“لم نعد مستودع الأشياء المسروقة من العالم. لقد أطلق القطاع المصرفي عملية تخليق، كما استنتج أنه ليس من الضروري ممارسة التلاعب لتحقيق النجاح. فقوة الفرنك والاستقرار السياسي والمؤسسات التي تعمل بانتظام، عوامل كافية اليوم لضمان نجاحه”. هذا ما قاله النائب الديموقراطي في مجلس النواب السويسري جاك نايرينك، تعقيباً على التحركات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة السويسرية، لمواجهة أزمتها مع الدول التي وضع مسؤولوها المتهمون بالفساد، أموالهم فيها. لكن الأمر المُستغرب في هذا الموضوع هو أن العديد من رؤوس الأمول، كانت تجد في سويسرا ملاذها، الأمر الذي جعل الكثير من المسؤولين السياسيين وآخرين، يعتبرونها ملاذاً لثرواتهم التي يريدون إخفاءها. لكن اليوم، وبين الضغط السياسي ولعبة المصالح، تغيَّرت الأمور. فما هو الجديد؟
القانون الجديد المتعلق بالسرية المصرفية
يعد القانون السويسري الأخير، والذي اتخذ في 30 تشرين الثاني الماضي، أي منذ ما يقارب الأربعة أشهر، أحد أهم القوانين الخاصة بردع المسؤولين الذين يلجؤون إلى سويسرا لوضع أموالهم غير الشرعية غالباً، أو ما يُعرف بالأموال المغسولة. وهنا فقد أشار الكاتب ساموئيل يابيرغ في مقالٍ نُشر في موقع “swissinfo” خلال شهر كانون الأول 2015 تحت عنوان “البرلمان السويسري يُقرّ قانوناً نموذجياً لمحاصرة وتعقّب أموال الطغاة”، أن القانون الجديد يُعتبر الأبرز قانونياً وأخلاقياً، حيث يوفر إمكانية استرداد الأصول غير المشروعة للمسؤولين الذين أزيحوا من مناصبهم. وهنا فإن الهدف الرئيسي للقانون هو “تجميد وإعادة الأصول المتأتية من مصادر غير مشروعة لأشخاص معرّضين للمحاسبة سياسيًّا في الخارج”. كما أنّه وفّر الدليل على أن مصدر أصول حكامهم السابقين غير مشروعة، وهو الأمر الذي كان عائقاً أمام استرداد أموال ما سُمي بالربيع العربي.
كيف رضخت سويسرا؟
أشار الكاتبان بالتس بروبّاخَر وإيفا نوفاك، في مقالٍ تحت عنوان، “وصفات للتعامل مع أموال الطغاة”، أن الضغوط الهائلة التي تعرضت لها سويسرا أدت، إلى الموت البطيء لما سُمي بالسرية المصرفية، خاصة بعد فضيحة المصارف السويسرية، والتي ارتكبت مخالفات قانونية في الدول التي تعمل بها في الخارج، وساهمت في تهريب وإخفاء ودائع في حسابات سرية. وهنا فمن المعروف أن الإتحاد الأوروبي وأمريكا قاما بالضغط على الحكومة السويسرية، من أجل تغيير كل ما يسمح للمسؤولين السياسيين بوضع أموالهم بسهولة في البنوك السويسرية. الأمر الذي دفع سويسرا، لقبول تبادل تلقائي للمعلومات والبيانات حول ثروات رعايا الإتحاد الأوروبي وأمريكا. كما مارست منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية ومجموعة الثماني ومجموعة العشرين ضغوطًا على سويسرا حين وضعتها ضمن قائمة الدول غير المتعاونة في مكافحة التهرب الضريبي، وهددت سويسرا بتعريضها لعقوبات اقتصادية. الأمر الذي جعل سويسرا ترضخ، لتوقيع اتفاقيات تحتم على بنوكها تزويد السلطات الأجنبية ببيانات المودعين الأثرياء، واستقطاع الضرائب المستحقة على الثروات المودعة في بنوكها وتسليمها خاصة إلى السلطات الأمريكية وسلطات الدول الأوروبية المعنية.
