أن العمل معلول الإنسان وأثره، غذن فالإنسان مقدم على العمل، أي أن كيفية الإنسان مقدمة على كيفية العمل. وهذا غير صحيح، فالتربية مقدمة على العمل، والعمل مقدم على التربية أيضاً. أي أن كليهما علة ومعلول للآخر، الإنسان صانع وموجد العمل، والعمل موجد كيفية الإنسان.
العمل في النظرة الإسلامية
إن البطالة مرفوضة في الإسلام، وان العمل أمر مقدس فيه، وعندما يراد تقديس شيء في لغة الدين يقال: إن الله يحب الأمر الفلاني. فمثلاً ورد في الحديث: “إن الله يحب المؤمن المحترف”[1] وقوله: “الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله” والحديث النبوي المعروف الذي يقول: “ملعون من ألقى كله على الناس”. وحديث آخر مذكور في البحار وبعض الكتب، وهو عندما كان المسلمون يذكرون في حضور الرسول (ص) شخصاً ويمدحون صفاته، يسأل النبي (ص) ما عمله؟ فإن قالوا: إن عاطل ليس له عمل، قال (ص): سقط من عيني ولنا أحاديث أخرى بهذا الشأن.
ويفهم من الحكايات والقصص التي تروى عن الرسول وأمير المؤمنين وسائر الأئمة (ع)، ان العمل والاشتغال به أمر مقدس في نظر قادة الإسلام. وهذا تماماً بعكس ما هو موجود بين المتصوفة والزهاد. وأحياناً بعكس ما رسخ في أذهاننا من أن العمل يسوغ عند الفقر والمسكنة فقط. فنقول لمن يعمل: أنه مسكين محتاج فهو مجبر على العمل. في حين أن المسالة لا ترتبط بالحاجة وعدمها.
فأولاً: ان العمل واجب وتكليف شرعي، فحديث “ملعون من الق كلّه على الناس” هو حول هذا الأمر. لكننا لا نبحث الآن عن العمل من هذه الجهة، وان العمل تكليف اجتماعي، وان للمجتمع حقاً في ذمة الإنسان، وكل ما يستهلكه هو نتاج عمل الآخرين. ولو قبلنا النظرية الماركسية فإن قيمة الثروة وكل ما له ثمن وقدر يرتبط بالعمل المنجز لإيجاده. أن أن السلعة هي في الواقع تجسيم العمل المبذول فيها، وان لم تكن كلها[2] . فالملابس التي نرتديها، والطعام الذي نأكله والحذاء الذي نلبسه، والبيت الذي نعيش فيه، وكل ما نراه هو نتاج عمل الآخرين وهكذا الكتاب الذي نطالعه هو محصول عمل الآخرين: المؤلفن وصانع الأوراق والذي يطبعه، ويجلده وغيرهم. ان الإنسان في مجتمعه الذي يعيش فيه غارق في نتاج الآخرين؛ ولو أراد الفرار من العمل بأي عذر كان فسينطبق عليه قول الرسول (ص) بأنه ألق كلّه على الناس بدون أن يتحمل أقل وأصغر حمل لصالح الناس.
وعلى كل، لاشك في أن العمل واجب وتكليف، ولكننا نبحث عن العمل من الجانب التربوي. وبعبارة أخرى؛ وان لم تصح هذه اللابدية والتكليف الاجتماعي بالعمل فإن العمل لازم لبناء الفرد. فالإنسان موجود متعدد الجهات، فله جسم وقوة تخيل وعقل وقلب الخ، فالعمل ضروري لجسم الإنسان، والعمل ضروري لتخيله، والعقل وفكره، وهكذا فهو ضروري لقلبه وأحاسيسه. أما ضرورته للجسم فلا تحتاج إلى توضيح، لأنها أمر محسوس. فإذا لم يعمل جسم الإنسان فسوف يمرض. أن ان العمل أحد عوامل حفظ الصحة. فلا ضرورة للبحث حول هذا الأمر. ولنبحث عن قوة التخيل.