وبحسب مقابلةٍ أجراها الكاتبان مع باسكال بايريسفيل، نائبة مدير إدارة القانون الدولي العام في وزارة الخارجية السويسرية، أشارت الأخيرة الى توجهات جديدة بقولها: “نحن نتَّبع في حالة إعادة أموال الحكام الطُغاة المُكتسبة بطُرُق غير مشروعة، أو ما يُعرف باسترداد الموجودات ثلاثة توجهات رئيسية. منها الحيلولة دون الإفلات من العقاب، والبُعد التنموي السياسي ذو العناصر الإيجابية والسلبية. سلبية بمعنى ضرورة حماية الساحة المالية من وصول أي أموال غير مشروعة إلى بلدنا، أي تقديم الدعم للدول التي تمر بمرحلة انتقالية بكافة إجراءات التعاون الملموسة”.
نبذةٌ عن أهم الأموال المجمدة في البنوك السويسرية
فيما يخص ليبيا، يوجد في بنوك سويسرا بحسب الإحصائيات الرسمية، حوالي 650 مليون فرنك من أصل 220 مليار دولار لليبيا، مهربة في دول العالم. لكن ما يميز ليبيا عن دول الربيع العربي أنها حصلت على جزء من أموالها المجمدة بسويسرا. كان ذلك بعد قرار مجلس الأمن الدولي بتسريح قسم من تلك الأموال للإيفاء بالإحتياجات الإنسانية للشعب الليبي، حيث تمكنت ليبيا من سحب 385 مليون دولار كدفعة أولى من الأموال المجمدة في البنوك السويسرية، ومع هذا ما زالت الظروف الداخلية في ليبيا تعيق عملية استعادة باقي هذه الأموال، لكن مصادر رسمية ليبية ذكرت أن هناك ملفاً للتسوية الودية مع سويسرا لإسترداد الأموال.
أما فيما يخص تونس، يوجد حوالي 555 مليون فرنك سويسري أودعت لمسؤولين تونسيين مقربين من الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، في بنوك سويسرا. وسارعت سويسرا بعد أقل من أسبوع من الإطاحة بـ “بن علي” في 19 كانون الثاني 2011 الى تجميد أصول هذه الأموال. ولم تكتفِ سويسرا بما سبق، بل أعدت قائمة بأسماء الشخصيات المقربة من بن علي، وأخضعت أموالهم لعملية تجميد، ومما أخذ على الحكومة التونسية في إجراءاتها غير الجدية لاسترداد الأموال أنها قدمت قائمة بعدد أقل من أسماء القائمة السويسرية، مما دفع سويسرا لتسوية الأمر بتكيّف قائمتها مع القائمة التونسية، لذلك وجهت الحكومة السويسرية لتونس كما مصر مطالبَ باتخاذ الإجراءات القانونية المتبادَلة للتمكن من استرداد الأموال غير المشروعة.
وبالنسبة لمصر، فقد أشار الكاتب محمد جمال في مقال له نشرته الهافينغتون بوست تحت عنوان: “هل تعودُ أموالُ مصر المهرَّبة في سويسرا بعدَ الحكم النّهائي على مبارك ونجليه؟” الى أن البنوك السويسرية تحتفظ بـ 690 مليون فرنك سويسري من أموالها التي هُربت بواسطة مسؤولين سابقين في نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك. هذه الأموال المجمدة منذ 11 شباط 2011. وكان قد مُدّد قرار تجميدها ثلاث سنوات أخرى حتى 2017، في محاولة لحث الحكومة المصرية على تقديم ما يتطلبه القانون السويسري، إذ تنتظر سويسرا من مصر إجراءات لمصادرة الأموال المجمدة، أهمها الحكم النهائي على مبارك ومسؤولي نظامه، وإثبات أن هذه الأموال منهوبةٌ من الحق العام المصري.
إذن، لا شك أن الأمور أخذت عدداً من السنوات لتصل الى ما هو جديد. والحقيقة أنها بدأت عام 2013، حين بدأ الضغط الأمريكي والأوروبي على سويسرا. فيما تُطرح العديد من الأسئلة حول هذا التغيير. وهنا فإن أهم تلك الأسئلة تنطلق من الأهداف خلف هذا الطرح. فهل بدأ زمن الفضائح المالية السياسية الكبرى؟