العمل وتمركز قوة التخيل
إن ذهن الإنسان وخياله يعمل دائماً. فعندما يفكر الإنسان باستمرار بالأمور العاُمة والكلية، ويحصل على النتائج من المقدمات، فهذا ما نسميه بالتفكير والتعقل، ولكن عندما يجول خيال الإنسان بدون انتظام وبدون إرادة الاستنتاج وكشف الرابطة المنطقية بين القضايا والأمور المختلفة، فهذه حالة عارضة إن لم يمتلك الإنسان تخيله وفكرة فيها فهي من الأمور التي تفسد الإنسان، أي إن الإنسان بحاجة إلى تمركز قوة الخيال. فلو كانت قوة الخيال حرة فستكون منشأ فساد الإنسان الأخلاقي. يقول أمير المؤمنين (ع): “النفس إن لم تشغله شغلك” فبعض الأشياء إن لم يشغلها الإنسان لا يحدث شيء كالجماد. فلو وضعت الخاتم الذي يلبسه على الرف أو في الصندوق فلا يحدث شيء. لكن نفس الإنسان شيء آخر، يجب تشغيلها دائماً. أي يجب أن تكون دائماً مشغولة بعمل يؤدي إلى تمركزها وتحريضها على العمل، وإلا فإن تركتموها فإنها سوف تجبركم على الاشتغال بما يحلو لها، وحينئذٍ ينفتح باب الخيال أمام الإنسان إلى أن تجره هذه التخيلات إلى آلاف الأنواع من الذنوب. وعلى العكس من ذلك يكون للإنسان عمل وشغل فإنه يجذب الإنسان نحوه ولا يمنحه مجالاً للفكر والتخيل الباطل.
العمل ومنع ارتكاب الذنب
هناك كتاب يسمى “الأخلاق” لـ”صاموئيل سمايلز” وهو من الكتب الجيدة في هذا المجال، وكتاب آخر يسمى “في أحضان السعادة” وهو كتاب جيد أيضاً ولا أتذكر في أي الكتابين قرأت أن: الذنب، هو انفجار غالباً، كماكنة البخار لو سلطت عليها الحرارة ولم يكن لها أي منفذ، ولا صمام للأمان، فسيحدث انفجار في النهاية. وقصده أن الإنسان بحكم كونه موجوداً حياً يجب أن يكون في حالة تفاعل مع الطبيعة. وقد بين المهندس بازركان في كثير من كتبه ان الإنسان في حالة تفاعل مع الطبيعة، فهو يأخذ القوة والطاقة من جانب، ولكن يجب أن يصرف ويستخدم هذه الطاقة ـ جسمية كانت أو روحية ـ في محلها المناسب. وهكذا القوة الخيالية للإنسان، فعندما يأخذ جسم الإنسان طاقة يجب أن يصرفها، وبالتالي يجب أن يتكلم لسانه، ويجب أن ترى عينه وأن تسمع أذنه، وتتحرك يده ورجلهز أي أن الإنسان لا يمكنه أن يأخذ الطاقة من الطبيعة باستمرار ثم لا يستخدمها بل يحفظها في نفسه، فعدم الاستخدام هذا تماماً كماكنة البخار التي تأخذ الطاقة وتخزنها فانها ستنفجر بالتالي. والأفراد الذين يعطلون هذه القوى في أنفسهم فإنها ستسعى للخروج بأي طريق كان دون أن يشعر الإنسان بما أنه لم يضع طريقاً حيحاً ومشروعاً لخروجها فإنها ستخرج من طريقة غير مشروع فأغلب الحكام مجرمون، وأحد أسباب إجرامهم هو عطلهم عن العمل الصحيح؛ لأن المقام الرفيع يقتضي أن لا يقوم الحاكم بأي عمل ن أعماله الخاصة. فمثلاً لو أراد تدخين سيجارة فسوف يحضرها له شخص آخر بمجرد الإشارة ويشعلها له آخر، فلا يتعب نفسه حتى في إشعالها. وهكذا عندما يريد لبس حذائه وارتداء ملابسه يعينه عليه الآخرون في حين يجلس هو عاطلاً دون أي عمل ويعتبر قيامه بالعمل مهما كان سهلاً دون شأنه ومقامه.
يقال عن أن أحد أمراء خراسان سابقاً: انه كان يلبس جبة جميلة من الخز، فوقعت نار على جبته، فكان يرى أن إزالته للنار عن ثوبه سوف يقلل من شأنه أمام الآخرين. فنادى على الحاشية، وإلى أن جاؤوا احترق بعض جبته وبدنه. وكان حينما يريد مسح أنفه يأمر آخراً أن يمسحه له.
فسبب إقدام هؤلاء الاشخاص على الجرائم والخيانات هو أن الآداب والعادات الاجتماعية لا تدعهم يستخدمون طاقاتهم في محلها المناسب والصحيح.
المرأة والغيبة
اشتهرت المرأة قديماً بكثرة الغيبة. وعرفت الغيبة كخصلة للنساء؛ في حين أنها ليست كذلك فلا فرق بين الرجل والمرأة. بل ان السبب هو أن المرأة وخصوصاً نساء الأثرياء اللاتي يمتلكن الخدم الذين يقومون بجميع أعمالهن ـ لم يكن لهن أي عمل لا في داخل البيت ولا في خارجه. وعليها أن تجلس من الصباح وحتى المساء لا تقوم بأي عمل، ولم تكن من أهل العلم والمطالعة، فعليها أن تجد امرأة مثلها؛ تجلس إليها، ولكن ماذا تعمل معها؟ انه ليس إلا الغيبة، وذلك أمر ضروري لأمثالهن.
كتبت إحدى الجرائد أنه كان القمار شائعاً في إحدى ولايات أمريكا بحيث تعودت عليه النساء، وأصبح كمرض مزمن في جميع البيوت. فبدأ الجميع يشكون من كثرة لعب النساء بالقمار. فتركوا علاجه بيد الوعاظ أولاً لتخليص الناس من هذا المرض. ولكن للمرض علة؛ وان لم يقض على علته لا يمكن القضاء عليه، فشرع الوعاظ بالموعظة حول أضرار القمار وآثاره الأخروية؛ ولكن دون جدوى. وجاء رئيس البلدية وقال إنني سأعالج هذا المرض، فبدأ بتشجيع الأعمال الفنية، وجعل جوائز قيمة للمسابقات بين النساء في هذه الأمور. فلم يمض وقت طويل حتى تركت النساء القمار وشرعت بممارسة تلك الأعمال.
لقد عرف ذلك الرجل العلة وأدرك أن علة توجه النساء إلى القمار هو البطالة واحتياجهن إلى عمل ينشغلن به. لذلك أوجد لهن عملاً آخر، فاستطاع بذلك أن يقضي على القمار.
ولهذا فإن أحد آثار “العمل” هو منع الذنب. غنني أقول إن الأمر هكذا تماماً، ولكن منشأ كثير من الذنوب هو البطالة وعدم العمل. وتحدثنا في البحث السابق عن الإثم الفكري والخيالي، وان الإثم لا ينحصر بمرحلة العمل، على العكس من التفكير بعمل الخير، فإن لم يصل إلى مرحلة العمل بسبب مانع فإنه يعتبر بمنزلة عمل الخير نفسه عند الله تعالى.
تشخيص الاستعداد عند اختيار العمل
إضافة إلى أن العمل مانع من الإنفجار فإنه يمنع الأفكار والوساوس الشيطانية أيضاً. ولهذا يقال إن على الإنسان أن يختار العمل الملائم لاستعداده ومواجه، ليجذبه إليه. فإن لم يكن العمل مطابقاً لاستعداد الإنسان ويريد الإنسان القيام به لأجل أجرته فقط، فلن يكون له أي أثر تربويز بل يمكن أن يكون منشأ فساد لروح الإنسان أيضاً، وعندما يختار الإنسان عملاً يجب أن يرى مدى استعداده له ايضاً فليس هناك شخص يخلو من الاستعداد، ولكن الإنسان لا يعرف العمل الذي يلائمه فلذلك يقوم بالأعمال التي لا استعداد له فيها، فهو حزءن دائماً. والطالب يسعى بأي نحو كي لا يقضي سنتين من عمره في الخدمة العسكرية فهو متشوق إىل الدخول إلى الكلية بسرعة ويدخل في أي مجال أو فرع يسمح له به معدله الدراسي. ويختار المكان الذي يكون دخله فيه كثيراً، وكثيراً ما يختار العمل الذي لا علاقة له به أي أنه يترك مصيره إلى نهاية عمره بيد غيره، فلا يسعد هذا الإنسان أبداً. فنرى الكثير ممن ليس لهم ذوق أدبي يسجلون في قسم الآداب بالرغم من تخصصهم العلمي، فلا يكون منجذباً ومنشداً إلى موضوع دراسته ولا شوقه إلى آخر عمره.
والأعمال الإدارية كذلك غالباً. ويمكن أن تكون بعض الأعمال الإدارية مشوقة، ولكن ليس في العمل الإدارة ابتكار أو تغيير، بل هو عمل تكراري. وان الفرد مجبر على الجلوس خلف الطاولة لساعات عديدة رغماً عنه لكي لا يسجل عليه غياب ويقلل من راتبه. وهذا ما يحدث أضراراً لروح الإنسان وفكره. فعلى الإنسان أن يختار العمل الذي يعشقه ويتعلق به، ويمتنع عن العمل الذي لا يتعلق به وان كان عائده المالي كثيراً. فيجب مراعاة هذا الجانب في العمل، ليكون مبتكراً في مجال عمله.
العمل واختبار النفس
ومن هنا تظهر إحدى خواص العمل، “أي اختبار النفس” فمن الأشياء التي يجب على الإنسان اختبارها هي النفس. فإن الإنسان لا يعرف امكاناته ومواهبه قبل اختبار نفسه؛ وانه يكشف استعداداته بالاختبار والتجربة. وبالعمل يكشف الإنسان نفسه. واكتشاف النفس أفضل الاكتشافات. فلو مارس الإنسان عملاص ورأى عدم استعداده له، فإنه يختار عملاً آخر وهكذا إلى أن يحصل في النهاية على العمل المطلوب والملائم له. وحينما يكتشف ذلك العمل سيكون له ذوق وعشق له وسوف لن يهتم بمقدار دخله. وعندها سيبتكر الابداعات، والابداع من صنع العشق لا المال ولا الدخل إذ يمكن إيجاد العمل بالمال، لكن لا يمكن إيجاد الإبداع بالمال أيضاً. فيجب أن يعشق الإنسان عمله حقاً. إذن فمن خواص العمل هو أن الإنسان يختبر ويكتشف نفسه به.
العمل والتفكير المنطقي
قلنا أن التفكير المنطقي هو أن يطلب الإنسان النتائج من المقدمات الموضوعة في الخلقة والطبيعة. فلو كان تفكير الإنسان في أخذ النتائج من أصل الخلقة دائماً فتفكيره هذا منطقيح أما لو أراد الإنسان الوصول إلى أهدافه وامنياته عن طريق لا يوصله إلى تلك الأهداف في عالم الخلقة، وان أوصله فعن طريق الصدفة، فتفكيره هذا ليس منطقياً.
فمثلاً يمكن أن يصبح الإنسان ثرياً عن طريق العثور على كنز في صحراء أو في أرض اشتراها، أو أن تزداد أمواله بطرق أخرى يختبر فيها الإنسان. فلو يطلب الإنسان الغني من هذه الطرق دائماً. فإن تفكيره غير منطقي. أما لو أراد الإنسان مالاً عن طريق التكسب، وحتى لو كان مورده ضعيفاً، فإن تفكيره هذا منطقي، الإنسان بالعمل سيكون تفكيره منطقياً، أي أن يلمس رابطة العلة والمعلول والمسبب في العمل. ولأنه يلمس ذلك، فسينطبق فكره على قوانين العالم، ولا يكون شيطانياً وخيالاً وأمنية، بل يكون منطبقاً على ما هو موجود فعلاً. وما هو موجود هو المنطق والقانون.
وهذا ما ذكرناه من أن للعمل تأثيراً على عقل الإنسان وفكره، بغض النظر عن أن الإنسان يحصل على التجربة والعلم بواسطة العمل. والعمل أم العلم وأصله. أي أن البشر يحصل على العلم بالتجربة والعمل؛ اضافة إلى أن العمل يربي وينظم ويقوي عقل الإنسان وفكره.
أثر العمل في شعور الإنسان
إن العمل يؤثر في شعور الإنسان، وما يسمى “بالقلب” في مصطلح القرآن. ذلك الشيء الذي ينسب إليه الخشوع، والرقة، والقسوة والنور والظلام، نقول: إن فلاناً رقيق القلب. وفلاناً قاسي القلب؛ أو نقول: أظلم قلبي، أو تنور قلبي، فمن آثار العمل هو فتحه القلب خشوعاً وخضوعاً، أي أنه يحول دون قسوة القلب. وان البطالة تجلب قسوة القلب. وبما أن العمل معلول فكر الإنسان وروحه وخياله وقلبه وجسمه فإنه في الوقت نفسه صانع الخيال والعقل والفكر والقلب، وبشكل عام صانع ومربي الإنسان.
العمل والشعور بالشخصية
والفائدة الأخرى للعمل هي مسألة حفظ الشخصية والشرف والاستقلال، فمثلاً لو تعرضت شخصية الإنسان إلى الإهانة وانفضح وحقر فإنه سيحزن ويتألم. وبما أن الإنسان يستغني عن الآخرين بواسطة العمل ـ خصوصاً لو كان مقروناً بالابداع ـ فإنه يشعر بالشخصية أمامهم، أي لا يشعر بالحقارة بعد ذلك.
هناك بيتان في الديوان المنسوب لأمير المؤمنين (ع) هما:
أحب إلي من منن الرجال
فإن العار في ذل السؤال
لنقل الصخر من قمم الجبال
يقل الناس لي في الكسب[3] عار
ويقول أحد الشعراء:
واقطع الآمال من مال بني آدم طرا
أنت ما استغنيت عن غيرك أعلى الناس قدرا
كُدّ كدّ العبد أن أحببت أن تصبح حرا
لا تقل ذا مكسب يزري فقصد الناس أزرى
فهذا الأمر ضروري للإنسان والعيش بحرية، وعدم تحمل منة الآخرين. هو أكثر الأشياء قيمة وقدراً لمن يشعر بالإنسانيةن ولا يمكن ذلك دون أن يكون للإنسان عمل يعتمد به على نفسه.
وصية الرسول الأكرم
في اُصول الكافي وردت هذه القصة:
افتقر أحد أصحاب الرسول (ص) جداً بحيث أصبح محتاجاً لخبز ليله. فقالت له زوجته مرة: اذهب إلى الرسول (ص) لعلك تستعين به. فذهب الرجل وتشرف بالحضور عند الرسول (ص) وجلس في مجلسه وانتظر ليخلو به وتسنح له الفرصة ليحدثه، ولكن قبل أن يطلب حاجته قال الرسول (ص): من سألنا أعطيناه ومن استغنى عنا أغناه الله” وما أن سمع هذا الكلام حتى سكت وعاد إلى بيته. وبقي على فقره، فجاء إلى الرسول مرة ثانية بتحريض من زوجته. وفي ذلك اليوم كرر الرسول (ص) تلك الجملة السابقة في أثناء كلامه. يقول الرجل: كررت هذا العمل ثلاثاً، وعندما سمعت هذه الجملة في اليوم الثالث فكرت بأنه ليس صدفة أن يذكر الرسول (ص) هذه الجملة أمامي ثلاثاً. فيتبين أن الرسول يريد أن يقول لا تدخل من هكذا طريق. شعر الرجل في المرثة الثالثة بقوة في قلبه، وقال يظهر أن للعيش طرقاً أخرى، وهذا الطريق ليس بصحيح. ففكر بأن يذهب ويبدأ من نقطة ما، ليرى ماذا يحدث. وقال مع نفسه: إنني لا أملك شيئاً، ولكن ألا أستطيع جمع الحطب؟ ولكن جمع الحطب يحتاج دابة وحبلاً وفأساً. فاستعار هذه الوسائل من جاره. فجمع حطباً ونقله على الدابة وباعه ثم أخذ المال الذي حصل عليه إلى البيت وصرفه لمعيشته ورأى نتيجة عمله لأول مرة وذاق طعمها. وكرر ذلك في اليوم الثاني وصرف بعض المال الذي حصل عليه، وخزن بعضه، وظل يعمل إلى أن اشترى حبلاً وفأساً ودابة، وتأمنت معيشته عن هذا الطريق تدريجياً. فذهب يوماً إلى الرسول (ص) فقال له الرسول (ص): من سألنا أعطيناه ومن استغنى عنا أغناه الله” فإنك لو سألتني في ذلك اليوم لأعطيتك، ولكنك تبقى فقيراً إلى نهاية عمرك. وبما أنك توكلت على لله وبحثت عن العمل فقد أغناك الله تعالى.
العمل في نظرة ناصر خسرو
هناك شعر لناصر خسرو يقول: إن كان الرجل كثير العمل وحالفه الحظ، فإنه سيخرج ذهباً من التراب الداكن، وإن العالم يعظم قدر من لا يتعلل ولا يتعذر من صغر العمل وقلته”.
كن عظيماً وقوياً ولا تكن حزيناً على قلة العمل، فمن سنة بعد أخرى يظهر الدهر ورداً من الشوك”.
إن الطبيعة تنتظر عاماً كاملاً لتخرج الورد من التراب ـ أي عليك أن تتعليم هذا الدرس من الحياة والطبيعة.
“إن الثروة حصن كبير محكم، ولولا السعي والمجهود لا يجد المرء ثروة في بابه”.
“من كان أهلاً للعمل كان ذلك ظاهراً فيه، كما تظهر الرؤية في المرآة”.
يريد أن يقول أن فن واستعداد كل فرد يظهر في وجهه.
العمل في رأي بازركان
جاء في مجلة “الصحة النفسية” ان باستور العالم المعروف قال: “صحة الإنسان النفسية في المكتب” يعني أن الصحة النفسية ترتبط “بالعمل” والإنسان العاطل يمرض لا إرادياً، وأنا أقول: إنها لا تختص بالمكتب، فجميع الأعمال التي يمكنها أن تجذب الإنسان وأن تصنع فكرة فهي حسنة وجيدة. ونقل في المجلة نفسها عن “ولتر” أنه قال: كلما شعرت بأن المرض يريد أن يهلكني لجأت إلى العمل، فالعمل أفضل علاج لآلامي الداخلية”.
وفي كتاب الأخلاق “لصاموئيل سمايلز”ح “بعد الدين، لا توجد مدرسة لتربية الإنسان أفضل من مدرسة العمل” ونقل عن (بنيامين فرانكلين) أنه قال: “عروس الحياة اسمها العمل، فلو أردت أن تكون زوجاً لها، فسيكون اسم ابنك السعادة. وقال “باسكال””: “العطل والبطالة مصدر كل المفاسد الفكرية والأخلاقية. فعلى كل دولة تريد رفع هذا العيب الاجتماعي الخطير أن يشجع الناس على العمل، لتستقر الراحة العميقة للروح التي لا يعرفها إلا القليل في كل الوجود.
وقال سقراط: “العمل أصل السعادة”.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
——————————————————————————–
[1] الوسائل ج12، ص13 مع اختلاف بسيط.
[2] أثبت الأستاذ الشهيد في كتاباته الاقتصادية ان هذه النظرية مردودة وان العمل أحد أسباب عوامل القيمة. وهذه النظرية صحيحة، ولكن مع ذلك فإن قيمة كل شيء يستعمله الإنسان وقدره في العمل المنجز عليه.
[3] إن الأعمال التي نسميها كسباً، كان يقوم بها علي (ع) كحفر الآبار وزراعة الأشجار واحياء البساتين وأحياناً العمل لغير المسلمين لأخذ الأجرة منهم. كان (ع) يعمل أحياناً في بساتين المدينة لبني قريظة وبني النظير الذين هم من يهود المدينة ويأخذ أجرته ويعيش بها.